مَحَمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي ومُحُمد بن علي الشوكاني اليمني عالمان جليلان من ذوي الرؤى التجديدية من علماء العصر العثماني، ومن ذوي النفوذ السياسي في دولتيهما، جمع بينهما العلم والسياسة، وفرَّق بينهما العلم والسياسة.
أما العلم الذي جمع بينهما فهو علم ابن تيمية، أحد أكابر العلماء والمفكرين في العصر المملوكي.
وأما السياسة التي جمعتهما فهي التوجس خيفةً من دولة الخلافة العثمانية، فمحمد بن عبدالوهاب كان مرشد الدولة التميمية السعودية السلفية التي كانت ترى الدولة العثمانية غير شرعية بسبب رعايتها للأضرحة، ومُحُمد الشوكاني كان رئيس قُضاة الدولة القرشية الشيعية الزيدية القاسمية التي كانت ترى أن العثمانيين مغتصبون لحق آل البيت في الحكم، ومتمردون على الوصية الإلهية لآل علي بن أبي طالب بالإمامة، فكلا الدولتين كانتا تناصبان العداء للدولة العثمانية الواسعة وتتوجسان منها خيفة، فكانتا لهذا السبب متعاونتين ومتقاربتين سياسيا، وهذا التقارب السياسي عزّز من التقارب الفكري والعقدي بين الشوكاني وابن عبدالوهاب، وبموجبه رثى الشوكانيُ ابنَ عبدالوهاب عند موته بقصيدة مطلعها:
مُصابٌ دهى قلبي فأذكى غلائلي
وأصمى بسهمِ الافتجاعِ مقاتلي
وأما العِلْم الذي فرَّق بينهما فهو الفهم عن ابن تيمية، وخاصة في مسألة نواقض الإسلام، فإن الشوكاني آخر عمره كان أعمق في فهم ابن تيمية آخر عمره، ولا يتجرّا على تكفير أحد من أهل القبلة حتى انه تراجع عن تكفير ابن الفارض وابن العربي.
وأما السياسة التي فرّقت بينهما فهو التنافس بين الدولتين السعودية والقاسمية على حكم جزيرة العرب، فبعد ظهور المنافسين الأوربيين للدولة العثمانية انشغل العثمانيون بأمور كبيرة غفلت بسببها عن جزيرة العرب، ولم تَعُد تراقب منها إلا السواحل والحرمين الشريفين، ولهذا فقد تغيرت علاقة الدولتين -بعد زوال الخطر العثماني- من التعاون إلى المنافسة والعداء.
كانت الدولة التميمية السعودية الوهابية فتيةً ناشئة متطلعة إلى توحيد جزيرة العرب كافة تحت دولتها، وكانت الدولة القرشية الزيدية القاسمية متراجعة وخاصة بعد ضربات المقاومة القبلية ذات السردية الشافعية الصوفية التي وُجِّهت لها في جنوب وشرق اليمن.
فكان لهذا السياق السياسي دوره في مسألة الفهم عن ابن تيمية، وخاصة في مسألة الدماء ونواقض الإسلام، إذ من مقتضيات الدولة الناشئة الحروب والغزو، وكانت تحتاج إلى سردية دينية تبرر الحرب وما يتبعه من سفك الدماء والسيطرة على الأرض، وكانت الدولة القاسمية في حالة خوف من توسع الدولة السعودية، ولهذا تبنت سردية دينية تواجه بها السردية الوهابية التي وصلت إلى مكة وحضرموت، فأعاد الشوكاني قراءة ابن تيمية فلم يجد فيه ما وجده ابن عبدالوهاب وأبناؤه وأحفاده في مسألة التكفير والدماء ونواقض الإسلام، وهذا يلقي ضوءًا على حذف الشوكاني قصيدة رثاء ابن عبدالوهاب من ديوانه، وحذف ترجمته من كتاب البدر الطالع في تراجم ما بعد القرن السابع.
السلفيون المعاصرون -ولأسباب عاطفية عقدية- لا يستوعبون الخلاف بين ابن عبدالوهاب والشوكاني، وهم يتناسون أنهم أنفسهم حصلت لهم زلزلة فكرية في مسألة نواقض الإسلام برؤية محمد بن عبدالوهاب بعد أحداث ١١ سبتمبر، وبالمناسبة هناك تشابه سياقي كبير بين غزو الوهابيين لمكة سنة ١٢١٨هجرية ١٨٠٤م وغزوة ١١ سبتمبر سنة ٢٠٠١م، فإن العثمانيين بعد غزوة مكة لم يكتفوا بالغزو العسكري بجحافل إبراهيم باشا التي وصلت إلى الدرعية ودمرتها وأعدمت أميرها وعددا من رؤوس أسرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بل صاحبها حملة فكرية رهيبة ضد الوهابيين ألزمت بها كل الطوائف الإسلامية، فلم يكن أحد منهم بعد غزوة مكة ليجرؤ على مدح ابن عبدالوهاب أو الترجمة له.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر فإنه يحسن هنا ذكر ملكين من الدولتين استفادا من الدروس، واتسما بالحكمة والواقعية السياسية في التعامل مع العثمانيين ومع المعتقدات الدينية والواقع عموما:
أحدهما: الأمير تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثانية، فهذا الأمير أعاد الحسابات والمراجعات فوصل إلى قناعة أنه وأتباعه لا قِبَلَ لهم بمواجهة الدولة العثمانية وتكفيرها، فبدأ عملية مفاوضات سياسية معها اعترفت به زعيما للطائفة الوهابية وحاكما على نجد وحارسا لسواحل الخليج من الغزو الأجنبي، واعترف بها دولةً للخلافة الإسلامية.
وثانيهما: الإمام يحيى حميد الدين المتوكل الذي قاد المقاومة الزيدية ضد العثمانيين عندما عادوا إلى اليمن بعد سيطرة بريطانيا على عدن، وهذا الرجل كان صاحب علم متأثر بالشوكاني وفي أعماقه شك في الوصية الإلهية لآل علي بن أبي طالب بالحكم، وبعد تفكير عميق وصل إلى نفس قناعة الأمير تركي بن عبد الله، فوقّع مع العثمانيين صلح دعّان، وبموجبه اعترفت الدولة العثمانية به زعيما للطائفة الزيدية في هضبة اليمن، ومساندا لها في حرب البريطانيين، واعترف بها دولةً للخلافة الإسلامية.