غني عن التَّعريف بالكاتب الذي طالما اتحفنا بكتاباته الأكاديمية، الغنية بجزالةِ اللفظ، وعمق التَّحليل المنهجي، طالعنا بحصادٍ علميٍّ جديد حلق به وعرج في قضايا داخلية مغربية، وخارجية في مشهد السَّاحة الدولية، بمعالجة واقعية ناضجة، تدرك ما حولها من معطيات وتحسن قراءتها، وأكثر أنها تجيد الرَّبط بين تلكَ الحوادث السِّياسية، وتداعياتها على المجتمعاتِ العربيَّة والإسلامية من زاوية البُعْد السِّياسي والدِّيني.
طالعنا الكاتب أستاذ القانون الدستوري في جامعة محمد الخامس بالرباط عبد السلام الغنامي أخيرًا، بحصاد أوراق ناضجة لمجمل التطورات المتسارعة في مشهد القضايا الدولية، وتفاعلاتها على المستوى الدولي، وانعكاساتها على الساحة الدولية والمغربية على حد سواء.
أمام جملة من التَّطورات، والتَّحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وما تحمله من تأثيرات، ومآلات كارثية على الشعوب العربية والإسلامية، وقف المؤلف باقترابه التَّحليلي الرَّصين لتلك الأحداث، والمحطات الرئيسية الفاعلة في مشهد السِّياسات والصراعات، أكانت على المستوى الداخلي المغربي، أو تلك التي تتفاعل بقوة في المشهد الدولي، وتلقي بآثارها على الساحتين الخارجية والداخلية للمغرب، اقترب منها بنفسه الأكاديمي الصَّارم وإن بآلية منهجية مركبة استطاعت أن توفق بين منظومة الهوية العلمية للكاتب، ومحيطه المؤثر به، وبين تشكيلة مفردات قناعاته المنبثقة من حاضن توعوي زاخر بمبادئ الإسلام العظيمة، التي استفاد منها الآخرون، وزهدنا في إعمالها بواقعنا الحياتي. لكن لا يعني ذلك أنَّ المؤلف يعيش خارج معطيات الواقع السياسي، ونظرته السياسية الصارمة خصوصًا إذا تعلق الأمر بمصالحِ المغرب في علاقته بدول الجوار المغربي لا سيما الجزائر. ولذا نجده يبذل ما بوسعه نقدًا بناء عقلاني لرئيس الوزراء السابق سعد الدين العثماني، يختلف فيه تمامًا مع الدكتور عبد العالي حامي الدين، حيث يرى أنَّ رئيس الحكومة السابقة العثماني تحرك في هوامش يمكن وصفها أنها سطحية، ومتسرعة، ولم تعمل فكرها بنوع من الواقعية لقراءة معطيات الخلاف الرئيسية، أكثر من اهتمامها بهوامش شكلية في العلاقة، وبعض البروتوكول الدبلوماسي. بينما أن واقع الخلاف بين البلدين محاط، وملغوم بقضايا أكثر من حيوية، خصوصًا إذا ما تعلَّقَ الأمر بالصَّحراء المغربية، وسيادتها، والتي لم تظهر الجزائر في هذا الملف الشائك، والمهم أي تقارب حقيقي يؤدي إلى انفراجة أخوية تدفع بعلاقة البلدين إلى آفاق أوسع.
ذلك الطرح حول حساسية المصالح المغربية الخارجية، لم يمنع المؤلف عن التَّعبير عما يجول بخاطره، وما يحمله من نفس المخاوف والهموم تجاه دينه وأمته، حيث تتجلى تلك المشاعر والأفكار في كتابه بصورة جلية، وثرية من زاوية المشفق العارف تحذيرًا وتنبيها من خطورة العواقب والمآلات، بمقاربات متنوعة المواضيع والطرح للكتابة والتحليل والتَّحذير، مما يُحدق بالشُّعوب والأمة من مخاطر، وتهديدات تستهدف بالمقام الأول دينها وقيمها وأخلاقها، ناهيك عن الحرب المستعرة لهدم كيان الأسرة، كونها الركيزة الأهم في البناء الاجتماعي المعافى المستقر، في ظل سيطرة نخبة الحداثة الرأسمالية المادية الجشعة على مقاليد العالم سياسيًّا، واقتصاديًّا، وإعلاميًّا، بعد أن فرغت من إحكام سيطرتها على الراساميل العالمي، بدافع الكسب والثراء، وخلق الأسواق وجيوش المستهلكين، لتحقيق زيادة الإنتاج وتنامي الأرباح، دونما أن تعير اهتمامًا للمبادئ والقيم والأخلاق، التي تهتم لحرية الإنسان وكرامته، أو تسعى لإقامة العدل والخير والسَّلام، التي نصت عليها الأديان والشَّرائع السَّماوية، والمواثيق، والقوانين، والأعراف الدولية.
كما تبرز ظاهرة “الرويبضة” الفئوية، أيضًا بشكل لافت وطاغ في المجتمعات الغربية الرأسمالية، لتحكّم “نظام التَّفاهة” في حياة النَّاس، بحسب أطروحات الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة”، أو النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على مقاليد الأمور في حياة الأفراد والشعوب، إذًًا هي لعنة أصابت البشرية، بفعل تفشي نظام التفاهة، الذي أنتجه فكر الحداثة المادي ونظامها الرأسمالي الجشع، المتبني للشذوذ والشر والحروب، عدو الفضيلة والخير والسَّلام.
أفرد الكاتب مساحة واسعة لبعض القضايا، التي تتهدد البشرية اليوم ومستقبلها بما تحمله من أخطار، بسبب اتساع نطاق الصراعات والحروب، ناهيك عن صناعة الأوبئة، وتفشيها كوباء كورونا وتحويراته، وما سبقه وما سيأتي بعده، فضلًا عن الآثار الكارثية للتغيرات المناخية المتسارعة، بفعل التَّلوث، وعدم الاهتمام الجدي من قبل الدول الصناعية الكبرى لحماية المناخ، بإيجاد البدائل المناسبة للحد من تدفق الانبعاثات والتلوث.
يوازي تلك المخاطر حروب فكرية وثقافية تشنها إمبراطوريات الإعلام والتكنولوجيا، لا تقل خطرا وآثارًا وطغيانًا عن سابقاتها، تستهدف الفطرة الإنسانية السَّوية التي فطر الله النَّاس عليها، تسعى جاهدة لهدم أسس القيم والفضيلة والأخلاق وبالدرجة الأولى كيان الأسرة المجتمعية، بدواعي الحرية الفردية التي تروج له الحداثة الغربية فكرًا ماديًّا جشع وسلوكيات انحلالية شاذَّة.
وفي حين ينعم الغرب بثمار الديمقراطية، يتم محاصرة الشعوب العربية والإسلامية المتطلعة للحرية والتغيير والديمقراطية، فتمنع من حرية اختيار حكامها وفق آلية التداول المعاصرة، وأكثر يتم إجهاض ووأد كل محاولات التوجه الديمقراطي المتعثر أصلًا، بدعم الثورات المضادة، التي زجَّت بتلك الشعوب المطالبة بالتغيير في أتون حروب وصراعات مدمرة جعلتها عرضة للانهيار والتشظي، بتعاون أنظمة وقوى التسلط والاستبداد والاقصاء المحلية والإقليمية، وأمام هذا المشهد الانقلابي اكتفت القوى الكبرى بغض الطرف حفاظا على مصالحها.
شهدت العلاقات الدولية، والنَّظام الدولي العديد من التحولات والتغيرات وفقا للأحداث المتسارعة، أسفرت بحسب المؤلف عن دخول فاعلين جدد من الدول والمنظمات تجاوزت إرث الدول الاستعمارية الكبرى، واتفاقية سايكس بيكو في تقاسم الدول وثرواتها، وحالة الصراع الأيديولوجي بين المعسكر الشيوعي الاشتراكي والمعسكر اللبرالي الرأسمالي.
فثمة صراع قائم بين الدول الصناعية الكبرى له سماته الجديدة وفق التحولات والمتغيرات في النطاق الدولي، في ظل التنافس المحموم للسيطرة على مناطق النفوذ والهيمنة، من خلال التحكم في سلاسل الإمداد والتوريد للطاقة والغذاء والمعادن الثمينة والنادرة، ناهيك عن محاولات التفرد بامتلاك أسرار تكنلوجيا الصناعات المعقدة كالرقائق الالكترونية وغيرها. ويشير المؤلف أن العمل في مجال العلاقات الدولية بين الدول المتنافسة في الوقت الراهن، يتمثل في ثلاثة مستويات: صوت الحمام، وفم الأسد، وحوافر الفرس.
وفي الحديث عن القانون الدستوري علمًا وتطورًا وفكرًا، ثمَّ الإيضاح بأنَّ القانون العام له قواعده، التي تتسم بطابع الإلزام والأمر، والنَّهي للسُّلطة العامَّة، وتحديد طرق وآليات تنفيذها من قبل مؤسسات الدولة المختلفة، وهذا ما يميزه عن قواعد القانون الخاص المتسم برضائية التصرفات بين أطرافه المدنية.
حيال تلك الأحداث والتطورات، واستشعارًا من المؤلف للمسؤولية الدينية والعلمية والإنسانية، صدر كتاب “أوراق زمن الحصاد” ليجمع بين دفتيه ما تفرق نشره خلال العامين الماضيين، من مقالات متنوعة المواضيع والطرح، غير أنه يجمعها ويربط بينها الرغبة الصادقة للإسهام في معركة نشر الوعي القيمي والأخلاقي داخل المجتمعات العربية والإسلامية، كسلاح ضروري في مواجهة تغول ثقافة الاستبداد والإقصاء، ومشروع الرذيلة والانحلال التي تقوده قوى الحداثة الغربية بسطوتها وإمكاناتها المادية والتكنولوجية الحديثة.
في أوراق الحصاد، يجد القارئ تنوعًا في مقالات الكتاب ومواضيعه وتناولاته، بحسب أهمية الأحداث، وتسلسلها، التي كانت حديث الساعة، وشغل الناس آنذاك، وما لها من تأثيرات، وتداعيات على حياتهم ومصالحهم، ومستقر أمنهم ومعيشتهم، سواء ما كان منها شأنًا عالميًّا، كجائحة كورونا “كوفيد 19” التي جثمت على صدر العالم لثلاث سنوات عجاف، أو الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها السياسية والاقتصادية، أو الحديث عن المناسبة الدينية كذكرى الهجرة النبوية، أو ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وما يحملانه من دروس ومعاني تؤكد على مبادئ وقيم رسالة الإسلام السمحة التي جاءت رحمة للعالمين، كما لم تغب الأحداث المحلية التي تخص الشأن المغربي الداخلي أو علاقات المغرب بمحيطه الإقليمي والدولي، كما حظي الجانب الأكاديمي بمساحة، تطرقت لعلم السياسة والعلاقات الدولية وأبعادها وتطوراتها، ناهيك عن القانون الدستوري وأهميته في بناء الدولة.
تميز المؤلف في عرضه لتلك المواضيع والقضايا، بطريقة سلسة، وشيقة جمعت بين الأسلوب الأكاديمي لأستاذ متمكن وعميق في طرحه، وبين الأسلوب الأدبي المستشهد ببعض آيات القرآن الكريم، والأحاديث النَّبوية المؤكدة للمعنى، المعززة للقيمة والمسنودة بالدليل بحسب السياق، كما كان للشعر وأقوال الحكمة والمفكرين والعلماء حضورا طُرزت بها بعض العبارات والجمل فزادتها رونقًا وجمالًا.
ما قُدم في هذه القراءة السريعة عبارة عن إشارات حول الكاتب والكتاب، تعد تحفيزًا للقارئ الكريم لقراءة الكتاب، والاستفادة منه لما يحمله من فائدة علمية ومعرفية وقيمية، في ظل تدفق المعلومات وسهولة الحصول عليها في عالم فضاء التكنولوجيا المفتوح المليء بالغث الهدام، النادر فيه القّيم النافع كهذا الكتاب.