أشتات

أزمة الجيل الجديد

جدلية الهوية بين المنفى والانتماء – سورية نموذجًا

شهد الجيل السوري الجديد تحولات وجودية عميقة إثر الحراك السياسي والاجتماعي الذي اجتاح البلاد مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالمأساة التي دفعت ملايين السوريين إلى النزوح واللجوء، لم تكن مجرد تحوّل جغرافي، بل حملت معها صدمات ثقافية ومعرفية ونفسية شكّلت هوية جيل بكامله في الخارج. في بيئات اللجوء، انفتح هؤلاء الشباب على ثقافات جديدة، تبنوا فيها مفاهيم الحرية، والعدالة، والمواطنة، ضمن أنظمة اجتماعية وسياسية تختلف جذريًا عن تلك التي عرفوها في وطنهم. ومع عودة بعضهم إلى سوريا بعد سنوات من الغربة، وجدوا أنفسهم أمام إشكالية مركّبة: كيف يمكن التوفيق بين هويتهم الجديدة التي تشكّلت في المنافي، والانتماء العميق إلى وطن يعاني من جراحه المفتوحة؟

إن الهوية، كما يراها أحمد زكريا الشامي في كتابه “الهوية الثقافية في المجتمع العربي”: “ليست ثابتة أو جامدة، بل هي عملية مستمرة من التفاعل بين الأفراد والمجتمع، وهي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع”. هذه الديناميكية هي ما يعكس الصراع الذي يعيشه الجيل السوري العائد من المهجر، حيث يتفاعل مع بيئته الأصلية في سياق ثقافي واجتماعي مختلف.

هذه الإشكالية ليست مجرد أزمة نفسية أو اجتماعية، بل تمثل في عمقها صراعًا فلسفيًا حول معنى الهوية، وحدود الانتماء، وآفاق التغيير، وهو ما يستدعي تفكيكًا علميًا لهذه الأزمة، ومحاولة تقديم رؤى بنّاءة للتعامل معها على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.

أولًا: تأصيل الإشكالية – الهوية كظاهرة ديناميكية

تُعد الهوية من المفاهيم المركزية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويكاد يجمع الباحثون على أنها ليست كيانًا ثابتًا أو جوهرًا أصيلًا لا يتغيّر، بل هي عملية مستمرة من التفاعل بين الفرد وبيئته الثقافية والاجتماعية والسياسية. ووفقًا لهذا الفهم، فإن ما يعيشه الجيل السوري العائد من الخارج هو نتيجة طبيعية لتحولات الهوية في سياق التهجير، حيث أُعيد تشكيل الانتماءات والمفاهيم والقيم ضمن بيئات جديدة.

لكن المعضلة تظهر عند محاولة إعادة دمج هؤلاء الأفراد في بيئة محلية تختلف في بنيتها الذهنية والسلوكية. فهل تُطلب منهم العودة إلى “النسخة القديمة” من الهوية؟ أم يُسمح لهم بالمساهمة في إعادة تعريف هذه الهوية على أسس أكثر شمولًا وانفتاحًا؟

والتحليل الذاتي التوضيح النواقل المسطحة علم النفس الإيجابي والوعي الذاتي. التحليل النفسي ، مفهوم العلاج النفسي. 1 أزمة الجيل الجديد

ثانيًا: المظاهر النفسية الاجتماعية للأزمة

تتمثل أزمة الهوية لدى هذا الجيل في عدة مظاهر قابلة للرصد:

1. الازدواجية الثقافية: حيث يعيش الشاب أو الشابة بين نمطين من القيم: تقليدي/محلي، وحديث/عالمي. هذه الازدواجية قد تؤدي إلى التوتر أو العزلة أو حتى الرفض من قبل المجتمع المحلي. 

2. التمزق القيمي: إذ يجد الفرد نفسه موزعًا بين قيم اكتسبها في المهجر، وأخرى تنتظره في المجتمع المحلي، ما قد يسبب حالة من الانفصال النفسي أو الاغتراب الداخلي. 

3. فقدان الجذور أو التمرد عليها: بعض الشباب قد يشعر أن المجتمع المحلي يرفض رؤيته الجديدة، فيلجأ إلى الانطواء أو إلى التمرد على ثقافته الأم. 

4. التنازع بين المسؤولية والتهميش: يشعر كثير من العائدين بالحاجة للمساهمة في إعادة بناء سوريا، لكنهم يصطدمون بواقع يهمّشهم إما بسبب اختلاف لغتهم، أو أفكارهم، أو مواقفهم السياسية. 

5. فقدان المرجعية: إذ يفقد الفرد الشعور بانتمائه إلى مرجعية فكرية أو مجتمعية مستقرة، فيجد نفسه بين عالمين لا ينتمي تمامًا لأي منهما، مما يخلق مشاعر الضياع أو الحنين المزمن. 

6. التردد في الانخراط: الخوف من عدم التقبل الاجتماعي قد يمنع الكثيرين من الإسهام في إعادة بناء المجتمع.

ويرى الدكتور محمد قطب في كتابه “منهج التربية الإسلامية” في مثل هذه التحولات في سياق التربية أنَّ المعوَّل على داخلية النفس البشرية فيقول: “ليست التربية الإسلامية قائمة على الإكراه، بل على غرس القيم في القلب، حتى تتحول إلى طاقة دافعة نحو الصلاح لا تُراقب من الخارج فقط، بل تنبع من الضمير.” وهذا يشير إلى أن علاج الازدواجية يبدأ من الداخل، من إعادة بناء الذات المسلمة التي تستند إلى وعي عميق بالهوية لا إلى شعارات سطحية.

DALL·E 2024 03 17 19.36.06 Create an image that represents The Conflict within the University blending light and dark colors to create a balanced medium color palette that co 1 أزمة الجيل الجديد

ثالثًا: مقاربة الحل – نحو نموذج للهوية التفاعلية

إن تجاوز هذه الأزمة لا يمكن أن يتم من خلال فرض العودة إلى أنماط ثقافية سابقة، ولا من خلال استنساخ التجارب الغربية في سياق محلي مختلف. بل المطلوب هو بناء نموذج للهوية التفاعلية، يقوم على عناصر التوازن التالية:

1. مأسسة التعليم القيمي المتعدد الأبعاد: لا بد من تجديد المناهج التعليمية بما يعزز فهمًا تعدديًا للهوية السورية، باعتبارها مركّبًا حضاريًا من الإسلام والعروبة والانفتاح على الحداثة، دون تقاطع أو تناقض بين هذه المكونات. 

2. التربية الذاتية وبناء الضمير: كما يؤكد الدكتور محمد قطب:”القانون قد يكفّ الأيدي عن الشر، لكنه لا يدفعها إلى الخير. الذي يدفع إلى الخير هو الضمير الحيّ المتشبع بالإيمان.” ومن هنا تأتي أهمية بناء شخصية مؤمنة حيوية، قادرة على التفاعل مع متغيرات الحياة دون أن تفقد مرجعيتها الإسلامية 

3. تعزيز الحوارات المجتمعية العابرة للأجيال: من الضروري خلق فضاءات للحوار بين الجيل الجديد العائد والأجيال المقيمة، يكون هدفها التفاهم والتكامل لا التنازع أو الإقصاء. يمكن أن تلعب المؤسسات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني دورًا كبيرًا في هذا الجانب. 

4. تشجيع المشاركة الفاعلة في التنمية: إن تمكين الشباب من الانخراط في مشاريع تنموية وريادية، هو السبيل الأنجع لتحويل مشاعر الانتماء إلى أفعال ملموسة تعيد الربط بين الهوية والمكان. 

5. إعادة تعريف المواطنة السورية: الهوية ليست مجرد انتماء عاطفي، بل يجب أن تتجلى في مواطنة نشطة تقوم على الحقوق والواجبات. ويحتاج الجيل الجديد إلى إطار قانوني واجتماعي يعترف بتعدديته ويمكّنه من التعبير عنها. 

6. إبراز نماذج ناجحة للدمج الثقافي: سرد قصص النجاح لشباب عادوا ونجحوا في التوفيق بين تجربتهم الخارجية وواقعهم المحلي، يمكن أن يشكّل دافعًا نفسيًا واجتماعيًا لاحتواء الأزمة وتجاوزها..

أزمة الجيل الجديد

من الأزمة إلى الفرصة

إن ما يُسمى “أزمة الهوية” لدى الجيل السوري الجديد العائد من المهجر، ليس بالضرورة مأزقًا ينبغي الخروج منه، بل يمكن اعتباره لحظة تاريخية تفتح الباب لإعادة التفكير الجذري في معنى الانتماء ومكونات الهوية الوطنية. هذه اللحظة قد تكون بوابة لإحداث قفزة نوعية في الوعي الجمعي السوري، حيث تنتقل الهوية من كونها إطارًا تقليديًا ثابتًا إلى فضاء تفاعلي يتسع للحداثة دون أن يتنكر للأصالة.

إن الجيل الجديد يملك أدوات معرفية وتجريبية وخبرات عالمية نادرة، وقدرته على التأثير في إعادة بناء سوريا لا تعتمد فقط على حماسه، بل على مدى استجابة المجتمع والدولة له بوصفه شريكًا فاعلًا في صياغة المستقبل.

ختامًا، لسنا أمام أزمة هوية بقدر ما نحن أمام فرصة حضارية لصياغة هوية جديدة لسوريا، تتسم بالمرونة والتعدد والإنسانية، وتكون قادرة على احتواء تنوع أبنائها وتوحيدهم في مشروع وطني جامع يتجاوز جراح الماضي ويؤسس لمستقبل مزدهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى