أشتات

الإصلاح السياسي في سوريا الجديدة: من الاستبداد إلى العدل

في أحد الأيام الباردة من شتاء 2013، كان “عمر” يسير عبر أحد الأزقة الضيقة في دمشق، محاطًا بصمت المدينة إلا من صوت خطواته المتسارعة. كان يحمل في قلبه أسئلة لم تجد إجابات واضحة طوال السنوات التي مضت. في يده اليمنى كان يحمل دفترًا صغيرًا مليئًا بالأفكار، وفي يده اليسرى كان يمسك بحلم سوريا جديدة لا تحمل في ملامحها سوى العدالة والحرية. كان عمر قد نزع نفسه قليلاً من صخب الثورة اليومية، لكنه لم يتمكن من الانفصال عن آلام الشعب الذي ظل يتألم في ظل حكم استبدادي مرير.

دمشق في تلك الأيام كانت مدينة حزينة، تستحق أكثر من مجرد وصف. كانت أشبه بامرأة مسنّة، عجزت عن تحمّل سنوات الاستبداد، شوارعها مغطاة بتراب الفقر، وأبنيتها القديمة المتهالكة تمثل هزيمة الزمن أمامها. وتلك الأبنية الخرسانية التي احتلت سماءها، مرتفعة كأبراج لسلطة المخابرات، كانت تلوح في الأفق وكأنها عيون لا تغمض، تراقب كل تحركات الناس، حتى أنفاسهم. شوارعها تئن تحت وطأة الإهمال، وأهلها يجرون خطواتهم بين الضيق والمرارة، عيونهم تحمل أعباء كل سنوات القمع والظلم. وفي وسط المدينة، حيث كانت مقرّات حزب البعث كأنها آلهة جديدة، تسيطر على كل زاوية، كانت الجدران المتصدعة للمدينة تنطق بالحزن والخوف، مثلما كان رجال الأمن، بوجوههم العابسة التي لا تعرف الابتسام، يترصدون كل حركة، ويُدخلون الناس في دوامة من القلق المستمر. أمّا المعتقلات والسجون التي كانت تنتشر كخلايا سرطانية، فكانت تُذكر الجميع بأن الحرية في سوريا لم تكن إلا سرابًا.

ماذا نحتاج اليوم؟ كان هذا السؤال يثقل كاهل قلب عمر، وهو يطوف بأرجاء سوريا التي بدأت تنفض عن كاهلها غبار السنين الطويلة من القمع والظلم. هل لدينا القدرة على بناء دولة جديدة؟ دولة تنتصر فيها العدالة لا الاستبداد؟ وبينما كان عقله غارقًا في تلك التساؤلات، لفت انتباهه منظرٌ عابر في زاوية الشارع، مشهدٌ ساده الحزن والشجن، لكنه حمل في طياته دلالات عميقة. لفت انتباهه مشهد رجل مسنّ جالس على الرصيف، يبدو منهكًا، وشاحبًا، وكأن سنوات طويلة من الاعتقال قد تركت آثارها عليه. عيونه الجاحظة وأظافره البارزة كانت تشهد على المعاناة التي مرّ بها في سجون النظام، حيث قضى 35 عامًا من حياته في الظلام.

الأطفال والنساء من حوله كانوا يقدمون له الطعام، يسألونه عن اسمه وحياته المفقودة، لكن ذاكرته الممزقة كانت ترفض أن تعيد له ما ضاع، وكان الرجل يحدق في وجوههم بحيرةٍ عميقة، لا يتذكر من كان، ولا يعرف أين كان يسير قبل أن تبتلعه سجون النظام الغاشم. وفي هذه اللحظة، نهض الرجل المسنّ رغم ضعفه، مسنودًا على عكاز أعطته إياه إحدى جارات الحي، ورغم مُصابه كان عزمه قويًا على مغادرة المكان. بدا وكأن عينيه تريان الأفق رغم كل السنوات الضائعة، وعندما اختفى في الزقاق، شعر “عمر” بإلهام عميق. هذا الرجل، رغم كل ما عاناه، كان يحمل في خطواته روحًا لا تقهر، ويعكس صورة سوريا التي رغم جراحها، ستبقى قادرة على النهوض والمضي قدمًا. همس عمر لنفسه: “الأمر لا يتعلق بتغيير الوجوه فقط، بل بتغيير البنية العميقة للأفكار والمفاهيم التي زرعها الاستبداد على مر السنين”. تلك اللحظة ألهمت عمر بأن سوريا تحتاج إلى بناء جديد على أسس العدالة والمساواة، حيث بدأ يدرك أن الطريق نحو التغيير يبدأ من الأفكار، وأن الشعب السوري، حتى في أسوأ لحظاته، قادر على النهوض والبداية من جديد.

إعادة بناء الدولة: من الاستبداد إلى دولة العدل والمساواة

في طريق الإصلاح السياسي، لا شك أنّ الخطوة الأولى هي إعادة بناء الدولة، وهو ما يتطلب أولاً أن نتخلص من الأنظمة التي أسسها الاستبداد لعقودٍ من الزمن. وكما بدأنا نرى في سوريا اليوم، فإن الإيمان بأنّ العدالة هي الأساس الذي يبنى عليه كل شيء، هو أمرٌ لا بد منه. فإن انتصار سوريا في معركة الحرية لن يتحقق دون تفعيل فصل السلطات في الدولة. “العدل أساس الملك، والملك أساس الدولة”, عبارة ينسبها الناس تارة لأبي حامد الغزالي، وينسبها بعضهم لمجمل أعمال ابن خلدون، ولكن بغض النظر عن القائل فإنّ هذه الحكمة الكامنة في أعماق التراث يجب أن تكون أسلوب عملنا في بناء دولة العدل والمساواة.

لقد عاش السوريون تحت سيطرة نظامٍ كان يحكم فيه فرد أو مجموعة صغيرة تمسك بزمام الأمور كأنّهم يُديرون مزرعة خاصة، وتحدّد مصير المواطنين وتُسيّر حياتهم بمفردها. ولكي نحقق دولة عادلة ورشيدة كما يتطلع إليها الشعب، يجب أن نضع قواعد جديدة، يعمل فيها الجميع على أن يتم توزيع السلطة بين المؤسسات، فكل مؤسسة مسؤولة عن دورها في هذه المنظومة المعقدة، ومن ذلك أن نفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، بحيث تتمتع كل منها باستقلالية تامة، ويُمنع أي تدخل من مؤسسة في عمل الأخرى.

السياسة, ميزان العدل

الدستور الجديد: تجسيد العدالة والمساواة

الدستور، كما هو معروف، هو القانون الأسمى الذي تنبني عليه جميع القوانين والتشريعات في أي دولة. وإذا كنا نتحدث عن بناء سوريا الجديدة، فإن ذلك يعني أننا بحاجة إلى دستور جديد يُجسّد قيم العدالة والمساواة والحرية التي ينادي بها الجميع.

على الدستور الجديد أن يكون أكثر من مجرد نص قانوني؛ بل ينبغي أن يكون تجسيدًا حيًا لتطلعات الشعب السوري في بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة، دولة لا تُبنى على حساب فئات أخرى، وتستمدّ قيمها ومبادئها من الهوية السورية الضاربة في التاريخ والتراث. هذا لا يعني الانفصال عن الواقع أو الخوض في صياغات دستورية مثالية، بل ينبغي أن يعبر عن الواقع السوري المعقد ويأخذ بعين الاعتبار خصوصياته وتاريخه. إنّ التجربة السورية في هذا المجال ليست جديدة، فقد شهدت سوريا في الماضي مشروعًا دستوريًا يعكس تلك التطلعات، فالدستور السوري لعام 1950، الذي كتبته جمعية تأسيسية، كان ثمرة جهد جماعي حقيقي يعكس تطلعات الشعب ويضع تمثيله في قلب عملية صياغة القوانين الأساسية. ويحضرني في هذا السياق مقولة لتوماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية، والتي وردت في إعلان الاستقلال لعام 1776: “إننا نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية، وهي أن جميع البشر خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقًا غير قابلة للتصرف، ومن بين هذه الحقوق الحياة والحرية والسعي إلى السعادة، وأن الحكومات أنشئت بين البشر لضمان هذه الحقوق”. ورغم أن هذه المقولة قد أُريد بها تبرير أفعال الاستعمار والتوسع الإمبريالي الذي مارسته الولايات المتحدة ضد الشعوب الأصلية، مما شكل جزءًا من أسوأ أشكال الظلم والاستعباد، إلا أن هذه المبادئ نفسها تبقى صائبة على المستوى الإنساني. إن ما نراه من تنامي وتطبيق هذه القيم هو انعكاسٌ لحاجة البشرية الماسة إلى العدالة والحرية، وهي المبادئ التي يجب أن يُستمد منها توجيه مسار الإصلاح الدستوري في سوريا اليوم.

قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، شهد العالم تأسيس واحد من أرقى وأعدل الدساتير التي عرفتها البشرية، وذلك في وثيقة المدينة، إحدى أسمى نماذج التعايش بين الأمم والشعوب المختلفة، حيث أسس هذا الدستور الفريد لقاعدة فريدة من التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والمشركين على حد سواء. هذا الدستور لم يقتصر على تنظيم شؤون المدينة وحمايتها من التهديدات الخارجية، بل وضع أيضًا مبادئ راسخة تضمن حقوق جميع الطوائف والمجموعات في إطار من العدالة والمساواة. إذ لا يعترف دستور المدينة بأي شكل من أشكال التمييز بين الأديان والمعتقدات، بل يشجع على العيش المشترك بسلام تحت راية العدل والمساواة اللذان يُستمدان من مبادئ الإسلام العليا، ويعمل على ضمان حرية الدين وحماية الأمن لكل فرد في المجتمع. وقد نبذ هذا الدستور كل أنواع الظلم والتفرقة، مؤكداً أن حقوق الأفراد متساوية، وأن العدالة يجب أن تسود في كافة جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية.

إن وضع دستور يحقق العدالة والمساواة يتطلب خطوة جوهرية تتمثل في تشكيل جمعية تأسيسية تمثل تنوعاً مُجتمعياً، وتضم جميع أطيافه، بحيث يكون لكل صوت مكانه في عملية صياغة القوانين. يجب أن تُعتبر آراء المواطنين محورية في هذه العملية، عبر مشاورات مجتمعية واسعة تتيح للشعب أن يكون شريكًا حقيقيًا في بناء النظام الذي سيحكمه. من خلال هذه التفاعلات، يتولد نص دستوري يعكس القيم الأساسية التي يسعى المجتمع لتحقيقها، ويراعي الحقوق الإنسانية التي لا يمكن التفريط فيها. أحد الأعمدة التي يجب أن يقوم عليها الدستور هو ما ذكرناه سابقا حول مبدأ فصل السلطات لضمان عدم احتكار القوة في يد واحدة، مما يحفظ التوازن بين المؤسسات الحكومية ويعزز من استقلال القضاء.

كذلك، لا بد من تعزيز الشفافية والمساءلة في كافة جوانب العمل الحكومي، من خلال آليات رقابية فعالة تضمن عدم استغلال السلطة لمصالح شخصية أو فئوية. ولا يمكن للعدالة أن تكون ذات معنى إذا لم تُسَهل انتخابات حرة ونزيهة تمثل إرادة الشعب بصدق، وتضع آليات فعّالة لضمان هذا التمثيل الحقيقي. ومّما سيُعزّز مسألة ضمان استدامة النظام السياسي، وجود آليات واضحة لمراجعته بشكل مستمر، بحيث يواكب التحولات المستقبلية ويعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية. وأخيرًا، لا بد أن يحظى الدستور بتمثيل مُجتمعي حقيقي، من خلال عرضه للاستفتاء الشعبي ليحصل على شرعيته من الشعب مباشرة، مما يجعله معبرًا عن إرادته الجماعية ويساهم في بناء الثقة بين المواطنين ونظامهم السياسي.

السياسي في سوريا الجديدة من الاستبداد إلى العدل2 الإصلاح السياسي في سوريا الجديدة: من الاستبداد إلى العدل

الانتخابات الحرة والنزيهة: ضمان إرادة الأمة

الانتخابات تشكل الركيزة الأساسية لتحقيق أي إصلاح سياسي حقيقي، فبدونها لا يمكن تصور نجاح أي مشروع سياسي. هي الوسيلة الوحيدة التي تُمكن الشعب من التعبير عن إرادته الحرة، ومن دون انتخابات حرة ونزيهة، تظل وعود الإصلاح مجرد شعارات. كما أن القول بوجود دولة حرة وراشدة يبقى فارغاً ما لم تكن الانتخابات الشفافة هي المعيار الأول لتمثيل إرادة الشعب بكل فئاته. هذا ما يعكسه قول الله تعالى في قوله: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر” (آل عمران: 159)، الذي يُعد أساساً لتأصيل مفهوم الشورى في السياسة الإسلامية. وفي هذا السياق، يُعتبر الدكتور يوسف القرضاوي من أبرز المفكرين الذين تناولوا مسألة شكل الدولة والانتخابات في العصر الحديث. حيث يرى القرضاوي أن الدولة الإسلامية يجب أن تتكيف مع ما تتوصل إليه البشرية من نظم حديثة، شرط أن تكون الشريعة الإسلامية هي الإطار الذي يحكمها. ويركز القرضاوي على مبادئ الشورى والعدالة والمساواة، ويؤكد على الحرية واستقلال القضاء، ويضع محاسبة الحكام ومراقبة الفاسدين كأولوية في الدولة الحديثة، إضافة إلى العمل على نشر المعرفة والفكر والتربية.

أما في السنة النبوية، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في الأمور الهامة، مما يعكس أهمية المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “المشورة حصن من الندامة، وأمان مــن الملامة”، ما يدل على أهمية التشاور الجماعي في ضمان اتخاذ قرارات تراعي مصلحة الجميع. في ضوء ذلك، يمكن فهم الانتخابات الحرة والنزيهة في الإسلام كمبدأ ينبني على الشورى والمشاركة الفعالة من كل أفراد المجتمع، لضمان أن تكون قرارات الحاكم تمثل إرادة الأمة وتحقق العدالة والمساواة بين الجميع. وقد قال العرب قديما: الخطأ مع الاسترشاد أحمد من الصواب مع الاستبداد.

وفي علم المقاصد، يُعتبر تحقيق العدل وحفظ الحقوق من أهم الأهداف التي تسعى الشريعة الإسلامية لتحقيقها، مما يضمن للشعب حقه في المشاركة السياسية والتعبير عن إرادته. من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة، تتحقق هذه المقاصد بشكل عملي، حيث يُعطى لكل فرد من أفراد الأمة الحق في اختيار من يمثله ويقوده. ومن المقاصد الكلية التي تُستمد من الشريعة الإسلامية هي تحقيق المصلحة العامة ودرء المفاسد. ففي سياق الانتخابات، يكون انتخاب القادة والمسؤولين من خلال عملية شورية حرة هو الوسيلة المثلى لضمان أن الحكومة ستكون مسؤولة أمام الشعب وتهدف إلى تحقيق المصلحة العامة. أيضًا، حفظ الضروريات من مقاصد الشريعة، ويمكن ربطه بحقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في المشاركة السياسية التي تضمن للناس القدرة على تحديد من يمثلهم ويختار سياساتهم. هذا يتماشى مع المبدأ الإسلامي في العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، حيث إن الحاكم يجب أن يتعامل مع الشعب وفقًا لمبدأ الشورى، التي تجسد المشاركة الفعالة.

بناءً على ذلك، يمكن القول بأنّ الانتخابات الحرة والنزيهة في الإسلام ليست مجرد حق سياسي، بل هي وسيلة لتحقيق أهداف عليا في الشريعة الإسلامية، مثل العدالة والمساواة، وضمان تمثيل إرادة الأمة، وهي تتسق مع مقاصد الشريعة التي تسعى إلى حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل.

تعزيز المشاركة السياسية: التعددية والشراكة في بناء المستقبل

ما لم نُعزز المشاركة السياسية لجميع أفراد المجتمع، فإن الحديث عن دولة العدالة والرشد سيكون مجرد شعار فارغ. يجب أن يتاح للجميع الحق في المشاركة السياسية، ويجب أن يكون هناك آليات تُسهم في تعزيز المجتمع. نعني بالمشاركة السياسية تجاوز الانتخابات فقط، لتشمل تفاعلاً مستمرًا مع المؤسسات السياسية، مع التأكيد على دور الشباب في الحياة السياسية إذ هم روح التغيير ومادّة البلد، وممّا يُساهم في ذلك تعزيز دور منظمات مجتمع مدني فعالة، وتنظيم الأحزاب السياسية بحيث تتنوع رؤاها، ولا تهيمن عليها قوى معينة.

قدّم المفكر السياسي الإيطالي أنتونيو غرامشي رؤية عميقة حول التعددية السياسية، إذ لا يراها مجرد تعدد للأحزاب والحركات، بل هو تعبير عن التنوع الغني للمصالح والآراء في المجتمع. كما أكد أن أي نظام ديمقراطي حقيقي لا يمكن أن يزدهر دون أن يعكس هذا التنوع، ويعطي الفرصة لجميع الأطراف للتعبير عن آرائهم، موضحًا أن قبول الاختلافات والاعتراف بها هو أساس الحياة السياسية السليمة. من جانبه، قدّم المفكر المصري محمد سليم العوا، وهو من أبرز المفكرين المعاصرين الذين تناولوا التعددية السياسية من منظور إسلامي، تحليلاً عميقًا لهذا المفهوم، مستندًا إلى منظومة القيم الإسلامية. في مقاله “التعددية السياسية من منظور إسلامي”، يقول العوا: “التعددية تعني التسليم بالاختلاف كواقع لا يمكن إنكاره، وتأكيد حق المختلفين في التعبير عن أنفسهم، حيث لا يملك أحد، سواء كان فردًا أو سلطة، حق حرمانهم من هذا الحق.”

ولتحقيق المشاركة السياسية الفاعلة والتعددية في بناء المستقبل السياسي لسوريا الجديدة، يتطلب الأمر تبني استراتيجية شاملة ترتكز على تعزيز الوعي السياسي وتوسيع دائرة المشاركة لتشمل جميع فئات المجتمع. وأول ما ينبغي العمل عليه، تعزيز التثقيف السياسي من خلال حملات توعية وبرامج تعليمية تستهدف المواطنين وتحثهم على فهم دورهم المحوري في الانتخابات وتأسيس النظام السياسي، مما يساهم في بناء مجتمع متفاعل وواع. ثمّ، يتعين ضمان تمثيل عادل وشامل عبر تشريعات تضمن حقوق جميع فئات المجتمع في عملية اتخاذ القرار السياسي. لا تقتصر هذه الإجراءات على النواحي القانونية فحسب، بل تشمل أيضًا بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين من خلال سياسات عادلة تضمن توزيعًا منصفًا للثروات والفرص. إن المشاركة السياسية ليست مجرد حق، بل هي حجر الزاوية لبناء دولة قوية ومزدهرة، ويجب أن يكون كل فرد في المجتمع شريكًا في صياغة المستقبل، ليعيش الجميع في وطن يستحقون فيه الحرية والكرامة.

السياسي في سوريا الجديدة من الاستبداد إلى العدل الإصلاح السياسي في سوريا الجديدة: من الاستبداد إلى العدل

التجارب العالمية: دروس من التحولات الديمقراطية

في سبيل تحقيق الإصلاح السياسي في سوريا الجديدة، من المفيد دراسة تجارب بعض الدول التي مرت بتجارب تحول سياسي مشابهة وفي هذا السياق، يجب أن نتعلم من تجارب الأمم التي اجتازت محطات مماثلة. ومن أهم التجارب التي ينبغي الاطلاع عليها، إندونيسيا كمثال على تحول سياسي ناجح. في عام 1998، عقب سقوط حكم الرئيس سوهارتو والذي حكم بيد من حديد على مدى 32 عاما، بدأت إندونيسيا في التحول من ديكتاتورية سوهارتو إلى دولة أكثر عدالة ونزاهة. كان النظام الاستبدادي قد خنق التعددية السياسية وأقام قيودًا كبيرة على الحريات، ولكن مع الإصلاحات الدستورية، والتحول السياسي التدريجي، استطاعت إندونيسيا إجراء انتخابات حرة، مما مهد الطريق لعهد جديد من الاستقرار السياسي.

أما البرتغال، فقد عانت من حكم ديكتاتوري دام لعدة عقود حتى 1974، ومع “ثورة القرنفل” التي أزاحت النظام الاستبدادي وأطاحت بسنوات إستادو نوفو الدكتاتورية، بدأت البرتغال عملية إصلاح سياسي كبيرة استهدفت إنشاء نظام ديمقراطي حديث، قائم على تعددية سياسية وحريات أساسية. هذه التجربة تعطينا أملاً بأن التحول السياسي من الاستبداد إلى دولة الحرية والعدالة ممكنًا مهما كانت التحديات. كان الشعار الجامع الذي نادى به الثوار في ثورة القرنفل هو:

“Povo unido, jamais será vencido”، والذي يعني “الشعب الموحد لا يُهزم أبدًا”, وليس ببعيد عنّا أحد أهم شعارات الثورة السورية التي ردّدها الثوّار في كلّ ميدان وجامع وزقاق: “واحد واحد واحد, الشعب السوري واحد”, وكأنّ مشاريع الحرية في العالم رحمٌ بين أهلها.

تجربة تونس تعد واحدة من أكثر التجارب المثيرة للاهتمام في العالم العربي. بعد انتفاضة 2011، كانت تونس أمام تحدي كبير: كيف يمكن أن تنتقل من حكم مستبد إلى نظام يضمن إصلاحاً سياسياً للمنظومة القديمة؟ وفي هذا الصدد، كانت الانتخابات الحرة في عام 2014 محطة فارقة، إذ أفرزت نظامًا برلمانيًا جديدًا، مع توافق واسع بين القوى السياسية المختلفة. إلا أن الثورة في تونس تعرضت لضغوطات عديدة من الدولة العميقة وللانقلاب الجزئي، والتدخّلات الخارجية الكثيرة التي سعت لإجهاض هذه التجربة الواعدة ومحاولاتها إعادة تشكيل الواقع السياسي لضمان مصالحها، مما أثر سلبًا على استقرار التحول السياسي. ففشل التحول السياسي في تحقيق كامل أهدافه، رغم النجاحات في بعض الجوانب.

ختامًا: الإصلاح السياسي أفق المستقبل

مرت سنوات منذ أن بدأ عمر في مشواره، واليوم وهو يستعيد ذكريات تلك اللحظات التي غيرت حياته، يتذكر كيف كان يقف مع آلاف السوريين في الميادين، رافعًا علم الثورة السورية بكل فخر، مرددًا أهازيج الساروت، يستقبل الفاتحين الذين جاءوا من شمال سوريا، من إدلب الثورة، يحملون معهم أكثر من مجرد سلاح. كانوا يحملون 14 عامًا من الثورة، وتجربة الحرية، بل كل الأمل في أن يظل هذا الحلم حيًا. كانت تلك اللحظات بمثابة تأكيد على أن هذا الشعب قادر على التغيير، وأن الثورة السورية ليست مجرد لحظة عابرة في التاريخ، بل هي بداية لنضال طويل نحو دولة العدل والمساواة. واليوم، لا يزال حلم سوريا الجديدة يتصاعد، وتبقى مسيرتنا في إعادة بناء هذا الوطن على أسس عادلة ثابتة. وإننا على يقين بأن هذا الطريق الطويل سيكلله النجاح، إذا ما تمسكنا بالعدالة كأساس لبناء الدولة.

أما دمشق، كما في حلب، وحماة، وحمص، دخل الثوار الفاتحون أرض سوريا، مكبرين، آمنين مطمئنين. كانوا يحملون في قلوبهم أحلامًا كبيرة ووعودًا لشعبٍ صبر طويلاً على الألم. استقبلهم أهل الشام بقلوب مفتوحة وأيدٍ مرفوعة، مجددين العهد بالحرية والكرامة. كان كل شارع وكل زاوية تنبض بالأمل والحياة، وكان لكل خطوة على الأرض قصة تُكتب بعناية، قصة جديدة لسوريا لا تشبه غيرها من القصص، بل هي قصة الأمل والحرية في زمنٍ طال فيه الانتظار.

في المقال القادم، سنتناول النهضة الاقتصادية في سوريا الجديدة: كيف نعيد بناء سوريا على أسس مستدامة، بما يضمن لمواطنيها حياة كريمة ومستقبلًا مشرقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى