أشتات

أوهام الإصلاح الديني في المسيحية

كُنّا قديمًا نسمع عن الإصلاح الدِّيني في أوروبا وأنه حارب صكوك الغُفران، فتسلل الإعجاب إلى نفوسنا، خاصةً عندما سمعنا أنَّ مارتن لوثر كان مُتَّهَمًا بأنه “مُحمَّدي”، أي متأثر بالإسلام، ولم نكن بعدُ ممَّن اطلع على حقيقة ما جرى.

حتى جاءت الأحداث الدامية والحرب الطائفية التي شنها المد الصفوي المعاصر على شعوب المنطقة، فقلتُ: لماذا لا أعود إلى حقبة الحروب الدِّينية في أوروبا لأخذ العبرة؟ ولكن فوجئت بما فعله تيار الإصلاح الدِّيني، وفي القلب منه مارتن لوثر الألماني وكالفن الفرنسي.

رأيت التطرف يصارع التطرف بنفس الأدوات؛ مارتن لوثر يصارع البابا بنفس العقلية المتوحشة، إذ كان كلٌّ منهما يرى في الآخر خصماً يجب اجتثاثه.

ثمَّ هالني مقال الكاتب: “حسين الوادعي” الذي دعا لتجديد الإسلام على طريقة الإصلاح الدِّيني الأوروبي. حيث يقول: (في مثل هذا اليوم قبل 500 سنة علق مارتن لوثر اعتراضاته الخمسة والتسعين على جدران كنيسة ويتنبرج مطلقًا بذلك أهم عملية إصلاح في تاريخ المسيحية). ويضيف: (عبر 1400 سنة تجمعت روافد الموروث وإسلام الفتوحات لإنتاج إسلام معاد للإنسان). ويختتم: (لا يمكن لأي دين التكيف مع العلمانية دون المرور بمرحلة الإصلاح الديني”).

قلتُ: ما الذي يُريده الكاتب؟ هل لدينا سلطة دينية كما كان للبابا؟

o هل لدينا بابا يعزل الحكام ويفرض عليهم الحرمان الكنسي؟

o هل ظهر عندنا البابا غريغوري السابع الذي حرم ملك ألمانيا، حتى اضطر الأخير إلى المشي حافي القدمين طلبًا للصفح؟

o هل المؤسسات الإسلامية تأخذ صكوك الغفران من الناس وتحتكر مليارات الدولارات؟

o هل لدينا مؤسسة كنسية تحتكر تفسير الدين، أم أن باب الاجتهاد مفتوح لكل مقتدر؟

o هل نحن من أشعل الحرب الطائفية أم هم مجموعة متطرفة من الصفويين الذين ينطوون على تصورات مغايرة للأمة ومتناقضة مع سماحة الإسلام؟

102 أوهام الإصلاح الديني في المسيحية

آثار الإصلاح الديني:

وماذا قدم الإصلاح المسيحي؟ رأيتُه  قدم خمس  كوارث كبرى لأوروبا:

الأولى: الحروب الدِّينية

o استمرت لأكثر من قرن، وآخرها حرب الثلاثين عامًا، حيث أبيد 30% من سكان ألمانيا وحدها، و50% من سكان بوهيميا، و15% من سكان فرنسا، و10% من سكان إنجلترا، مما كاد يقضي على الوجود السكاني للقارة.

o كانت صحائف الإصلاحيين تنضح بالتشدد والتطهير وإباحة الآخر، سواء كان كاثوليكيًا أو بروتستانتيًا يُخالفهم في جزئية بسيطة. كفّر مارتن لوثر رفاقه من الإصلاحيين حين خالفوه في بعض الجزئيات، وغدر كالفن بالمصلح الإسباني ميغيل، وأحرقه حيًا، وانحاز لوثر ضد الفلاحين الذين انساقوا وراء فكرته، وأفتى بقتلهم، حتى قتل منهم 73 ألفًا.

o فهل هذه أخلاق مصلحين أم سفاحين متعصبين؟ وسلام الله على المسيح حين قال: “من ثمارهم تعرفونهم”، وقد أثمر الإصلاح الأوروبي الإبادات والمجازر الدامية.

o ونحن هنا لا نمنح الطرف الثاني صك براءة، فإن الكاثوليك كانوا يبادلون البروتستانت نفس الإجرام، وفي مجزرة سانت بارثولوميو الشهيرة في فرنسا، قتل الكاثوليك من البروتستانت 20 ألفًا في ليالٍ معدودة.

o ليتحقق في الجميع قوله تعالى: “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”.

الثانية: تقديسُ الحاكم وتأليه الدولة

o نقل الإصلاحيون المسيحيون القداسة من البابا إلى الحكام، وصار الحاكم صاحب الحق الإلهي، وألزموا أتباعهم طاعة الحاكم ظالمًا كان أو مظلومًا.

الثالثة: نشوء الدولة القومية المتوحشة

o تحولت الدولة القومية إلى مصنعٍ متوحش، يقولب الإنسان وفق نمطٍ معين، دينٍ واحدٍ ودولةٍ واحدةٍ وهويةٍ واحدة، وكأن البشر علب فولٍ مدمس.

o وكانت نتيجة الدولة القومية الحروب بين الدول القومية وظهور العنصريات القومية. النازية كانت من إفرازات اللوثرية، وكان النازيون يطبعون كتب مارتن لوثر بسخاء.

o وها هي الدولة القومية اليوم في أوروبا تصل إلى نهاية الشوط، وتندمج تحت لافتة القارة المسيحية وحلف الناتو لأن الدولة القومية المتعصبة فقدت شروط بقائها.

o وها هم نجوم الرياضة والفن والفكر في الدولة القومية يبرزون من أبناء المهاجرين وليسوا من أبناء القومية نفسها، فانظر أين وصلت التجربة.

الرابعة: العلمانية

o لم يُمهِّد أحد للعلمانية مثلما فعل مارتن لوثر، حين نزع القداسة من البابا ونزع المرجعية الدينية من الكنيسة، ومنح الدولة الاستقلال، فأسس للانشطار العلماني الذي سلخ أوروبا من دينها، فصارت ناديًا علمانيًا وهي أقرب إلى اللادينية.

o ولذلك يُقاتل كيسنجر على صُلح وستفاليا بشراسةٍ ويعدُّ أنَّ أي تغييرٍ في المعادلة الدولية هو نقض لصلح وستفاليا الذي أسس الدولة القومية على بذور العلمانية، فأي مصلحٍ هذا الذي نكب ديانته كما لم ينكبها أحدٌ قبله باستثناء بولس.

الخامسة: صناعة الصهيونية المسيحية

o كان العهد القديم بما يمثله من مضامين يهودية توراتية محجوبا عند كبار رجال الدين، وكانوا يعملون على تصفية المضامين اليهودية، فلما جاء الإصلاح المسيحي وفتح الباب أمام قراءة الكتاب المقدس لكل إنسان، تسربت المفاهيم اليهودية إلى الساحة المسيحية، وتكوّن المخيال اليهوديف في الساحة النصرانية.

o ولذلك عندما هاجر البيوريتان إلى أمريكا، كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا لهجرة العبرانيين إلى الأرض الموعودة، بل وأرادوا أن تكون اللغة العبرية في أمريكا هي اللغة الرسمية، غير أن العوائق منعت ذلك.

o وكان من نتيجة هذه العقلية الاندفاع الديني لتأسيس الكيان الصهيوني ودعمه حتى اللحظة، ومن الكتب التي رصدت هذه الظاهرة كتاب “تاريخ موجز للصهيونية المسيحية” للمؤرخ الكندي دونالد م لويس، وكتاب “النبوءة والسياسة” لجريس هاسل.

o بل إن تيار الإصلاح المسيحي كتب عن المشروع الصهيوني قبل هرتزل بزمن طويل، مثل اللورد شافتسبري، والمؤرخ البريطاني جيمس تشرشل.

تدعم العلم أوهام الإصلاح الديني في المسيحية

البروتستانتية والنهضة الأوروبية:

أمَّا الحديث عن إسهام الإصلاح الدِّيني في نهضة أوروبا فهذا ضرب من الوهم؛ لأن حركة النهضة ابتدأت قبل الإصلاح الدِّيني بقرنين من الزمن.

الحركة العلمية كانت تنبعث تحت رعاية الكنيسة الكاثوليكية. والحديث عن صراع الكنيسة والعلم هو صراع صنعه المؤرخون في نهاية القرن التاسع عشر ولا وجود كبير له.

اليوم، بدأ المؤرخون الأوروبيون يتجاوزون سردية القرن التاسع عشر عن صراع الكنيسة والعلم التي هندسها جون ويليام درابر في كتابه “تاريخ الصراع بين الدين والعلم”، وأندرو ديكسون وايت في كتابه “تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في العالم المسيحي” عام 1896.

ومن الكتب التي دحضت فكرة الصراع المزمن “أصول العلم: كيف أطلقت العصور الوسطى المسيحية الثورة العلمية” للمؤلف جيمس هانام. ومن أبرز العلماء الذين كانوا رجال دين: نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543)، جورج لوميتر (1894-1966)، غريغور مندل (1822-1884)، روجيه بيكون (1214-1292)، ألبرتوس ماغنوس (1200-1280)، نيكولا ستينو (1638-1686)، ونيوتن الذي انتهى من وضع قوانين الجاذبية ليتفرغ لإثبات مصداقية الكتاب المقدس.

وتبقى قصة جاليلو وجوردانو برونو حالات استثنائية، ومشكلتها في نقصان معارف. هذا لا يعني عدم وجود حالات نزاع، ولكنها لم تكن سائدة، بل موَّلت الكنيسة العلم التجريبي، وأشرفت على تعريب الكتب العلمية للحضارة الإسلامية.

روما scaled e1725299866455 أوهام الإصلاح الديني في المسيحية

في المقابل، ماذا قدم الإصلاح الدِّيني المسيحي؟

  • حارب قضايا المرأة واعتبرها خادمة للرجل.
  • حارب الفنَّ والموسيقى واعتبرها رجسًا من عمل الشيطان.
  • فرض التعاليم الدِّينية بقوة الدولة.
  •  حارب اليهود ونادى بطردهم من أوروبا كما فعل مارتن لوثر.
  • واجه الإسلام بشراسة منقطعة النظير.

فعن أيِّ إصلاحٍ يتحدث النائمون؟

لمزيد من المعلومات العلمية في هذا الموضوع، ينظر في كتاب (الإصلاح الديني بين الحقيقة والوهم، لمؤلفه: إحسان باحارثة، إصدار : حكمة يمانية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى