أدب

مَناجلُ الدهر وحبر الأزل: رؤوسُ الملاحِم في الأدب

يصعبُ على المؤرخ والاجتماعي والمهتم بالشَّأن العلمي أو الثَّقافي باختلافِ مستوياته، أن يعزلَ الأدب عن السِّياق الذي نشأ فيه، وكذلك يصعبُ على الأديبِ غالبًا أن ينسلخ من جلدة بيئته فيكتب عن غيرها إلا في إطار محدود، حتى أن بعض أشكال الأدبِ لربما وسمت بالمرحلة لا بالقيمة والأسلوب الأدبيين المُضمنين فيها؛ كذا فانظر خبرَ الشعر بعد الثورة العباسية، فإن طال الجدل: أكان التباين بين الأموي والعباسي نتيجة الأحداث السياسية والاجتماعية أم غير ذلك، فانظر طبقة المتنبي وآدابها وقيّمها وقِس اضطرابَ الأولى على الأخيرة تفهم القصد، فإن أبيتَ فدع عنك ذلك وقارن الأدبَ العربي بداية القرن السابع عشر مع نهاية الثامن عشر، أو انظر الأدب الألماني قبل الثورة على الكنيسة وبعدها أو الأدبَ الفرنسي، قبل الثورة وبعدها، أو الأدب الروسي عند كل حكم، ترَ آن ذاك أثر التحولات السياسية والاجتماعية العامة على الأدب، وكذا أثر الأدب في الاجتماعيات والدين والسياسة؛ وهذا الشأن مطَّرِد على مرِّ التاريخ، فأنت ما تقرأ مآسي الأمم وأحداثها ذوات الأجراس في كتب التاريخ وحسب، وإنما تقرأها في الأدب بكلِّ ألوانه شعراً ونثراً، قَصًـّا ورواية، ولا شكَّ أن هذه مسلَّمةٌ لكل عاقل، فما الخوض في هذه أصلاً، إنما أبُثُكم حديث وَجِل… أما يعلم الناس، مَن اشتغلوا بالآداب وراموا ثمارها، أنَّ الخلود حكرٌ على الصحيح القويم، الشريف لفظه العزيز معناه، وإلا كان كلامُ القومِ وأدبهم مرذولاً يدوسه التاريخ لغيره..!؟ أمّا ارتاع أحد متأملي سنن الكون وما تفكَّر ذوو الشأن بمآل نزيفِ قلوبهم وسكبِ دموعهم؟ أما يغارُ أديب على صنعة روحه ونفسه وتضحيات قومه وزلازل أرضه وتقلُّبات حاله وعيش شعبه!

غزارة أحداث القرن المنصرمِ خلَّدت لنا جراح أجدادنا وآبائهم، فإذا تمثَّل الرجل اليوم ما وجدَ شريف لفظ إلا عند أولئك النفر، والحقيقة أنّي أستحيي من التغني بشعر الشعراء اليوم، وإذ أقول “شعراء” أقولها مجازاً لا على وجه الحقيقة.. إلا مَن رحم ربك!

عد بالذاكرةِ خمسة عشر قرنًا وتأمل نتاج كل قرن وهاتِ ما تستجديه مخازن الذاكرة فألقِه نُبيِّنه، ترَ أن القرون التي حفظ أصحابك اليوم أحداثها ومآسي أهلها وصراعاتها وحروبها الدامية ومجازرها الوحشية وقصص محبيهم وعامتهم وخاصتهم ومدبري أمرهم وأصحاب شأنهم قروناً عديدة وأياما معروفة ووقائع مشهورة، وغيرها ألقمها الدهرُ الحصى، فما يعرف شأنها إلا أرباب التَّخصص وهم قلةٌ لا يُعرفون، وما سمعنا بثأر حجر بن الحارث إلا بقصائد امرئ القيس، وما وصلتنا أخبار الغساسنة والمناذرة لولا مدائح علَّقها التاريخ على صدره، ومَن سيف الدولة لولا المتنبي، وأين دوي الدولة العباسية مِن هسيس الدولة المرينية، لا ومَن خلَّد أيام الرشيد؟ ومَن ذا أشاد بفتح عمورية…!؟ وعمّا قريب، مَن بات يسمع دماً فما يقول: “أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ  بأنَّ جراحَ الضحايا فمُ” ومن لم تذب كبده إن وقف على قبرِ محبوبةٍ يُحدِّثها: “مُدي إليَّ يداً، تُمدد إليكِ يدُ   لا بدَّ في العيشِ أو في الموتِ نتحِدُّ” ومَن مِنا ما شكى بقول شاعرِ العربِ الأكبر مستطيلاً متكبراً بحروف البيت كما فعلَ صاحبه أول مرة فقال: “إييهٍ عميدَ الدار شكوى صاحبٍ   طفحت لواعجه فناجى صاحبه” ومَن رجلٌ ما انتقم مِن أنثى فقال “إييهٍ عميدَ الدار كُلُ لئيمةٍ   لا بدَّ واجدةً لئيماً صاحِبا” ومَن عاقلٌ شاميٌ ما ناح بقول بدويِّ الجبل: “نُح ما تشاءُ على العراقِ فإنني بالشامِ نائح؛ واسفك دموعكَ إنها أخوات أدمُعيَ السوافِح” ومن إذا هاج ما قال:

ضمّي الأعاريب من بدو ومِن حَضرٍ

إنّي لألمـــحُ خلفَ الغيمِ طُوفانا

يــــــــــــا مَن يدلّ علينا في كتائبه

نَظــــارِ تطلع على الدُنيا سَرايانا

وأما وعِـزَّةِ الله فقد رأينا الطوفان، أيما رأي! لكن تعال فانظُر العصرَ الخائب الذي نعيشُ فيه، وهات اسرُد عليَّ ما خرَّجت لنا الثورة السورية -مثلاً- شعراً أو أدباً يحفظُ لنا أحداث هذه الثورة التي روت مآثر أبنائها وبناتها دماً وأطعمتها دماً حتى ضجَّت بالمآثر أفواه الزمان، فما وجدَ بعد ذلك شاعر بليغ جزِلُ القول بعيد غور المعنى ينقُل لنا مآثر القوم الذين هُم أنتم ونحن كباراً وصِغاراً.. ما نجدُ لليوم مَن رثى كما رثى التهامي ابنه، أو الجواهري أخاه، أو ابن الريب نفسه، أو بدوي الجبل بلده! وما رأينا وما عرفنا المعارك الدامية التي ذهب معها آلاف المجاهدين من أهل السُنة يُقتَلون ويَقتلون، ويرمون بأخف الأسلحة الترسانات والجحافل العالمية، والخنادق الغربية والشرقية التي اجتمعت عليهم، وينصبون مكائد الأرض التي تكادُ تدكُّ سلاحَ السماء! مَن منكم عرفَ أبياتاً كتبها شاعر معاصرٌ وفَّى فيها لبلده؟ ومَن عرف رواياتٍ أو مقالات رصينة جامعةً حُفظت فيها مآثر العلماء والآباء والمجاهدين، والطلبة والأكاديميين، والنساء المجاهدات، والنازِحات، والأرامل والثكالى، واللواتي أنشأنَ الأجيال دون أبٍ ولا أخ ولا عائلة…! أين جُهدُ الشعراء والأدباء في حملِ أمانة السماء للتاريخ؟

نعم، تمكَّن عندنا أدبُ السُجون، كُتبت بعضُ السير، نشرت الروايات والدواوين، لكن.. هل ستخلُد؟

أنا لا أجحد أسماء الشعراء اللامعة عند الناس، بيدَ أن سماء الشهرة ليست ذروة الأدب، وعادة التاريخ ألا يتساهل في معايير الشعر، والشعر الرديء، والروايات الباردة، سيعرِفها الناس إذا انطوت القرون معرفة النكات ليس إلا:

“وكم لأشرفِ خلق الله من شرفٍ

لم تبلغ الخلقُ منه عشرَ معشارِ”

أما أن نطمع في ملاحم خالدة، ومُعلّقات مبجلة، وكُتَّابٍ عالميين، فلا والله لا يكون ذلك والبضاعة مُزجاة…!

تفسد الحياة الاجتماعية والأدبية بالتحزّبِ والتعصُّبِ، وتكون المُخرجات آن ذاك شرسةً عدوانية، وهي وإن كانت كفيلةً بإخراجٍ أدبٍ حقيقي جَم، إلا أن كفة الخسارة ترجح آنذاك، لذا.. لا أقول اكتبوا على نمطٍ واحد، ولا أقول أن اتركوا مواقِعكم وانتهبوا الموقع الفلاني دون غيره أو الطريقة تلك دون الأخرى، فـ” لِكُلِ امرئٍ في قولةِ الشعر مذهبُ” وليَكُن الآن تجوّزاً مذهبُنا مذهب القائل: إنَّ الفضل في كُلِ أسلوبٍ أو طريقة للغة العالية، والمعنى المختار، والتركيب العربي السَّليم، وإلا لِيكُن الشعر عموديًّا أو شعر تفعيلة، وليكُن النثر رسائل، أو روايةً أو مقالاتٍ أو سيرًا ذاتية أو أي ضرب من ضروب الأدب، أخرِجوا ما استطعم، لكن جوّدوا المُخرَج، لا يكُن همكم جمهورًا محشورًا في تطبيقٍ أزرق وأحمر، واعلموا أنَّ للتاريخِ أقلامًا تكتبُ بماء البحر، وللسماء آذانًا تسمع بالسحابِ المُرسَل، وتعالى الدهرُ عن أن يحفظ ما حقُه الدفن والذم، لا التقريض والخلود! وليس المقام مقام تعريفٍ بآلات الأدب وطرائق سبكِه وتعلمه، وقد أبلى التعليم كل جديد في هذا الشَّأن، فالحجة قائمة والأعذار في غيابة القبر ما لاستنقاذها سبيل، فليعلم كل امرئ قدره، وإن اعتزل الشاعر والناثر والقاص العالمَ والنشرَ والمتابعين سنةً واثنتين ريثما يتقن الصَّنْعَة ويُحكِم المُخرَج لآتت العُزلةُ ثِمارها، ولا يحسبن أحدٌ أنَّ الأدبَ قائم به ينهدم إن استقال برهة من الزَّمن، ومَن يحكم على نفسه بالأعمال الأدبية الشاقة عامين ينبغ، كما أشار لذلك أستاذنا الرافعي جلل الله قدره، ومَن لم يدفن بتربة الخمول ما قامت له قائمة، كذلك قال العلماء من قبل، ويقولون؛ ألا فهل مِن مُنصت؟ ألا فهل مِن مُجيب!؟

هذه كلمة صادقة، من قلبٍ ما رضي ولن يرضى الدنايا لأهله وعشيرته، أنا أغبط العراق على الجواهري (1)، وأتعزّى ببدوي الجبل(2)، وأغبطُ اليمن على البردوني (3)، كما أغبطها على بُرَيْه (4)، ومتى ما فاخر بلد بأدبائه فاخرت بالأموات خجلاً من أدباء اليوم، وليعذرني السامعون.. وتنزّلوا لأخيكم وقارنوا ما تكتبونه بما كتبه الأقدمون، فإن لم تخجلوا مِن أنفسكم فاتركوا الآداب، أو اتركوا الانتساب لسورية…! أو اتركوا للتاريخ يحكم بيني وبينكم، فإن ما باد الركيك، وبقيت سطوة الجزل القويمِ عليكم، فلا أقام الله حرفاً لهذا القلمِ! فألا والله، ما أعرفُ أن مُحبيكم يُخلِّدون لكم الشعر! وما أعرف أن مئات آلاف المتابعين ههنا وهناك يُغنون عنكم، ولا أُصدِّق أن طباعة الدواوين وعدَّها وتوزيعها يُحيي ذكركم إن ما قام بذلك الشعر عن روحٍ تفلَّتُ من جنبات القصيدة، وتراكيب عربية لا عجمة بها! وألفاظٍ كالفرات عذوبةً، أو القلمون (5)  سطوة!

خِتامًا، مقصدُ الرسالة جلي، ومرادُ القول واضح، قيّدوا مآثركم، وثقوا تاريخكم، وارووا قصصكم وأشعاركم، وليكن ذلك كله سبك الذهب لا عجن الفخار!

الهوامش:

  1. شاعر العرب الأكبر، محمد بن مهدي الجواهري، عمَّر طويلاً، ولد 1899 في النجف، ودفن في مقبرة الغرباء في دمشق عام 1997 إذ وافته المنية فيها، كُتب على قبره: يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير. مقتبساً من قصيدته الذائعة التي قال فيها: “حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني    يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ” وهي قصيدة طويلة.
  2. بدوي الجبل، شاعر وسياسي سوري، يعد من أعلام الشعر في القرن العشرين، هضِم حقه وغمره التهميش من أبناء بلده ولغته، وهو مَن هو، وما حق مثله إلا أن يُعرَف وتدرَّس قصائده وتُشرح.
  3. البردوني، شاعر وناقد ومؤرخ وأديب ضليع متفنن، أوقدَ الله بصيرته إذ كفّ بصره، وقصائده رنانة تعرف البردوني في أبياتها لا يكاد يخفى على عارف به.
  4. أخصُّ أستاذي خالد بريه ههنا بالذكر غبطةً حقيقية لليمن على ما قدّمه لها في مؤلفاته، إذ كانت باكورة أعماله “اغتيال الربيع” مجموعة قصصية نثرت للعالم العربي حياة اليمني القابع في بؤرة الظلام الفار من سطوة الحرب والفقر، ومن ثُم كتب “حائط المبكى” مُخلِّداً فيه الإنسان اليمني بشتى حالاته، وقد لاقى الكتاب قبولاً غايةً في الحسن، وأتبع ذلك لاحقاً كتابه “مسوّدة المنفى” ليكون حديثاً شجياً عن المهمّشين والمُبعَدين، الذين حَكمت عليهم العادات والفقر والحرب فكانوا في أدنى سلالم اليمن؛ ويصدُر له عمّا قريب “رملة كنتُ جنينَ ركامِها” وهو تخليد عزَّ مثاله لمدينته: الحُديدَة، ويالله كَم تمنيت لو عندنا كاتب شاميٌ له ما لِـبريه من الوفاء، وله ما لقلمه من العذوبة!
  5. جبال القلمون، صخرية التضاريس، تقع شمال دمشق.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بورك يراعك… صدقت في كل حرف وكلمة ….لعل نداءك المحب لبلدك وشعبك يطرق مَسمَعاً ذو وفاء….كما قال أحدهم…فالصوت إن لم يلق أذنا ضاع في صمت الأفق…
    أحسن الله إليك وحفظك ورعاك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى