أدب

محمود حسن زناتيّ:  الضلع الثالث في مثلث العبقرية

هو أقلُّ من صاحبيه شهرةً ، وأقلُّ تأليفًا وكتابةً ، وأقصرُ منهما عمرًا ، وأسبقُ إلى رحابِ ربّه ؛ لكنّه ليس أدنى منهما علمًا بالنحو واللغة والأدب العربيّ القديم ؛ فقد ولد في سنة 1898 ، وتوفّي في سنة 1949 ! أمّا صاحباه فهما طه حسين ( 1889 – 1973 ) ، وأحمد حسن الزّيّات ( 1885 – 1968 ) ؛ وقد ألّف الأزهرُ بينهم ، وهم في عهد الصبا الأوّل ؛ فقد جاء طه من مغاغة بالمنيا ، وأتى أحمد من كفر دميرة القديم بالدقهليّة ، أمّا محمود فقد جاء من بني سويف ؛ وكلّهم ، في النشأة ، من قُرى مصر ، وكلّهم قد تعلّم ، أوّل ما تعلّم ، العربيّةَ ، وحفِظَ القرآنَ ، أو أشياءَ منه ، في كُتّابِ القرية ، ثمّ اتخذ ، من بعدُ ، طريقه إلى الأزهر !

التقوا في الأزهر ، في حلقات درسه ، في درسَي الأدب والنحو ؛ فاتّصلت بينهم صحبةٌ وثيقة متينة ؛ فيها الإقبالُ على العلم ، والأخذُ بأسبابه ، وفيها التشاغلُ باللهو والعبث ؛ ممّا يقع لفتيةٍ ناشئين قليلي الرضا عمّا يُحيط بهم ؛ وقد صوّر ذلك طه حسين في ” الأيّام ” أتمَّ تصوير إذ قال : ” وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ ، ثمّ يذهبون إلى دار الكتب فيقرؤون فيها الأدبَ القديم ، ثمّ يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممرّ بين الإدارةِ والرواق العبّاسيّ ؛ يتحدّثون عن شيخهم ، وعمّا قرؤوا في دار الكتب ، ويعبثونَ بشيوخِهم الآخرين ، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلّاب .” وشيخُهم هذا الذي يُكْبِرون ، ولا تجفُّ ألسنتُهم بالثناء عليه هو سيّدُ بنُ عليّ المرصفيّ ( – 1931 ) صاحبُ درس الأدب في الأزهر على أيّامهم تلك .

ويصوّر الزَّيّات شيئًا من ذلك فيقول : ” كنّا ثلاثةً ألّفتْ بيننا وحدةُ الطبع والهوى والسنّ ؛ فالطبع مرحٌ فكِه ، والهوى درسُ الأدب وقرض الشعر ، والسنُّ فتيّةٌ لا تجاوز السادسةَ عشرةَ . وقد كان طه قاعدةَ المثلّث ، ومحمود وأنا ضلعيه القائمتين .”

وقد كان زناتيّ غزيرَ الرواية كثيرَ الحفظ ؛ يروي القصائد ، والمقطّعات ، ويروي الأخبار القديمة والنوادر ، فيُسمع صاحبيه فنونًا من القول ، وكان طلقَ اللسان ، عذبَ الحديث ، يَزينُ بلسانه ما يروي ؛ فإذا القديمُ جديد طريّ يهفو إليه السمع .

وإذ ينقضي عهدُ الأزهر تفترقُ بهم السبل ، فيسلكُ كلٌّ منهم ما قُدّر له ؛ فيتّخذ طه طريقَ الجامعة ، وما يتّصل به ويُفضي إليه ، ويجعل الزّيّات غايتَه في التعليم ، ثمّ في الصحافة الأدبيّة ؛ أمّا زناتيّ فيعمل مصحّحًا بالمطبعة الأميريّة ، ثمّ أمينَ مكتبة ، ثمّ ينتقل إلى ديوان وزارة الأوقاف ؛ غير أنّ ما بينهم ظلّ موصولًا قائمًا ؛ فلقد أعاد طه حسين حديثَ الصحبة والأُلفة في : ” من لغو الصيف إلى جدّ الشتاء ” ، وفي مواضع أخرى ، ووقف الزّيّاتُ عندها في أطرافٍ من فصوله التي كان ينشرها في مجلّته ” الرسالة ” . وكلاهما إذ يقف عندها ؛ فإنّما يستعيد بها عهدًا قديمًا لا يفتأ يتحنّنُ إليه .

وحين فرَغ طه حسين من ترجمة كتاب أرسطوطاليس : ” نظام الأثينيين ” ، في سنة 1921 ، ووضعَ له مقدّمةً مستفيضة ؛ ختمها بشكر صاحبه زناتيّ فقال : ” ولستُ أريدُ أن أختمَ هذه المقدّمة الطويلة من غير أن أقدّمَ أجملَ الشكر ، وأطيبَ الثناء إلى صديقِ صباي وشبابي محمود حسن زناتيّ ؛ فأنا مدينٌ له بظهور كتبي ؛ لأنّه هو الذي أخذَ على نفسه بتصحيحِها ومراجعتها قبلَ الطبعِ وفي أثنائه . وليس ذلك بالشيء القليل ، لا سيّما إذا لوحظ أنّي عن كلِّ هذا عاجزٌ كلَّ العجز ، وقاصرٌ كلَّ القصور .”

وإذا كان طه حسين والزّيّات قد بلغا مبلغَ الطبقة الأولى في الأدب والصحافة والمجتمع ، فإنّ صاحبهما زناتيّ ظلّ في حيّز ضيّق ، منصرفًا إلى الكتب القديمة يُعنى بها ، ويضبط نصوصَها حين تنشرها المطبعة الأميريّة ، وظلّ ، من بعدُ ، في إطار من وظيفةٍ حكوميّة ليست بذات شأن حتّى تخلّى عنها وانصرف إلى شأنه . ولعلّ طلاقةَ اللسان ، وحسنَ الحديث جعلاه ، بنحوٍ ما ، يكتفي بهما ، ويجد فيهما عوضًا من المواظبة على الكتابة والتأليف .

لم يُعنَ زناتيّ بالتأليف ، ووضعِ الكتب ونشرها حتّى أُخريات حياته ، ثمّ بدا له ، حين تخفّفَ من أعباء الوظيفة ، أن يستدركَ ما فاته فأقدم على تحقيق : ” الفصول والغايات ” ، كتابِ أبي العلاء المعرّي ، ونشر الجزء الأوّل منه في سنة 1938 ، نشرًا صحيحًا محكمًا ، وهو كلّ ما بقي من كتاب أبي العلاء . وأراد أن يجعلَ صفحةَ الإهداء إشادةً بأولي الفضل الذين أحبّهم ، وانتفع بعلمهم ، وكان لهم أثر في تقويمه فقال : ” إلى أرواح المرحومين : أبي العلاء المعرّي مؤلّفِ الكتاب ، الشيخِ حسن زناتيّ والدي وأوّلِ أستاذ لي ، أحمد تيمور باشا صاحبِ نسخة الأصل ، الإمامِ الحكيم محمّد عبده باعثِ النهضة العلميّة في الشرق ، الإمامِ اللغويّ محمّد محمود بن التلاميد التركزيّ الشنقيطيّ أستاذي ، علّامةِ مصر وأستاذ أدبائها سيّد بن عليّ المرصفيّ أستاذي ” . ولا ريب في أنّ ما انطوى عليه هذا الإهداء الرفيع ينبئُ عن نفسٍ كريمةٍ ، تعرف الفضلَ ، وتُقِرُّ به ، وتُشيد بأصحابه ؛ فلا تنسى ذا فضل ما تقادمَ عهد ! وقد عرف فيه أصحابُه أنّه يحفظُ شعرَ أستاذهِ ابن التلاميد التُّركزيّ الشَّنقيطيّ ( 1829 – 1904 ) ، كلَّه ، وأنّه لا يُخلي مجلسَه من إنشاده ، مثلما عرفوا فيه ذكرَه شيخَه سيّد بن عليّ المرصفيّ ، والثناءَ عليه في كلّ مجلس !

وأراد زناتيّ أن يتّصلَ ما بينه وبين التحقيقِ والنشر ، وأن يكتبَ ويؤلّف ؛ لكنّه مَرِض ، واشتدّ به المرَض ، وثقلت به الحياة ، وعزَّ عليه البُرء ؛ فلقي ربَّه في شهر كانون الأوّل من سنة 1949 . ورثاه صاحباه فقد قال الزّيّاتُ وهو أسيانُ ألِمٌ : ” مات محمود على فراشٍ غيرِ دافئ ولا وثير ؛ لأنّه كان وحيدَ أبويه ، وحيد جدّيه ، فلم يكن له من عُصبته أخٌ ولا عمٌّ ، وكان الله قد جعله عقيمًا فلم يكن له من صُلبه ابن ولا بنت .” وكتب طه يرثيه ، ويرثي به عهدًا قديمًا لن يعود ، وقال الزّيّات ، فيه ، مخاطبًا طه : ” لقد ابتدأنا في الرواق العبّاسيّ ومعنا الشبابُ والأملُ ومحمودُ ، ثمّ انتهينا إلى مجمع فؤاد ومعنا الشيخوخةُ والذكرى ولا شيء .”

ثمّ أتت من دونه السنون ، وتعاقبت الأجيالٌ ، ودُفعت ذكراه إلى ناحيةٍ قصيّة ؛ لكنّه ، بخصاله كلِّها ، جديرٌ بالذكر والإشادة ؛ إنّ في ذكرِ زناتيّ وصاحبيه لصفحةً مضيئةً من صفحات الأدب العربيّ في القرن العشرين …!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى