قبلَ بضعةِ أشهر، كنتُ معتادًا التردد للمزارعِ على أطراف المدينةِ قُبيلَ الفجر، وكنتُ أُطيلُ الجلوسَ فيها أستجِمُ بذلك، فلربما جلستُ السَّاعة والساعتين محتميًّا من المطر بشجرة أو بعريشةٍ متهالكة هنا أو هناك، وقد حفظت المنطقة ومعالمها واتخذتُ لي مجلسًا عندَ سورٍ من أسوارِها أجلسُ إليه دومًا، حتى يصيبني الملال، أنهض ماشيًا في الظلماء تحت جنحِ الليل، ولربما تساقط الثلج أو زخَّ المطرُ وأنا أتجولُ فلا يروعني شيء، وكُنتُ بينما أمشي أترَقَبُ نهاياتِ الأزقةِ محلولكةِ الظلام فأتوجهُ إليها، وتستوقفني الشجيرات الصغيرات على أطراف الأزقة، وركام الحطب، والأسطح القديمة، تستوقفني أدقُ التفاصيل فأقفُ أتأملها وهي غارقةٌ في الظلام، لا يروعني أي شيء.
مرةً من المرات.. في آخر الزقاق الأسودِ، وقبلَ التفاتي عائدًا، استوقفتني شجرة ذات ورد، أخذتُ أُقَلِّب بصري فيها، تمتدُّ يدي من وردةٍ لأُخرى.. حسنًا، لأمرٍ ما، يشعرُ الإنسان دومًا بالعيونِ التي تتجهُ إليه، رفعتُ رأسي لأعلى، وإذ بعجوزٍ تلتحفُ الليل وظلامَ نافذتها ترقبني، حييتُها برأسي، ابتسمتُ.. وتركتُ الوردَ، ومضيت، أَقولُ لنفسي: “وجودكَ هنا مشبوه، أنتَ ترتكبُ خطأً!” نعم لربما، فمثلُ هذه المنطقة على اتساع رقعتها أهلها قليل، أكادُ أجزِمُ أنهم يعرفون بعضهم بعضًا معرفةً جيدة، كأنهم يعيشونَ حياتهم الاجتماعية القرن الماضي، حياة هادئة، وادعة، عائلة واحدة كبيرة، متى جاعَ الفردُ، فالجميعُ جوعى، ومتى شبِع، شبِعوا، يتدثرون بالبرد سويًّا، كذلك يبردون سويًّا، هكذا يعيشون.. أَحسَبُ ذلك. لكنما أراها تبقى حياة موحِشة، ربما لأني أكرهُ اليوم الذي ينتهي بمجردِ غروب الشمس! على النَّاسِ أن تعيشَ مع الليل كما تعيشُ مع النهار، لكنما قضاءُ الله لليل أن يأنسَ بالقِلة، ويستوحشَ من الجموعِ والكثرة، أنا لا أكاد أخلو بالليل ساعة إلا وأستردُ روحي آنسُ معها، ويطيبُ لنا الحديث ويحلوُ السهر ولا أخافُ إلا من الوقتِ أن يمضي، لكنما متى ما ضجَّ الليلُ بالحضور، وعلتِ الأصواتُ وتداخل بعضها ببعض، وجدتني أنفُرُ من نفسي حتى يُخيَّلُ إليَّ أني وإياها أعداء يُناكِفُ بعضنا الآخر، وفي غمرةِ حربنا تُذَكِرني بأيامنا الخوالي فأصدُّ عنها، تصرُخ فيَّ أن قُم بنا نطمئنُ لوحدنا عنهم، فأصُدُّ عنها.. كذلِكَ شأنُ من اِلْتهى بالطِّين عن النُّور، إذ لا ضجيج عندَ أهل الأرواح.. أولئك الذين خالطَ الحُبُّ عظامهم فهذَّبَ طِباعَهُم وزيَّنَ نُفوسَهم وأَعلا خَلائِقَهُم، أُولئِكَ أجلسُ إليهم بنفسي وكياني كله فلا ينفرُ مني شيء ولا يقيمني عنهم أمرٌ ولا حاجة، لكنما الشأنُ كل الشأن بجلساتِ العابرين ممن لا حياةَ لهم إلا بالصخبِ، بالصخبِ وحسب، هؤلاءِ وإن أحببتُهُم تأبى نفسي إلا أن تصدَّ عنهم!
كُنتُ أقولُ في زياراتي للأزقة والوقوف بشجيرات الطريق، كُنتُ كذلك أقِفُ أتأملُ البيوتَ المهجورة مُكفهرة الجدران محطَّمَةَ الأسوار، السورُ بالجِدار، وأوراقُ الأشجار تحيطُ بالسور، سدٌ، ثُم سدٌ، ثم سد! ثُم بابٌ لا طُرَّاق له..
كثيرًا ما يكونُ بابُ المزرعةِ مفتوحًا أو لربما لا بابَ لها، فأخطو فيها خطوة أو اثنتين قبلَ أن تأخذني الرهبةُ فأقِف أو أرتَدُ لا شعوريًّا للوراء خطوة، أُقَلِبُ عينيَّ بين الشجر والمَدر، أُحِبُ التفافَ الأول على الثاني.. أحسبُ أنه أنهَكه وكاد يُطبِقُ على أنفاسِه.. إن لم يكُن خَنقَه بالفعل، الأشجارُ دومًا ما تنتَهِكُ حرمة الليل السَّاكن.. الشجرُ يُعمِلُ في الحجرِ أغصانه في الليالي الدهماء، نحن لم نر ولو لمرةٍ واحدة كيفَ أن شجرةً تعتصِرُ السورَ وتلتَفُ على حائطِ المنزلِ إلى أن تبتلِعه، نحن دومًا ما تقتصِرُ رؤيتنا على النتيجة الأخيرة لعملِ الشجرة، ليبقى الحجرُ متظاهرًا بالقوة، معتدًّا بصلابته، ولتبقى الشجرةُ متجبِرةً فوقه تُعلِنُ انتصارها يومًا بعد يوم، فلا الحجرُ خلَّصَ نفسه، ولا الشجرةُ أَرختْ عنه، ولو أنها ماتت لبقيتْ آثارها كما هي فوقَه؛ أتأمَّلُ ضربَ الجذور وأصل الجذوعِ ونبتَ الفروع.. أُنعِمُ في الورق، أحيانًا أنزِلُ أُجَمِّعُ أوراقَ الشجر بينّ يدي، وبعدُ أُرتِبها وأنشُقُها، أقول.. مِن العظيم حقاً أن تحتوي الخريفَ كله بين يديك! أن تستنشقَ الخريف دفعةً واحدة!
أُنهي جولاتي بين المزارع، أحيانًا تعتريني الوحشةُ فلربما هاتفتُ صديقًا أو تذكرتُ محادثةَ أحدهم، وعلى مرِّ الطريق، يسيرُ معي الكثير والكثير من الناس.. هذا وهذا وتلك والأخرى وغيرهم، يسيرونَ معي أفرادًا وجماعات، كلُّ بحسبِ منزلته، وعلّي ألتفِتُ آنَسُ بالحبيب الذي قطعَ وحشةَ الطريق معي، نعم، الخيالُ يتسِعُ للجميع، ومتى ما أحببتُ أحدًا أحببتُ لو أنه كان معي فيقفُ ما أقِفُ عليه، وينظرُ ما أنظرُ إليه، بل ويشعرُ بما أشعر به! ولأنَّ هذا عسيرٌ حصوله، يُصَّوِرُ لي خيالي الكثير.. بأدقِ التفاصيل، أنا أعيشُ مراتٍ ومرات في الساعةِ الواحدة!
ذات ليلةٍ وقد اقتربت الساعة من الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، كُنت قد جلستُ مجلسي أقرأُ كتابًا أو أرتل آية أو أدندِن شعرًا.. أو أيًّا يكن، كنت جالسًا فتململتُ وقمت أتمشى في عمق الزقاق الذي يتوسطُ المزرعتيْن، وورائهما البيوت القديمة المتهالكة التي خلت من سُكّانِها وعُمّارِها، فرحت أتمشى ذهابًا وإيابًا أقلبُ بصري في ديارٍ خلت من أهلها، من ضحكهم، ولعبهم، وبكائهم، وبؤسهم.. خلت منهم وما تركوا بها منهم شيء!
في نهاية الزُّقاقِ قبل أن يتَّسع مع الطريق: بيتٌ صغيرٌ شبابيك طابِقِه الأرضي من الزجاج، والبقية من خشب.. ويظهر لي من الشبابيك السُّفلى أشياء قديمات تراكمت مراكمةً خلفها.. عشوائياتٌ كثيرة لا يتبينُ للنَّاظر ما هي إلا بعد إنعامٍ وتدقيق؛ بابُ الدَّارِ يكادُ يكون بين شباكيْنِ من شبابيك الدَّار المطلة على الزُّقاق، باب حديدٍ مصمت،
بينما أتمشى إذ خُيِّلَ إليّ صوت قدمٍ على شيءٍ من حصى الطريق.. فتوجستُ والتفتُ بهدوءٍ تشوبه ريبةٌ وهيبةٌ وتطلُّع، فما وجدتُ أثرًا لرجلٍ ولا امرأة.. فأكملتُ مسيري، قبل أن أسمع بحقٍّ صريرَ بابِ الحديد.. فما حفلتُ بالأمر وأكملت مسيري.. فإذ بالصوتِ يتكرر، فالتفتُ.. فلا شيء مرةً أخرى!
فانقلبتُ عائدًا لمجلسي وقد خالط نفسي شعورٌ ما خالطها منذ زمنٍ بعيد بعيد جدًّا..
خالطها شيءٌ من خوف، إذ أني اعتدتُ على المزارع واعتادت عليّ، واعتدت على الليل واعتاد علي، وتالله لَكَم أسيرُ بين مزارعٍ ومقابرٍ في فلواتٍ فلا ينزعُ لقلبي شيءٌ إلا النَّزر اليسير من خواطر النَّفس.. ولا أحفل بهذه الخواطر عادة.. فالأمر طبيعي عندي وليس بعجيب!
ذهبت فقعدتُ على السور مكان ما اعتدتُ.. لكن ما مضت دقائق حتى وقفت مرةً أخرى، بلا سببٍ أذكره عدا التململ.. وقفت ساكناً مكاني أرقبُ قنفذاً اختفى بين الأعشاب والسور كأنما ما اقتنع بالشوك الذي يحميه ولا رأى فيه كفايةً وحرزًا.
وققتُ ثوان قبلَ أن أسمعَ صوتًا لا أقولُ عنه صوت صريرٍ لبابٍ فنقول إنها الرِّياح، ولا صوتٌ على حصى فأقولُ حيوانٌ ومَرّ، لا.. إنما فزعت من صوتٍ لا يكونُ إلا صوت امرأة تصرخُ صراخاً ما سمعت مثله قط! وأي امرأة هذه التي تصرخ في المزارع الخاوياتِ الخابيات الخاليات! وأي امرأة هذه التي يصلني صوتها قريبٌ بعيدٌ لا يُلتمسُ مصدرهُ إلا من صداه! وأي امرأة لا أميزُ منها صراخ استنجادٍ أم عصبية خوف أو فرح! فلا أدري؛ أأقول …!؟
ما كان الذي كان.. حتى أخذتُ أتدرجُ مشيًا عائدًا لشوارعِ المدينة الرئيسية، وكان لا بدَّ لي من تتبع الساقيةِ بجانب المزرعة التي تملأ العين يمنةً ويسرة، تلك التي تجاورها البيوت الباليات أيضًا.. مشيت مشيي الذي أمشيه عادةً فما أسرعت ولا أبطأتُ، وتناسيتُ أمر الحصى والباب والصرخة والمزارع كلها.. وما عدتُ إلا متلاهيًا متناسيًّا، وما وصلتُ مستهلَ الشَّارعِ الرئيسي حتى وقفتُ راسمًا ما حدث الليلة متذكرًا تفاصيله..
فتالله ما استجمعت الذكرى حتى قفَّ شعر رأسي وأحسستُ كما يحسُ المريض فجرَ شتاءٍ قارس.. فمشيتُ للمنزلِ تلكَ الليلة لا فكرة برأسي غير تلك الأصوات التي سمعت.. أحقًّا كانت!؟
وبقيتُ أيامًا ما عدتُ للحي ذاك ولا لمزارعه.. ولمّا رجعتُ رجعتُ من طريقٍ آخر.. لكنما لذات المجلس..
هذا؛ كان شيئًا من حديثِ الأشهر الماضية والزمان القديم، فقد انقطعتُ عمَّا كنتُ فيه زمنًا هجرتُ فيها المزارعَ والأزقَّة والشَّجر والمجالس، فما عدتُ أتردَّدُ بعدَ منتصفِ الليل على المنطقة لا لسببٍ بعينه، إنما أقدارٌ سائرة..
لكنما المُحِبُّ يعود، وحصل أن عُدت عصرَ يومٍ وإذ بصغيرةٍ تسيرُ وحيدةً مطمئنة.. يظهرُ أنها اعتادت طريقها فما عادت تنكره بشيء، كانت تسيرُ عكسَ اتجاهي، ويظهرُ أني لمحتها قبل أن تلمحني هي، إذ أنها نظرت إليَّ نظرَ المُرتابِ من المريب، وحقيقةً لم يكن مظهري مريبًا البتة! لا أظن ذلك.. لكنما وقد وجدت نفسها مع رجلٍ غريبٍ في الزقاق والزقاق خاوٍ مِن سِوانا، انطلقت تعدو! ما إن رأيتها كذلك حتى بلغَ مني العجبُ مبلغه، التفتُ إليها وقد صارت ورائي.. وكانت لا تزال تعدو إلى أن وصلت نهايةَ الزقاق، فتوقفت تستجمعُ من نفسِها ما تبعثر، ثُم تلتفِتُ إلي.. لتقع عيني حاملةُ الدهشة بعينها حاملة الرعب، فتستديرُ مرةً أُخرى.. تأخذُ اليمينَ وتهرب!
هكذا الناس، ما إن يطرُقهم غريبٌ عنهم، وجديد عليهم.. حتى ينتابهم الهلع، ويسيئون التصرف؛ فإلى أن يُولي الزمن بهم.. لربما التفتوا، ولربما استحسنوا ما رأوا، إلا أن الزمنَ لا يمهلهم يعودون، والفُرَصُ لا تتكرر..
أكملتُ المسير.. أخذتُ جولةً سريعة، وبعدُ هجرتُ المكان طويلاً إلى أن كان اليوم، فقلتُ لِأستجم، كان المطرُ غزيرًا، ونفسي منشرحة، والسَّاعة الثالثةَ بعدَ منتصفِ الليل.. ها نحنُ ذا، ليلة من ليالي الشتاء الماطِرة؛ إذًا.. خرجت، بدايةً لم أكن أعرِفُ أين أتجِه.. تمشيتُ إلى أن بلغتُ الشارع الرئيسي، بعدُ قلتُ أتجِه للحديقة، دخلتها.. وكان معي كأسُ شاي، بينما أشربُ والمطرُ يقوى تارة ويخفُ أُخرى، قلتُ لو أنك تتجه للمزارعِ تذكُرُ أيامك الخوالي.. أخذت تعبثُ بي الخواطر، إلى أن قبضتُ على المظلة، وباعدتُ بين الخطى متجهًا للمزارِع..!
قلتُ لنفسي: الآن كُلٌ حولَ مدفأتِه بين خِلانه وأهله وأنا ههنا أيما راءٍ يراني تدور بعقله ألفُ شبهة وشبهة.. أنا وقلبي، وكُلّ هذا الليل “ظُلماتٌ بعضها فوق بعض” لكنما لطالما أَرخى الله سِتره، فامشِ على بركةِ الله. أولُ الطريقِ بعدَ آخرِ بناءٍ مؤنس بين أشجارٍ عالية.. خلفَ الشجر على اليمين أرضٌ زراعية ممتدة، وعلى اليسارِ بيت صغيرٌ هدَّهُ القِدَم واحتضنه السواد، فمن يخطو ها هنا بدايةً بالكادِ يعرفُ موطئ قدمِه، تنعطفُ يسارًا ليبدأ صوتُ السواقي يُشنِّفُ أُذنك، الضباب كثيف، أخالُني أمشي مع الغيم، قطراتُ المطر جلَّت فأصبحَ لصوتِها ثقلٌ على أسقفِ الحديد مزعج، الإنارة تبدأ مع بداية الزقاق، صفراء كئيبة، شيئًا فشيئًا يكل الضوء عن اللحاق بك، ليتركك في الظلام إلا مِن أَثرِه، على كلٍ.. اتجهتُ لمجلسي “على حافة السور تحت الشجرة” ظهري لحائط عاري الشجر، ووجهي للعرائش الجافة في طرف الزقاق الصغير.. وصلت، نظرتُ حولي، وإذ بالمكان هذه المرة موحشٌ غاية الوحشة، اقتربت من السور، وقفت برهةً.. أبيتُ الجلوس لا لسبب، وأكملتُ المسير بجانب الساقية، وهنا.. كان الخوفُ كالسدى يُنسَجُ حول قلبي، وخيالي من أوهام نفسي وتصاويرها لا يمل! وأنا إن كان الأمرُ لنفسي؛ فأنا عنيد.. فرُحتُ أقِفُ تحت كُلِ ظلمة، وعند كل مهجور، ومع الكثير من الأصوات المتداخلة… كان الجو مهيبًا، وبدت الوحشةُ قاتلة..
أقول.. أَو أُفلِحُ لو هممتُ واصِفًا شيئًا مِن ذاك الطريق؟
الظلامُ يبتلعُ كلَّ شيء، ضوءٌ بعيد كئيبٌ أصفر في آخر الجادّة، على اليمين بناءٌ ذو طابقين، الثاني بنوافِذه الخشبية المتهالكة يلتهم شيئًا من سماءِ الشارع، فكأنهُ إذ تمشي تحته يهمُ ينقَضُّ عليك.. لِذا، وبحركة طبيعية، تأخذُ يسار الطريقِ، تلتفت، مبنى ذو حديقة صغيرة حوله، سور الحديقة مترٌ ونصفُ المتر.. الأغصان تسلَّقت، نثرت أوراقها، وبعدُ ماتت، لا باب للسور، المبنى ذو طابقين، أخشابُ شبابيكه تتشبثُ بشيءٍ من أمل، وتكادُ تسقُط، جدرانه تئنُ من وطأةِ الزمن، يتأوهُ السقفُ مع كلِ قطرة مطر، فيُرسِلُ خيوط الماءِ لآخِرِهِ منه للأرض فيكون لها خرير مزعج..
من الصعبِ ملاحظة تفاصيل أكثر، بالكادِ أرى.. والنَسيِجُ حولَ قلبي تمَّ واكتمل حتى أحاطَ به احاطة الكفنِ بالميت، وتصاويرُ نفسي تُنظُرُ إليَّ من شقوقِ الخشب وحفرِ الجدران، ما بقي إلا أن أكملَ باتجاه الضوء، مطاوعةً لنفسي على الأقل! لكن هيهات.. أنا أُطاوع!
أسوءُ ما في الظلامِ أنكَ لا تأمنُ ما يُخفيه، ولا تدري.. لربما خان الظلام هدوءه مرة!
صعب عليَّ أن أتخيَّل أن مجسدَ الظلامِ هذا كان مأوى لعائلة تأنسُ وتمرحُ فيه! على كُلٍ.. وقفتُ أتأملُ البيت بسورِه، هذه المرة.. أنا حقًّا أريدُ أن أكتب، ليسَ للمنظرِ وهيباته وحَسب، إنما أردتُ لو أُثبِتُ شيئًا، الإنسانُ لا يخاف.. “الإنسانُ يتوهم الخوف، ثم يخافُ مما يتوهم، ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم” ولأنَ الإنسان لا يأمنُ ما يأتي كما أنه لا يتأكدُ من حقائق ما مضى، فالإنسان يحترفُ صنعَ خوفه.. لا أحدَ يخاف، إنما بإبَرِ نفسه، وخيوطِ وهمه، شيئًا فشيئًا.. إلى أن يكتملَ النسيج؛ الإنسان هو مَن يصنعُ خوفه، وإلا فكلِ الذي نخاف.. غايةٌ في الطبيعية!
رائع جدا …..نسق الألفاظ يرسم لنا صورا …وينقل لنا عبق الأجواء…يرسم لنا تراتيل المطر….البرد ..الظلام…الشجر…الجدران ..النوافذ…الأصوات…
أبدعت يابني
زادك الله من فضل عطاءه
بهاء بهاء، وصفتَ كأني أسيرُ معك، حتى داخلني الخوف وهزتني الرهبة! أحسنت أحسنت.