أشتات

أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

في خضمّ الخطاب العالمي حول التعددية، الحرية، وحقوق الإنسان، تقف الشعوب العربية لا كأبطال ضمن هذا السرد، بل كضحايا له. لا لأنهم يرفضون هذه القيم، بل لأنهم طُلب منهم أن يؤمنوا بها كما صاغها الآخر، لا كما تعبّر عن واقعهم. لقد قيل لنا إن العالم تغير، وإننا نعيش عصر “ما بعد الاستعمار”، وإنّ الأمم تُقاس لا بقوتها بل بانضباطها داخل إطار القانون الدولي، لكن شيئًا في الواقع لم يكن يتطابق مع هذه الرواية. على العكس، كلما اقتربنا من هذا “النظام العالمي”، وجدنا أنفسنا على هامشه، مراقبين من الخارج، محكومين بحدوده، وممنوعين من إعادة تعريفه. الخديعة الكبرى لم تكن في الخطاب نفسه، بل في المسافة بينه وبين الفعل. الحرية طُرحت كقيمة كونية، لكنها كانت متاحة بشروط. حقوق الإنسان رُفعت كراية، لكنها رُفعت على أنقاض الشعوب المستضعفة فقط إن خدم ذلك السردية الغربية. أما الديمقراطية، فقد وُضعت كجائزة لمن “ينضبط”، لا كحقّ ذاتيّ للأمم.

ولم تكن هذه الخديعة عملاً ارتجاليًا، بل مشروعًا طويل الأمد، بدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتسارعت آلياته بعد الحرب الثانية، لكنه بلغ ذروته بعد أحداث 11 سبتمبر. حينها لم تُطلق فقط الحروب فيزيائيًا، بل أُعيد تشكيل الوعي العربي من جديد، على يد إعلام ناعم، ومؤسسات مدنية، وشخصيات رمزية صُنعت لتلعب دور “العربي الجيد” في حكاية “النظام العالمي الجديد”. لقد انخرط جيل كامل في هذه السردية، بين من آمن بها بصدق، ومن تقنّع بها ليجد لنفسه موطئ قدم في هذا العالم، وبين من اضطرّ لقبولها كشرّ لا بدّ منه. لا أكتب هذا النص اجترارًا لخطاب المؤامرة، ولا دعوى للانغلاق الثقافي، بل محاولة لاستعادة القدرة على الرؤية. أن نُسمّي الأشياء بأسمائها. أن نفهم كيف صيغ وعينا في العقود الماضية، ومن كتب السردية التي نعيش داخلها.أن نكفّ عن التصفيق للمقولات الجميلة، ونبدأ في تفكيكها.

منذ سقوط الدولة العثمانية، دخلت المنطقة العربية في مرحلة من “إعادة التشكيل”، ليس فقط على مستوى الحدود السياسية، بل على مستوى المعنى.لم يكن ما جرى مجرد تفكيك لإمبراطورية، بل تفكيك لذاكرة. تم نزع الغطاء السياسي الجامع، واستُبدل بمنظومة جديدة تقوم على التجزئة القومية، والارتباط الوظيفي بالمركز الاستعماري، فكما قال إدوارد سعيد: “إن الاستعمار لا ينتهي بخروج الجنود… بل حين تنتهي الحاجة لإنتاج بشرٍ يرون أنفسهم أدنى.”

وهكذا، لم تخرج القوى الاستعمارية الكبرى من بلادنا، بل تركت خلفها أنظمة تم ضبط وعيها وفق ما يخدم تلك القوى. كانت وظيفة الدولة العربية الحداثية — كما صمّمها الانتداب — لا أن تكون أداة تحقيق لإرادة شعبها، بل أن تكون حلقة وسطى بينه وبين “الأسرة الدولية”.و”الأسرة الدولية”، في الحقيقة، لم تكن أكثر من تحالف القوى المنتصرة في الحرب العالمية، الذين اقتسموا النفوذ بثياب القانون. تجسّدت هذه الرؤية مبكرًا في اتفاقية سايكس بيكو، ثم في وعد بلفور، ثم في “الانتداب”، الذي لم يكن سوى مرحلة تهيئة لما هو آت :إعادة إنتاج النُخب، وإعادة تعريف المفاهيم السياسية.

تم استبدال مفهوم “الخلافة” الجامع على كثر إشكالاته، بمفاهيم قومية ضيقة، ثم لاحقًا بمفاهيم تكنوقراطية — كالدولة الحديثة، السيادة، المواطنة — وكلها تأتِ دون بُنية حقيقية تستوعب هذه المفاهيم، فأصبح الشكل غربيًا، والجوهر ظل تابعًا. هذا ما شهده العالم العربي بشكل فجّ خاصةَ في معظم الجمهوريات العربية التي وُلدت بعد الاستقلال، حيث تشكلت الطبقات الحاكمة الجديدة ضمن منطق “الارتباط”، لا الاستقلال الحقيقي. تكرّس هذا الوعي تدريجيًا عبر المدارس، والإعلام، والخطاب الرسمي. وتم نقل الصورة التالية إلى المواطن العربي:

• أن النظام العالمي هو مظلة تحمي الضعيف.
• أن “الشرعية” تُستمد من المجتمع الدولي، لا من شعوب المنطقة.
• أن التاريخ العربي الإسلامي لا يعدو كونه إرثًا رمزيًا، لا مرجعية سياسية حقيقية.

بهذا الشكل، لم يتم فقط إضعاف الإرادة، بل تمت هندسة الإدراك نفسه. فأصبح المثقف العربي يرى الأمم المتحدة، لا دينه، كمرجعية سياسية أعلى. وأًصبح يعرف عن معاهدات جنيف أكثر مما يعرف عن مفهوم العدالة في الشريعة الإسلامية، ويؤمن أن النموذج الغربي هو سقف التمدّن، وأن التخلف يعني بالضرورة الابتعاد عنه. إن ما حدث بعد سقوط الدولة العثمانية، لم يكن نهاية لحكم طويل، بل بداية لعملية اختطاف عقل طويل الأمد.اختُطِف الحلم، والتاريخ، والمركز، وتم تعويضه بـ”الدولة الحديثة” كمجرد هيكل لا يملك لا ذاكرة، ولا مشروعًا. وفي هذا المناخ، أصبح من السهل على القوى الدولية أن تُمارس الهيمنة الناعمة، لا بالسلاح، بل بالتنظير.لا بالاحتلال، بل بالقيم. هكذا أصبحت الخديعة: لا في القهر، بل في إقناع الشعوب أن القبول بالقهر هو شكل من أشكال التقدم.

النظام العالمي من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر 1 أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

11 سبتمبر وبداية هندسة "الاعتدال الإسلامي"

إذا كان سقوط الدولة العثمانية قد شكّل لحظة تفكيك سياسي وهندسة جغرافية للمنطقة، فإن أحداث 11 سبتمبر كانت لحظة إعادة هندسة ثقافية وعقائدية ناعمة، استهدفت ما تبقى من هوية، ورفعت منسوب التفاعل مع “النموذج الغربي” إلى مستوى لم تعرفه الشعوب العربية من قبل. فجأةً، لم يعد الغرب يتعامل مع العرب كـ”متخلفين” فقط، بل كمصدر خطر عالمي. لم تعد المسألة سياسية، بل وجودية: “أن تكون مسلمًا، يعني أنك مشروع تهديد.”وبدل أن يُسائل الغرب أفعاله في المنطقة، قرر أن يُعيد تشكيل المسلمين أنفسهم، بطريقته.هنا برز مصطلح “الاعتدال الإسلامي”، ليس كمفهوم نابع من داخل المجتمعات الإسلامية، بل كتصنيف أمني-أيديولوجي يصدر عن المراكز الغربية، ليُحدّد من يحق له التحدث باسم الإسلام، ومن يجب إسقاطه أو إقصاؤه.ظهر ما يمكن تسميته بـ”الإسلام المروّض” — إسلام ناعم، غير صدامي، يتقبل التفوق الغربي، ويتماهى مع الخطاب الليبرالي، ويقبل بفكرة أن تُستمد شرعيته من رضا الخارج لا من عمق الداخل.

تحت هذا العنوان، أُطلقت برامج ضخمة، تحت عناوين مثل: “تمكين الشباب المسلم”، “الإسلام المدني”، “دعم قادة التغيير”، “بناء السلام من الداخل”.وما رافق ذلك من تمويل مكثّف للمنظمات غير الحكومية، ومراكز الأبحاث، و”الشخصيات النموذجية”. فجأة، أصبح لدينا عدد غير مسبوق من الحاصلين على جوائز نوبل “للسلام” في المنطقة، منذ 2001.  لم تُعدّل أمريكا سياساتها في الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر. بل عدّلت خطابها. أصبحت تتحدث بلغة “القيم الكونية”، “تمكين المرأة”، “دعم الحريات”، لكن تحت هذا الخطاب، جرى إعادة تعريف الإسلام والعروبة على مقاس السوق السياسي الدولي.

أصبح الإسلام مقبولًا ما دام:

• لا يعارض السياسات الغربية. 

• لا يُعبّر عن مشروع حضاري مستقل. 

• لا يُثير مسألة فلسطين إلا كـ”مأساة إنسانية” لا كقضية تحرر سياسي.

وقد جرى تدجين الشعوب، عبر ثلاث أدوات متكاملة:

1. الإعلام: الذي ضخّ خطاب “الخوف من الإسلام” في الخارج، و”الإسلام المعتدل” في الداخل. 

2. المجتمع المدني: الذي قُطع عن سياقه الطبيعي (المسجد، الحي، العائلة)، وأُعيد ربطه بالسفارات ومراكز التمويل والمنظمات ذات الطابع العلماني. 

3. الرموز البديلة: من مفكرين وفنانين وناشطين، جرى إبرازهم كـ”النموذج الجديد للمسلم المعاصر”، القادر على أن يتكلّم لغة الغرب، ويحترم تصوّراته، ويبتسم دائمًا في وجه كاميرا الأمم المتحدة.

في العمق، لم يكن الهدف إصلاح المجتمعات الإسلامية، بل إعادة هندستها ثقافيًا لتقبل التبعية على أنها تطوّر، وتعيش في حالة من القابلية الدائمة لأن تُدار من الخارج. لقد تحوّلت “حقوق الإنسان” من أداة لمواجهة السلطة، إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية — تمامًا كما حدث حين تحوّلت “العلمانية” من نظام للفصل بين الدين والدولة، إلى نظام لضبط الدين وتكييفه سياسيًا.

إن أخطر ما جرى بعد 11 سبتمبر، ليس فقط أن المسلمين أصبحوا موضع اتهام دائم، بل أنهم بدأوا يبحثون عن تبرئة أنفسهم من خلال تخلّيهم عن جوهرهم. وهكذا، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الخديعة: خديعة الاندماج في النظام العالمي كشرط للقبول ، لكن القبول لم يكن يومًا على الطاولة، لأن المطلوب لم يكن “شريكًا”… بل “نموذجًا مروّضًا” يؤدي وظيفة، ثم يُستبدل بغيره.

الربيع إلى الطوفان إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة9 أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

الثورة السلمية… المفارقة التي قادت إلى الانهيار

حين انفجرت موجة الانتفاضات العربية عام 2011، بدا وكأن شيئًا من الروح قد عاد. امتلأت الشوارع بأجساد حقيقية، تنبض برغبة التغيير، وامتلأت الشاشات بصور الشباب وهم يهتفون: “الشعب يريد”. لكن سرعان ما تحوّل هذا المشهد من أمل تاريخي إلى دراما دموية، انتهت — في أغلب تجلياتها — إما بإعادة إنتاج أنظمة أكثر قسوة، أو بانهيارات أمنية واقتصادية لم تحسم شيئًا. ما الذي حدث؟ كيف تحوّلت “الثورة” إلى إعادة تدوير للهزيمة؟ ولماذا لم تكن “السلمية” كافية لاختراق المركز السياسي الصلب؟

الجواب ليس بسيطًا، لكنه يبدأ من فهم مغلوط لكلمة ثورة. إذا فككنا عبارة “الثورة السلمية” لغوياً وفكريا، فإننا نواجه تناقضًا جوهريًا، شبيهًا بقولنا: “برج من طابق واحد”، أو “نار باردة”، أو “صدام بلا خصم” فالثورة، في جوهرها، فعل عنيف — ليس بالضرورة دموياً، ولكن عنيف من حيث البنية. هي لحظة اقتلاع، لحظة نزاع مع المركز، وتحدٍ مباشر للسلطة التي بنت ذاتها على الحماية والضبط والسيطرة. فكيف يمكن أن تُواجه بنية مبنية على العنف المؤسساتي والاحتكار، بأداة “سلمية” ترفض أن تخلخلها فعلياً؟ ليست المسألة هنا دفاعًا عن العنف، بل تشخيص لفكرة القوة. فكما يشرح ميشيل فوكو، “القوة لا تُمارس في الفراغ، بل في شبكة من العلاقات”.ومركز القوة — أيًّا كان — لا يُسلّم موقعه دون مقاومة. يمكن أن يُناور، يبتسم، يفاوض… لكنه لا يتنازل طوعًا عن أدواته الجوهرية. وحين تُواجهه بالسلمية، دون ضغط موازٍ في أدوات التأثير، فإنك لا تُربكه… بل تُطمئنه.

الثورة بطبيعتها فعل صدام، لأن مركز السلطة ليس مؤسسة بسيطة، بل شبكة مصالح متداخلة: اقتصادية، أمنية، عسكرية، دولية. وكلما اقتربت من هذا المركز، ازداد عُنف النظام في الدفاع عن نفسه ، ولذلك كانت النتيجة حتمية:النظام العربي، بوصفه وريثًا لوظيفة الضبط التي وُكل بها منذ نهاية الاستعمار، فهم سريعًا أنه يمكن مقاومة “الثورة السلمية” بالتخلي عن طرف من أطرافه لصالح إنقاذ الجسد، “.أما المجتمع الدولي، الذي لطالما شجّع على “التحوّل الديمقراطي”، فقد صمت أو تواطأ، لأنه لا يريد ديمقراطيات حقيقية في فضاء استراتيجي يهدد مصالحه.

يقول فوكوياما، في لحظة انتشاءه بانتصار الليبرالية: “النظام العالمي الجديد لا يتحمّل كثيرًا من الفوضى.” لكن ما لم يقله أن الفوضى  في قاموس القوى الكبرى، لا تعني غياب القانون، بل أي محاولة لإعادة توزيع السلطة دون إذن المركز. الفوضى لا تعني انهيار الدولة، بل أن يحاول الهامش توليد مشروع من خارج البنية المفروضة. بعبارة أخرى، أي حركة تحرر حقيقية — تحمل تصورًا مغايرًا للحداثة الغربية أو تدّعي لنفسها حقًا في صياغة مفاهيمها السياسية والأخلاقية — تُعتبر تلقائيًا خطرًا وجوديًا على هذا النظام.

ولذلك، لم تكن المشكلة الحقيقية للنظام الدولي مع الاستبداد المحلي — طالما أنه منضبط، وظيفي، يتماشى مع شبكات المصالح. بل مشكلته هي مع من يريد إعادة تعريف المعنى من الأساس: من يقول إن الديمقراطية ليست استيرادًا بل تجربة محلية. وإن الدولة ليست تقليدًا بل صياغة تاريخية نابعة من سياق حضاري مختلف. وإن الحقوق لا تُمنح من الخارج، بل تُنتزع من الداخل.

في هذا السياق، لم يكن مفاجئًا أن تُعامل الثورات العربية — بمجرد خروجها عن النص — كحالة “فوضوية” يجب تطويقها، لا احتضانها. ولم يكن مستغربًا أن يُنظر إلى الجماهير الغاضبة، المطالبة بالعدالة والكرامة، لا كمحرك للحرية، بل كتهديد للاستقرار. فالمطلوب ليس التحرر، بل “التحرر المضبوط”. تحرر بمواصفات السوق: لا يُربك، لا يُهدد، لا يُنتج بنى جديدة قد تعيد تشكيل خريطة المصالح الدولية .وهنا تتجلى المفارقة التي لم يفككها فوكوياما: أن النظام العالمي الذي يحتفي بليبراليته، لا يرى الحرية حقًا… بل امتيازًا يُمنح لمن يقبل باللعبة. وأن العدالة، في قاموسه، لا تُقاس بما يحدث، بل بمن يحدث له. وهكذا، تتساقط السردية من داخلها: كل من لا يُشبه المركز، يُصنَّف تهديدًا. وكل من يحاول خلق معنى جديد… يُوصف بأنه “فوضوي”، حتى وإن كان يحمل كتابًا لا بندقية.

من أكثر ما جعل الثورات العربية هشّةً وعرضةً للاحتواء، أنها لم تمتلك لغة سياسية خاصة بها. خرجت إلى الشارع بعاطفة صادقة، لكنها عبّرت عنها بشعارات مستوردة، صيغت في مختبرات السياسة الليبرالية الغربية، ثم أُعيد تدويرها على لافتات الشوارع العربية دون أن تمر بعملية تمحيص مفاهيمي أو تكييف سياقي.

“حرية”، “ديمقراطية”، “دولة مدنية”، “عدالة اجتماعية”… كانت هذه الكلمات تملأ الحناجر، لكنها لم تكن متجذّرة في البنية العميقة للمجتمع، لا من حيث التصور، ولا من حيث الإمكانية. كانت تبدو كمفاتيح سحرية للنجاة من الاستبداد، لكنها في الواقع كانت أقرب إلى رموز فارغة، أُلقيت في الهواء دون حوار جاد حول معناها، ووسائل تحققها، وتكلفتها. الحرية — على سبيل المثال — لم تُسأل كمفهوم سياسي-اجتماعي: حرية ممن؟ ولـ من؟ وبأي أدوات؟ وضد أي بنية؟ هل هي حرية التعبير فقط؟ أم حرية تقرير المصير السياسي؟ أم التحرر من الهيمنة الخارجية؟ هل تُمارس في فراغ؟ أم في سياق محكوم بأنظمة عميقة لا تسمح حتى بحرية الحلم؟ العدالة الاجتماعية طُرحت كشعار عابر، دون أن تُقدَّم كبرنامج اقتصادي بديل، والدولة المدنية رُفعت كمقابل لفظي للدولة الدينية أو القبلية، لكنها لم تُعرّف بوصفها نقيضًا للدولة البوليسية، والديمقراطية طُرحت كآلية اقتراع، لا كبنية تعاقدية تقوم على وعي المواطن وقدرته على المحاسبة.

وهكذا، تحوّل الخطاب السياسي للثورات إلى لغة مفرغة من المعنى البنيوي، مما جعل من السهل على الأنظمة القديمة، والدولة العميقة، وحتى القوى الخارجية، أن تلتقط هذه المفاهيم وتتلاعب بها لصالحها، وتقلبها ضد أصحابها.

يأت هذا الضعف في التسلح المفاهيمي والرؤية في ظل خصم يتعدى الأسماء والشخوص، فالثورات كانت تواجه ما هو أعمق: “الدولة العميقة” بوصفها منظومة من القيم والمخاوف والبنى النفسية والاجتماعية التي ترسّخت لعقود. فالأنظمة القمعية لم تكن قائمة فقط على الأجهزة الأمنية، بل على شبكة من العلاقات والأفكار والتصورات التي جعلت الناس أنفسهم جزءًا من آلة القمع. ولهذا، لم يكن غريبًا أن تخرج الجماهير تهتف للحرية، ثم تعود — بعد شهور — لتصطف خلف العسكر، تطلب منهم “الإنقاذ”، لا لأنهم يحبّون الطغيان، بل لأنهم خافوا من الفراغ أكثر من استبداد يعرفونه. لقد تحوّلت الثورات إلى لحظات احتفال… لا مشاريع انتقال. إلى حشود ضخمة، لكنها بلا بنية سياسية، بلا قيادة شرعية، بلا تصور واقعي للانتقال من الميدان إلى الدولة.

ومع الوقت، فهمت الأنظمة اللعبة أفضل مما فعل المتظاهرون أنفسهم: لم تحاول قمعهم فورًا، بل راقبتهم، تركتهم يفرغون طاقتهم، ثم أعادت احتواءهم، وحين جاءت اللحظة المناسبة، قُدمت “رموز الثورة” كأبطال سابقين فقدوا صلاحيتهم، ثم كأخطاء وجب تصحيحها، ثم كمجرمين يُلاحَقون.

من بين كل التيارات التي انخرطت في المشهد بعد 2011، كان الإسلام السياسي السني — تحديدًا جماعات الإخوان المسلمين والتيارات المتفرعة عنها — هو الأكثر تفاؤلًا، والأسرع إلى المنصة، والأوضح في رفع شعارات الديمقراطية، والشرعية، والدولة المدنية. لكن ذلك الصعود الذي بدا في بداياته وكأنه إعادة تموضع تاريخي للإسلام السياسي، سرعان ما تحوّل إلى انهيار درامي… سياسيًا، شعبيًا، وفكريًا. وهذا السقوط لم يكن فقط نتيجة مؤامرة خارجية أو بطش داخلي — رغم أن كلاهما موجود — بل لأنه انطلق من افتراضات خاطئة، وانخراط في خديعة كبرى: أن الديمقراطية الغربية متاحة لهم كما هي، وأنها لعبة قواعد لا لعبة مصالح. فما الذي حدث؟ ولماذا لم تنجح هذه الجماعات في التحول إلى قوة سياسية حقيقية، رغم ما تمتلكه من قواعد شعبية، وتجذر ثقافي؟

النظام العالمي من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

أولاً: الوقوع في فخ شرعية الصندوق

أول وأخطر الخطايا، كان الظن بأن الانتخابات تعني الحكم. أن الصندوق وحده قادر على منحك مفاتيح الدولة. لكن الديمقراطية — كما هي ممارسة غربية — ليست أداة محايدة. هي جزء من نظام سياسي-اقتصادي-ثقافي متكامل، لا يقبل الداخلين عليه إلا إن استوفوا شرطًا أساسيًا: أن يقبلوا بالمرجعية الغربية كنقطة مرجعية نهائية. يقول جون كين، الباحث في النظم السياسية: “الديمقراطية في السياق الليبرالي ليست فقط حكم الأغلبية، بل قبول الأقلية بقيود القيم المشتركة، كما يُعرّفها المركز الثقافي.” والمقصود بالمركز هنا: الغرب، بلغة المصالح لا الجغرافيا.

الإسلاميون دخلوا اللعبة معتقدين أن فوزهم بالصندوق سيحميهم. لكنهم لم يدركوا أن اللعبة تُضبط من خارج الميدان. فما أن صعدوا، حتى تآمر عليهم الداخل، وبارك الخارج، وابتلعتهم الدولة العميقة في مشهد لم يكن إلا ترجمة لصدام بنيتين لا تلتقيان: بنية تسعى للتفكيك من الداخل ، وبنية لا تقبل التفكيك إلا من يدها وبشروطها

ثانياً: غياب المشروع البديل الحقيقي

حتى حين وصل الإسلاميون إلى الحكم، لم يقدموا مشروعًا مختلفًا فعليًا، بل أعادوا إنتاج بنية الدولة بشكل مفرغ من المعنى:

• تبنّوا نفس الاقتصاد النيوليبرالي 

• لم يلمسوا بنية الأمن 

• لم يطرحوا رؤية ثقافية واضحة 

• وذهبوا إلى الخارج بحثًا عن الاعتراف، بدل ترسيخ السيادة

بمعنى آخر: رفعوا لافتة “الإسلام هو الحل”، لكنهم، حين وصلوا، بحثوا عن الحل في ذات المؤسسات التي بنتها الأنظمة التي كانوا يعارضونها. وهنا تبرز ملاحظة المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز الذي قال: “أزمة الإسلام السياسي ليست في فكرته المرجعية، بل في عجزه عن تحويلها إلى مشروع سياسي حديث دون أن يُفقدها معناها.”

ثالثا: المراهنة على الغرب كحَكم

ربما كان أكثر الأخطاء التي ارتكبها الإسلام السياسي السني بعد 2011 سذاجةً، هو اعتقاده أن “المجتمع الدولي” سيحمي التجربة الديمقراطية التي وصل عبرها إلى الحكم، أو أن القوى الغربية — وعلى رأسها الولايات المتحدة — ستقف مع “الشرعية” لمجرد أنها انبثقت من صناديق اقتراع. لكن ما غاب عن هذه الجماعات، أو ما أرادت تجاهله، هو أن الغرب لا يدعم الديمقراطية إلا حين تفرز نتائج مأمونة، خاضعة، لا تُهدد مصالحه، ولا تُعيد ترتيب أوراقه في المنطقة. أي مشروع يحمل شبهة الاستقلال الثقافي، أو يتحدث بلهجة نقدية تجاه تحالفات الهيمنة، أو يضع على الطاولة ملفًا شائكًا كالقضية الفلسطينية، يُصنّف تلقائيًا كتهديد يجب تحييده، سواء عبر الداخل أو بدعم خارجي. ولذلك، لم تكد هذه الجماعات تشرع في الحديث عن مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية، أو عن شراكات استراتيجية بديلة، حتى وُضعت تحت المجهر، ثم أُسقطت تحت السكين. تمّت الإطاحة بها بغطاء داخلي، وبارك النظام الدولي العملية بالصمت، أو بعبارات دبلوماسية تحتفي بالاستقرار وتُدين “العنف من جميع الأطراف”. وحتى المنظمات الحقوقية التي كانت قبل شهور تحتفي بانتفاضات الحرية، ابتلعت لسانها حين انقلبت الثورة على نفسها.

وقد تجلّت هذه الخديعة بوجهها الأكثر مأساوية في مشهد الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، الذي ظلّ متمسكًا بشرعية انتخابه رغم اختطافه من قِبل الدولة العميقة، واستنجد بمحكمة الجنايات الدولية للتحقيق في ظروف احتجازه وما تبعه من انقلاب دموي. لكن محكمة الجنايات الدولية، وبعد سنوات من الصمت، ردّت بأن مرسي لا يُعتبر “الممثل الشرعي للشعب المصري”، في دلالة قانونية لا تخلو من مفارقة سياسية: فشرعية الصندوق، بالنسبة للمجتمع الدولي، لا تساوي شيئًا ما لم تكن مصحوبة بختم الرضا من المراكز الغربية. ومات الرجل داخل قفص المحكمة، في صمت دولي مطبق، وكأن التجربة بأكملها كانت تمرينًا على وهمٍ اسمه “الشرعية الديمقراطية”.

لقد كشفت تلك التجربة أن الإسلاميين لم يفهموا أن اللعبة لا تُدار داخل حدود الدولة الوطنية، بل في فضاء دولي تحكمه موازين القوى لا المبادئ. الشرعية لا تُمنح من الشعب، بل من الخارج. والديمقراطية لا تُقاس بالنتائج، بل بمدى ملاءمتها للهندسة السياسية العالمية. وهكذا، سقط الإسلام السياسي مرتين: مرة لأنه صعد دون مشروع حقيقي يوازن بين الهوية والمصلحة، ومرة لأنه لم يُدرك أن النظام العالمي لا يعترف إلا بمن يُشبهه أو يُطيعه، لا بمن يختلف معه في الجذور

الربيع إلى الطوفان إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

7 أكتوبر… لحظة السقوط الأخلاقي الكامل للنظام العالمي

لم تكن عملية السابع من أكتوبر 2023 مجرّد ضربة عسكرية صادمة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، بل كانت زلزالًا سياسيًا وثقافيًا كشف عن هشاشة التصورات المتداولة عن النظام الدولي، وأسقط آخر ما تبقى من الأقنعة الأخلاقية التي يرتديها “العالم الحر”. المفارقة الأكثر عمقًا، أن هذه العملية لم تنطلق من رهانات على أنظمة العرب أو على تضامن إقليمي واسع، بل من قناعة شبه راسخة لدى الفاعلين في المقاومة بأن المسار التاريخي للأمة العربية، على الأقل رسميًا، قد انكمش إلى موقع المتفرج. ومع ذلك، يبدو أن المقاومة كانت لا تزال تحتفظ بشيء من الوهم بأن القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، لن تسمح بانفلات كامل للوحشية، وأن آلة القتل لن تُترك دون ضبط أخلاقي على الأقل، كما هو مُفترض في النظام الدولي. لكن المفاجأة جاءت على عكس ذلك. لم تُضبط الوحشية. بل سُمح لها بالتمدد، وتم تبريرها، بل وتقديمها كضرورة وجودية. المجازر قُدمت كدفاع عن النفس. قصف المستشفيات كُتب في الصحف الغربية كضربات “مشروعة”. وحُذفت آلاف الأصوات، واعتُقل متضامنون، وواجه الأكاديميون والصحفيون في الغرب ملاحقة سياسية وثقافية لمجرد أنهم عبّروا عن موقف أخلاقي تجاه ما يحدث.لقد تلقى العرب والمسلمون، في تلك اللحظة، صفعة معرفية عميقة. صفعة لم تكن موجّهة فقط لأجساد الضحايا، بل لعقود من الوعي المزيّف الذي تربّت عليه نخبهم: الوعي بأن النظام العالمي، مهما بدا غير عادل، إلا أنه يعمل في النهاية وفق خطوط أخلاقية ما، أو أنه على الأقل يزن الضحايا بميزان واحد.

لكن ٧ أكتوبر كشف أن تلك القناعة لم تكن إلا أحد منتجات الهندسة الثقافية التي صاغتها المؤسسات الغربية، وبرامج العلاقات العامة، ومنابر الخطاب الليبرالي الحقوقي. كل ذلك انهار دفعة واحدة. وقد جاءت المفارقة أكثر فجاجة حين حدث كل هذا التوحش في ظل لحظة كان الغرب نفسه فيها يُحاضر العالم يوميًا عن “حق أوكرانيا في الدفاع”، و”الكرامة الإنسانية”، و”العدوان الروسي”، و”الفظاعات ضد المدنيين”. لم يَعُد ممكنًا — بعد هذا التناقض الصارخ — أن يظن العرب أن النظام العالمي يتحرك وفق قواعد أخلاقية. لقد ثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن القيمة الأخلاقية لأي شعب، أو حق، أو حياة، ليست مسألة مبدأ… بل مسألة موقع في شبكة التحالفات الغربية. وإذا كان المفكر زيغمونت باومان قد كتب عن الحداثة باعتبارها مشروعًا يُجمّل الجريمة تحت شعار “النظام”، فإن ما حدث بعد ٧ أكتوبر مثّل ذروة هذا المشروع:الإبادة تُرتكب باسم الدفاع. المحرقة تُبثّ مباشرة، ويُباركها الإعلام. والضحايا، إذا لم يكونوا في المعسكر المناسب، يُجردون من إنسانيتهم ببساطة.

لقد واجه العرب والمسلمون في تلك اللحظة تجربة وعي قاسية. لم تكن الصدمة فقط في مشهد الدم، بل في سقوط صورة العالم التي صُمّمت بعناية في عقولهم. الصورة التي تجعل من أوروبا مركز العقل، ومن أمريكا مركز العدالة، ومن الأمم المتحدة ضمير الإنسانية. كل ذلك انهار. وبات واضحًا أن “الضمير العالمي” لا يتشكل بالمعايير الأخلاقية، بل بالموقع الجغرافي والسياسي للضحية. ما تبقى، بعد ٧ أكتوبر، هو وعي ممزق… لكنه واضح: لا أحد في هذا العالم يكافئ الضحية لمجرد أخلاقيتها، ولا يعاقب المجرم لمجرد وحشيته، إلا إذا وافق ذلك موازين القوة.

وهكذا، وُضِع العرب والمسلمون — دون استئذان — أمام لحظة تشبه اليقظة المتأخرة: إما أن يعيدوا بناء تصوراتهم من جديد، أو أن يعيشوا في سرديات فقدت صلاحيتها أمام الدم الطازج.

والوعي بالمصطلحات السياسية2 أوهام النظام العالمي: من 11 سبتمبر إلى 7 أكتوبر

نحو وعي مقاوم جديد

ما تكشفه التجربة العربية خلال القرن الأخير — ومنعطفاتها الكبرى بعد سقوط الدولة العثمانية، ثم 11 سبتمبر، فانتفاضات 2011، وصولاً إلى مجزرة غزة بعد 7 أكتوبر — ليس فقط فشلًا في استراتيجيات المقاومة أو في التحالفات، بل أزمة وعي شاملة، تشكّلت عبر قرن من التغريب الناعم، وتمّت إدارتها بذكاء من خلال أدوات حديثة: الإعلام، والتعليم، والتمثيل السياسي، والمنظمات الدولية. لقد خُدع العرب، والمسلمون عمومًا، لا فقط بالخطب السياسية، بل بما هو أخطر: خُدعوا بتصور معيّن عن العالم. تصور يجعل العدالة كونية لكنها انتقائية، والحرية متاحة لكنها مرهونة بالتماهي، والمؤسسات محايدة لكنها تميل دائمًا نحو الأقوى، والتقدم مشروعًا متاحًا لكل من “اندمج” في النظام، لا لكل من حاول تغييره.

هذه الخديعة لم تكن ساذجة، بل مُمأسسة. وقد أنتجت أجيالاً كاملة من النخب التي ترى في الأمم المتحدة مرجعية، وفي النموذج الغربي مثالًا، وفي خطاب الحقوق الغربية سقفًا أعلى، وفي الانضباط للنظام الدولي طريقًا إلى “الاحترام”. لكن أكتوبر الأخير، وما سبقه من عقود من التناقضات، كشفت أن الاحترام لا يُمنح. وأن العدالة ليست معروضة بالتساوي، وأن القانون لا يحمي إلا من يملكون مفاتيحه. ولهذا، فإن المعضلة ليست في الانتصار أو الهزيمة، بل في كيف يفهم العرب أنفسهم. هل هم أصحاب مشروع حضاري مستقل، يحق له أن يُعبّر عن ذاته، ويقاوم من أجل مكانه؟ أم مجرّد “فضاء سياسي” يجب أن يتكيّف مع شروط المنظومة القائمة، ويبحث عن رضاها في كل حركة وسكون؟ إن الوعي الجديد، الذي صار ممكنًا بعد هذا الانكشاف، لا بد أن يقوم على ثلاث قواعد:

أولاً: إعادة تعريف الذات، بعيدًا عن الصور التي صُممت خارجيًا: لا كضحايا دائمين، ولا كتهديد عالمي، ولا كمستهلكين خاضعين. بل كأمة لها سياقها، وتاريخها، وحقها في الاختلاف الجذري عن المنظومة الغربية.

ثانياً: نقد البنية الدولية لا تكتيكاتها فقط، فالمشكلة لم تكن فقط في مواقف الغرب من فلسطين، أو من ثورات العرب، بل في أن البنية ذاتها صُممت لضبط “الجنوب العالمي”، وتحويله إلى مسرح لتوازنات القوى لا إلى طرفٍ فاعل فيها.

ثالثاً: بناء مقاومة معرفية وثقافية تسبق السياسية، لأن المشكلة ليست فقط في الأنظمة، بل في الذهنية التي تقبل بها. ولأن التحرر الحقيقي يبدأ من تحرير المعنى، من إعادة فهم التاريخ، ومن كسر الصور النمطية التي تربّت عليها الأجيال داخل الإعلام والمناهج.

التحرر لا يبدأ بالبندقية ولا ينتهي بالصندوق. إنه يبدأ بالسؤال: من نحن؟ ومن أين نأتي بهذا التصور عن أنفسنا؟ وما بعد 7 أكتوبر، لم يعُد هناك رفاهية الالتباس. فالعالم كشف نفسه تمامًا، ومن لم يفهم بعد، فليس لأنه مخدوع… بل لأنه اختار أن يبقى كذلك. والمرحلة القادمة، إن كانت ستُكتب، فإنها لن تُكتب بأدوات الخديعة، بل بوعي يقاوم — لا فقط من يقتل…بل من يجعل القتل يبدو قانونًا.

ضياء خالد

باحث في السياسات الدولية جامعة أوتاوا _كندا

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. فتح الله عليك أ. ضياء
    هذا المقال
    وخز ضروري للعقل المسلم
    الذي خدره الخطاب الغربي

    عسى أن يستقيظ
    ويدرك ضرورة العودة إلى الذات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى