أشتات

أهل غزة… يحررون العالم

حين نتأمل ما حدث ويحدث في غزة بكل ما فيه من وجعٍ وصمود، ندرك أن معركة أهل غزة ليست معركة حدود جغرافية، بل هي معركة قيمٍ إنسانية وحضارية، إنهم لا يقاتلون من أجل شبر أرضٍ فحسب، بل من أجل تحرير الوعي البشري من هيمنة مشروعٍ استعماريٍّ عنصريٍّ يمارس أبشع أشكال الاضطهاد والسيطرة، ويسعى إلى إخضاع العالم لهيمنته الأخلاقية والسياسية والإعلامية.

لقد تحوّل جهاد أهل غزة ونضالهم مع مرور الأيام، من قضية إقليمية إلى رمزٍ عالميّ للمقاومة ضد الظلم والفاشية، فأهل غزة اليوم لا يدافعون عن أرضهم فقط، بل عن إنسانية الإنسان في كل مكان، وعندما يُصرّون على البقاء في أرضهم رغم القتل والجوع والحصار، فإنهم بذلك يفضحون زيف الادعاءات التي حاولت الصهيونية ترويجها للعالم، ويكشفون الوجه الحقيقي لنظامٍ قائمٍ على الإبادة والوحشية والتمييز العنصري والتطهير العرقي.

والحقيقة أن المشروع الصهيوني لم يكن يوماً شأناً فلسطينياً داخلياً؛ بل كان ولا يزال مشروعاً استعمارياً عابراً للحدود، مدعوماً من قوى كبرى سعت لفرضه كأداة سيطرة في قلب الأمة العربية، وكسيفٍ مصلتٍ على الشرق الأوسط، وحين يتصدى أهل غزة لهذا المشروع فهم يصدّون عن المنطقة بل عن البشرية جمعاء خطر منظومةٍ فكرية تُمجّد القوة وتُشيطن الضحية وتقنن الاحتلال باسم الأمن والسلام، ومن هنا فإن هذه المقاومة المباركة، بما تحمله من إيمانٍ وعدلٍ وكرامة، تمثل الضدّ النوعي لهذا المشروع الظلامي، وتعيد للإنسانية توازنها الأخلاقي الذي حاولت الصهيونية تقويضه.

لقد أصبح أهل غزة بمقاومتهم مرآةً يرى فيها العالم قبح الصهيونية، وزيف السياسات الغربية التي تبرر القتل والاحتلال. إنهم اليوم خط الدفاع الأول عن كرامة الإنسان الحر، وأملٌ لكل المقهورين والمستضعفين في أن الحق لا يُقهر مهما طال الأمد، وهم بهذا المعنى يحررون الإنسان قبل أن يحرروا المكان، فالتحرير الحقيقي لا يكون بالجغرافيا وحدها، بل بتحرير الوعي. لقد استطاع أهل غزة بصمودهم ونضالهم تحرير الوعي العالمي من سردية صهيونيةٍ استبدّت لعقودٍ بالإعلام والسياسة والثقافة، وهذا لعمري هو أكبر المكاسب المعنوية التي حققتها المقاومة، حتى باتت شعوب العالم اليوم أكثر وعياً بخطورة الصهيونية، وأكثر نبذاً لها، ولا أدل على ذلك من هذه المظاهرات التي تشهدها عواصم ومدن أوروبية عديدة تطالب بوقف حرب الإبادة ضد أهل غزة، وتعكس الغضب الدولي المتزايد تجاه الوحشية الصهيونية، لقد اهتزّ الضمير الأوروبي بعد أن وجد نفسه أمام تناقضٍ صارخٍ بين قيمه المعلنة ومواقفه المتواطئة، فكيف لأوروبا التي تتغنّى بحقوق الإنسان أن تصمت أمام هذا الكمّ من الجرائم؟ وكيف لعواصم الثقافة والحرية أن تبرّر قصف المستشفيات والمدارس والمخيمات؟

لقد كسبت المقاومة معركة الوعي، وهي المعركة الأعمق والأصعب، ومع كل يومٍ يمرّ تتساقط الأكاذيب التي نسجتها الدعاية الصهيونية بخيوط المال والنفوذ الإعلامي، وتعلو الحقيقة بصوتٍ إنسانيّ لا يمكن إسكاتُه، ولقد أحيا صمود أهل غزة ضمير العالم الغربي وأعاد تعريف مفاهيم العدالة والمقاومة، ومن المفارقة أن المشروع الصهيوني الذي أراد أن يظهر نفسه كرمز للنجاة، أصبح رمزاً للوحشية والعنصرية، بينما صارت غزة رمزاً للكرامة والعزة والصمود.

إن كل صرخة في غزة، وكل ثبات في المقاومة، وكل كلمة حرة تخرج من أجلها تسهم في هدم جدار الكذب الذي بُني حول العالم لتزيين وجه الاحتلال، ومن هنا يصبح نضال هؤلاء الأبطال نضالاً إنسانياً عاماً يتجاوز حدود العرق والدين واللغة، وانتصار هذا النضال متى ما أتى سيكون نصراً للحقيقة على الزيف، وللإنسان على الوحشية، وللعدل على الاستعلاء. وما أروع ما قاله الشاعر محمود درويش:

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”

لقد وقف أهل غزة وحيدين حفاة جياعا عزلا في مواجهة أعتى آلة قتل عرفها العصر الحديث، لكنهم آمنوا بالله، وقاموا بأمره، ولم يضرهم من خذلهم وفارقهم، باعوا أرواحهم لله وما بخلوا، وخاضوا بحار الموت وما وجلوا، لقد خذلهم من يُفترض أنه الأقرب دمًا ودينًا ولغةً، حين آثر الصمت أو المساومة أو التبرير. وتقدّم لنصرتهم أولئك الذين لا تجمعهم بهم عقيدةٌ ولا حدود، لكن جمعتهم الإنسانية. ورحم الله القائل:

أيا فلسطين.. من يهديك زنبقةً؟

ومن يعيد لك البيت الذي خربا؟

تلفـتي… تجـدينا في مـباذلنا..

من يعبد الجنس، أو من يعبد الذهبا

وواحـدٌ نرجسـيٌ في سـريرته

وواحـدٌ من دم الأحرار قد شربا

إن كان من ذبحوا التاريخ هم نسبي

على العصـور.. فإني أرفض النسبا

إن ما يجري اليوم ليس خذلانًا لغزة وأهلها بقدر ما هو كشفٌ لحقيقة العالم: من يقف مع القيم، ومن يبيعها عند أول اختبار، فحين يسقط القريب في امتحان المروءة، يقف البعيد ليقول: “ما زال في العالم خيرٌ لا يُشترى”.

ثم من كان يصدق قبل الطوفان أن يتدفق هذا الطوفان الإنساني من كل فج بعيد؟! ومن كان يصدق أن يخرج الناس في عواصم الغرب يهتفون بالعربية، وأن تُرفع الكوفية على أكتافٍ لم تعرف يوماً لغتها، لكنها فهمت رسالتها؟

لقد صارت غزة مرآةَ الضمير الإنساني، وصار صمود أهلها شعاعًا يبدّد ظلام الأكاذيب، وهكذا تظل المقاومة ويظل أهل غزة، رغم الجراح، هم المنتصرون؛ لأن نصرهم لم يعد عسكريًا فحسب، بل أخلاقيًا وإنسانيًا، لقد انتصروا حين هشموا السردية الصهيونية، وحين كشفوا الزيف، وأسقطوا الأقنعة، وأعادوا تعريف معنى الكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى