المقدمة:
تمثل هذه المداخلات والتعقيبات إسهامًا تأمليًا متواضعًا بين يدي البحث العلمي الرصين الذي أنجزه الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي، ونشره على هيئة سلسلة علمية متتابعة بــ “موقع حكمة يمانية”. وهي ليست سوى قراءات تأملية وتعليقات توسيعية تهدف إلى تسليط مزيد من الضوء على بعض مضامين هذا العمل النوعي، واستكشاف أبعاده من زوايا نظر مختلفة، مع التوقف عند بعض محاوره التي بدت – من وجهة نظري كقارئ – جديرة بالتوسيع والتعميق لما تنطوي عليه من دلالات فكرية وتاريخية وتربوية بالغة الأهمية. إنها قراءات موازية تنبع من أثر ذلك البحث في قارئه المتأمل، وتتغذى على نوره، وتتحرك في ظله، محاولة أن تلامس بعض أطرافه، أو تتوسع في مفاصله التي رآها الناظر جديرة بالتأمل.
وهي محاولات متواضعة للسير في ظلال بحث البروف الدغشي، الذي بثّ في بحثه ومن خلاله، روح المجتهد، وضمير المؤرخ، ونَفَس المصلح. وما تطرحه هذه التعقيبات من رؤى موسعة أو إضافات تفسيرية، إنما هو نظرٌ من زوايا أخرى إلى ذات المشهد، أو إضاءة موضعية على مفاصل رآها الناظر ذات دلالة خاصة أو راهنية ملحّة. ولئن بدت هذه الإسهامات مسعى لتوسيع الأفق أو تعميق بعض المعاني، فهي لا تدّعي لنفسها مقام المكافئ للبحث الأصل، ولا أن تبلغ شأوه في الجمع بين أصالة المنهج وحيوية الطرح ودقة الاستدلال. بل إنها – في حقيقتها – تجلٍّ من تجليات أثر ذلك البحث في قارئه، وتفاعل وجداني وفكري معه، لا اجتهاد منفصل عنه.
وما أقدّمه هنا هو اجتهاد قارئ مأخوذ بجدة الطرح وجرأته المنضبطة، ومتأثر بثراء الرؤية التي أودعها الباحث في عمله، الجامع بين التوثيق والتحليل، بين المساءلة العلمية والوفاء للتراث. وهي تعليقات تسعى لا إلى الإضافة من خارجه، بل إلى التفاعل معه من داخله، إذ تستمد شرعيتها ومشروعيتها من النص الأصل، لا من فرادة قائِلها. لقد جاء بحث البروفيسور الدغشي كنبعٍ حيّ، يتدفّق بين ضفتي المنهج والتجديد، فكان لا بدّ من السعي إلى الإصغاء لمائه، لا لتكراره، بل لاستنطاق بعض ما غاب في جوفه، أو التوقف عند بعض زواياه الفكرية التي تستحق – في تقديري – مزيدًا من الإنارة. هي إذًا ومضات لا تزاحم، بل تعانق؛ أسئلة لا تزعج، بل توقظ.
وإن كان في بعض هذه الوقفات تعقيب أو رأي مغاير، فذاك من جوهر المنهج الذي سلكه البروف الدغشي نفسه، حين أكّد – لا بالنصوص فحسب، بل بالمثال الحيّ – أن التقدير لا يقتضي الذوبان، وأن الاحترام لا يعني أن يكون القارئ ظلًا للكاتب، أو التلميذ نسخة من الأستاذ، بل شريكًا في المسير، وإن اختلفت الخطى، لكن الهدف في النهاية واحد. وهو بالفعل ما شجّع ـ ويشجع ـ عليه البروف الدغشي باستمرار، من خلال ما رأيناه من روحه العلمية المتسامحة، ومنهجه الذي يجمع بين الوقار المعرفي والانفتاح النقدي. ولذا، فالتقدير العميق لجهده لا يفضي إلى التماهي الكامل مع كل رأي ورد في بحثه، بل يفتح أفق الحوار معه، بوصفه قدوة في المنهج ومرجعًا في الفهم، حتى وإن تباينت الرؤى والاجتهادات في بعض التفاصيل.
وإذا بدت هذه الإضافات كأنها مساهمة في توسيع الأفق أو توجيه البصر إلى زوايا مهملة، فإنها تظل في جوهرها إشارات متواضعة، لا ترتقي إلى سعة الجهد المبذول في البحث الأم، ولا تداني ما اتسم به من عمق وتأصيل ونَفَس إصلاحي نادر. وهي كما قيل:
أهدي لمجلسه الكريم وإنما
أهدي له ما حزتُ من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله
فضلٌ عليه لأنه من مائه
فإن بدت هذه المداخلات مطرًا، فهي من مائه، وإن أوحت بإثراء، فإنها من أثره، تعبيرًا عن الامتنان، ومواصلة للحوار العلمي الذي بدأه، لا ادعاءً بمنافسته. كل ما هنا، ظلّ لما هناك، وامتدادٌ لصوتٍ أصيل لا نملك حياله إلا أن ننصت، ثم نحاول، بامتنان، أن نجيب، وقد أجبنا، فكانت هذه التعليقات والمداخلات.
1ـ من ضيق المذهب إلى سعة الإسلام: المجددون اليمنيون وتجربة التحرر من النسق المغلق.
يُعد هذا البحث للأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي في جزئه الأول معالجة عميقة وواعية لظاهرة التحوّل المذهبي في السياق اليمني، من زاوية تجمع بين التأصيل الفقهي والتحليل الفكري والنقد المعرفي. يتجاوز البحث الطابع السردي ليطرح إشكالية مركزية تتعلّق بالحدّ الفاصل بين التجديد داخل المذهب والانفكاك عنه، ويقدّم معايير دقيقة لتفكيك هذه الظاهرة. ومن منظور تربوي وفلسفي، فإن تجربة هؤلاء المجددين تمثل تجليًا نادرًا لشجاعة العقل المسلم حين يتحرّر من أسر التمذهب، في ظل بيئة معرفية سمحت –ولو نظريًا– بحرية الاجتهاد. إن انفتاح المذهب الزيدي الهادوي، رغم ما يشوبه من تناقضات تطبيقية، أتاح لهؤلاء العلماء تأسيس تيار فكري يحاور الكل، ولا ينغلق على الذات. وهذه الروح من الجرأة النقدية والمراجعة المتأنية، جديرة بأن تكون مصدر إلهام في تربية العقل المسلم المعاصر، تربيةً لا تكتفي بتكرار الموروث، بل تتجاوزه بوعي واحترام. كما يبرز هذا الجزء أهمية التفريق بين “التحول” و”التمرد”، وبين “التحرر” و”الفوضى”، إذ أن المجددين المشار إليهم في البحث (ابن الوزير، والصنعاني، والشوكاني) لم يكونوا خصومًا للتقليد لمجرد الخروج، بل كانوا أبناءه البررة الذين راجعوه بصدق، حين قصُر عن مواكبة حاجات العصر. إن التربية الإسلامية، كما يؤكد هذا الجزء من البحث، لا تكتمل بدون تأسيس المتعلّم على مبدأ الشجاعة المعرفية، والنظر الحرّ، والانفتاح المسؤول، وهو ما جسّده هؤلاء المجددون في مسيرتهم الجريئة.
ولطالما شكّل مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي سؤالًا دائم التجدّد، تتقاطع عنده هموم الأصالة مع تطلعات المعاصرة، ويتجاذبه حرص على صيانة الهوية وخوف من الارتحال خارج المألوف. وفي السياق اليمني، حيث تداخلت المدارس المذهبية وتراكبت التقاليد العلمية على مدى قرون، يبرز “التجديد” لا بوصفه خيارًا معرفيًا فحسب، بل كمسار وجودي تتقاطع فيه العقيدة، والسياسة، والهوية الجماعية. في هذا الإطار، يقدّم البروف الدغشي في هذا الجزء من بحثه المعنون: “المجددون في اليمن: مجتهدون في المذهب أم متحوّلون عنه؟”، مساهمة نوعية في قراءة مسار عدد من العلماء والمجددين اليمنيين الذين حاولوا عبور الفضاء المذهبي التقليدي إلى أفق إسلامي أكثر رحابة، دون أن يتنكروا بالضرورة لمرجعياتهم الأولى. وقد طرح هذا البحث أسئلة بالغة الأهمية: هل استطاع هؤلاء العلماء التجديد من داخل المذهب، أم أنهم تجاوزوه فعليًا؟ ما الحدود الفاصلة بين الاجتهاد الشرعي والتحوّل المنهجي؟ وأين يتقاطع المشروع الفكري لهؤلاء مع الأفق المقاصدي العام للإسلام؟
يطرح البروف الدغشي بذكاء الفرق بين التجديد كحراك داخل المذهب، والتجديد كتحول إلى “الإسلام العام”. وهو تمييز بالغ الأهمية، لأن كثيرًا من دعاوى التجديد قد تُفهم خطأ على أنها تنتمي إلى الفضاء الإسلامي الكلي، بينما هي لا تعدو أن تكون مراجعات جزئية ضمن نسق مذهبي خاص. ويظهر هذا التوتر جليًا في مسارات مجددين يمنيين مثل الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، الذي بدأ نقده من داخل المدرسة الهادوية، قبل أن ينفتح على المرويات السنية، بل ويتبنى المنهج الأصولي السني في التوثيق والتصحيح، كما في كتابه “الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم”، مما أثار عليه عواصف من النقد، بلغت حد الاتهام له بالخروج عن المذهب بل والدين.
وتمييز آخر مهم، يشير إليه هذا الجزء من البحث ضمنًا، هو الفرق بين المذهب بوصفه نسقًا علميًا قابلًا للمراجعة والنقد، وبين المذهب بوصفه هوية جمعية وثقافة جماعية. وحين يمسّ المجدد بنية المذهب، فهو لا يصطدم فحسب بمقولاته، بل بمنظومته الوجدانية والاجتماعية والسياسية أيضًا. وهنا يتحول النقد إلى “ردة”، والاجتهاد إلى “خيانة”. وقد كان المجددون أنفسهم يدركون ضيق المذهب أمام سعة الإسلام. وقد عبّر عن ذلك ابن الوزير بقوله: “لا أتعصب إلا للحق، ولا أرى لمذهب يلزمني إن خالف السنة”. وكذلك قال الشوكاني: “قد طالعت ما لا يُحصى من كتب الأئمة المجتهدين، فما وجدت مذهبًا تامًا ولا قولًا سالمًا من الاعتراض، فعلمت أن المذهب الحق هو ما وافق الدليل، لا ما وافق الرجال.” بهذه الروح، يمكن القول إن التجديد هنا لا يتطلب الخروج على المذهب بقدر ما يسعى لتحرير المذهب من أسر ذاته، ورده إلى مرجعية الكتاب والسنة.
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل يستطيع المجدد أن يظل داخل المذهب وهو ينسفه من الداخل؟ وهل تقبل البنية المذهبية تحولًا جذريًا لا يؤدي بالضرورة إلى القطيعة؟ أم أن مجرد الانفتاح على “الآخر المذهبي” كافٍ لاعتبار المجدد متحولًا؟ ويظهر أن التحول هنا ـ كما يتبدى لنا وكمحلولة للإجابة على السؤال أعلاه ـ يبدو اضطرارًا في وجه جدار الرفض، لكنه أيضًا خيار فلسفي عميق، يعكس وعيًا بأن المذهب قد لا يكون صالحًا لحمل الحقيقة كاملة، بل هو محطة على طريق التحرر المعرفي. ولذلك، لم يعد “الاجتهاد داخل المذهب” كافيًا، بل أصبح “التحول عن المذهب” شرطًا للوفاء لروح الإسلام نفسه، وهذا ما سيثبته بحث البروف الدغشي في آخر أجزائه.
كما يُظهر هذا الجزء من البحث أن تحوّل عدد من المجددين في السياق اليمني من دائرة الاجتهاد المذهبي إلى أفق أوسع لم يكن دومًا خيارًا واعيًا منذ البدء، وأقصد بواعيا هنا أنه لم يكن مقصودا لذاته، بل كان أحيانًا نتيجة لصدمات وصدامات معرفية أو صراعات داخل الحقل المذهبي نفسه. حيث كان عدد من المجددين – مثل ابن الوزير، والشوكاني، والصنعاني – قد بدأوا بمحاولات اجتهادية إصلاحية من داخل المذهب الزيدي، فقد سعوا إلى ترشيد أصوله، ونقد غلوّه في بعض المسائل، خاصة في باب الإمامة وأصول الاعتقاد، واستدعاء معايير الحديث النبوي الصحيح كما تطورت أسسه لدى المحدثين السنّة. هذه المحاولات لم تكن موجهة ضد المذهب كهوية، بل كانت مفعمة بروح الإصلاح، واستعادة الوصل مع النص القرآني والسنة النبوية، لا سيما بعد أن لمس هؤلاء المجددون تراكب الحشو الكلامي والتقليد الفقهي وتراكمه على حساب الوحي. ومع وجود هذه الروح التجديدية الواعية من هؤلاء المجددين، إلا أن متعصبة المذهب لم يقبلوا اجتهاد هؤلاء من الداخل، بل قوبل اجتهادهم بالهجوم والإقصاء. وفي هذا السياق يعرض البروف الدغشي نماذج من ردود خصوم ابن الوزير، الذين لم يناقشوا أطروحاته بعقلانية، بل طعنوا في نياته وأمانته، واتهموه بالزيغ والانحراف. هنا، تتحول الساحة العلمية إلى ميدان محاكمات أيديولوجية، مما يسرّع بالانفصال العاطفي والمعرفي مع الجماعة المذهبية.
ويتوسع البروف الدغشي في تحليل ما يسميه “التحوّل إلى الإسلام العام”، وهو توصيف بالغ الذكاء يعبّر عن نزعة بعض المجددين إلى تجاوز الانتماء المذهبي لا إلى مذهب آخر، بل إلى الإسلام نفسه بوصفه الكل المرجعي الشامل. وما ميّز أمثال الشوكاني والصنعاني، أنهم لم يغادروا الزيدية إلى أحد المذاهب السنية كالشافعية أو الحنبلية أو المالكية أو الحنفية مثلًا، بل غادروا المذهبية ذات الطابع التعصبي نفسها، بوصفها تقييدًا لحركة الفهم، وضغطًا على حرية التأويل. فالشوكاني مثلاً في “نيل الأوطار” و”إرشاد الفحول” لا يُخضع الاستدلال إلا لسلطة الدليل، ويضرب بأقوال الأئمة عرض الحائط إن خالفت النص أو المعقول. وبهذا يتحول المجدد من “فقيه مذهبي” إلى “عالم قرآني”، ومن “مُفسر تقليدي” إلى “مجتهد حر”. وهكذا يتعامل مع الكتاب والسنة بلا وساطة مذهبية. فمن استغنى بدليل الوحي عن تقليد الرجال، فقد سلك سبيل المؤمنين الأولين، وخالف سبيل المتعصبين المتأخرين، وفق رؤية الإمام الشوكاني.
لكن هذا المسار بالنسبة لهؤلاء المجددين لم يكن نزهة، بل مجازفة وجودية كلّفت المجددين الكثير من العنت، كالإقصاء، والاتهام، أحيانًا بالعقوق، وأحيانًا بالزندقة. وقد واجه الصنعاني هجومات عدة من جميع الجهات، حتى من تلامذته. ومع ذلك، واصل مساره بثقة، لأنه رأى أن الانتماء للإسلام أوسع من أي إطار فرعي. والسؤال المنهجي هنا: هل يمكن فعلاً التحرر من كل مذهب؟ أم أن كل قراءة تحمل في طياتها نسقًا ضمنيًا؟ يجيب المجددون في هذا السياق بلسان الحال بأن المذهب ليس مشكلة في ذاته، وإنما المشكلة في تعصّب أتباعه. ولذلك، فإن “الإسلام العام” ليس نفيًا للتخصص أو الموروث، بل تحررًا من القيود المذهبية عند تعارضها مع الدليل.
ومن الإنصاف في هذا السياق القول بأن البروف الدغشي قد بذل جهدًا لافتًا في عرض وتحليل ردود خصوم المجددين اليمنيين، وهي ردود لا تكشف فقط عن الخلافات العلمية، بل – وربما قبل ذلك – عن بنية ذهنية تقليدية خائفة من التجديد، وعاجزة عن احتوائه. فأغلب الردود التي تعرض لها ابن الوزير مثلًا، لم تتناول نقده بعلمية، بل انشغلت باتهامه في الدوافع والنيات، بلغة تتراوح بين الاستخفاف، والتخوين، والتبديع. وهذا النوع من الردود يكشف فقرًا في الحِجاج العلمي، وغلبة للعقل الغريزي على العقلي. وعليه، فحين تُعتبر المراجعة خروجًا، يتحول الفكر إلى منطقة محرمة. وفي السياق نفسه تعامل خصوم الشوكاني مع كتابه “إرشاد الفحول” بوصفه “ضربًا في الدين”، لأنه لم يلتزم بالحدود المرسومة لأصول الفقه الزيدي، بل نقدها بلغة ساخرة أحيانًا، وحجج محكمة. وهذه الردود تكشف عن غياب ثقافة الاختلاف داخل النسق الزيدي التقليدي، بل عن ضعف قابلية “المذهب” لاحتواء الاجتهاد حتى من أبنائه. فهل كان المجددون ضحايا إغلاق مذهبي؟ أم روّاد وعي سابق لأوانه؟ لقد عانى المجدد من عزلة مزدوجة: رفض داخل مذهبه، وسوء فهم من الخارج. فهو “متحول” بالنسبة للزيديين، و”زيدي سابق” لا يؤتمن بالنسبة لبعض المتعصبين من السنّة. لكن هذا العبور المأساوي هو ما يصنع مفكرًا حقيقيًا، كما يصنع جسورًا جديدة في تاريخ المعرفة الإسلامية.
ويضعنا هذا الجزء من البحث أخيرا أمام مشهد فكري مركب يتجاوز السرد التاريخي لحركة الاجتهاد في اليمن، إلى مساءلة عميقة لحدود المذهبية، وجدلية الانتماء والمعرفة، والصراع بين النص المؤسِّس والنسق المؤسَّس. لقد جسّد المجددون اليمنيون، من أمثال ابن الوزير، والشوكاني، والصنعاني، نماذج حية لعقول تمردت على القوالب الجاهزة، لا بدافع المغامرة، بل من منطلق الوفاء للنصوص، والتجرّد للحقيقة، والحرص على إحياء روح الوحي في مقابل سطوة الموروث. كما يكشف هذا الجزء من البحث أن المجددين لم يبدأوا بالقطيعة، بل بالإصلاح من الداخل، وأن خروجهم لم يكن تمرّدًا على الدين، بل خروجًا من تضييق المذهب إلى سعة الإسلام. فقد عرّت تحولاتهم المحددات الإقصائية داخل النسق الزيدي التقليدي، وأظهرت أن “الاجتهاد المقنّن” داخل الحدود المذهبية قد يتحول إلى نوع من “الطاعة المعرفية”، وأن الإخلاص للحق قد يقتضي تجاوز الولاءات المذهبية نفسها. إن المستقبل المرجو للفكر الإسلامي، كما توحي به سيرة هؤلاء المجددين، هو مستقبل ما بعد المذهبية المتعصبة، لا بمعنى نفي التراث، بل تحرير العقل المسلم من اختزاله في مذهب، أو اختصاره في فرقة. وهو أفقٌ لم يكتمل بعد، لكنه يبدأ من مساءلة الماضي، ومن شجاعة نقده، لا من تكراره.
2ـ المجُدِّد كغريب: تأملات في اغتيال العقل داخل المذهب.
يتناول الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي في الجزء الثاني من بحثه الموسوم بــ (الاجتهاد المغدور: أزمة التجديد في المذهب الزيدي من الوزير إلى الشوكاني)، يتناول المفارقة المؤلمة بين النظرية والتطبيق في المذهب الزيدي، حيث ينصّ المذهب –نظريًا– على مبدأ (جواز الاجتهاد)، ويقدّم نفسه كمدرسة منفتحة على العقل والتعدد، لكنه في الممارسة التاريخية انزلق إلى حالة من الجمود والانغلاق، حتى أصبح الاجتهاد مغدورًا باسمه. كما أن التنظير الزيدي –لا سيما عند أمثال الإمام الهادي– لم يكن منغلقًا على الجمود، بل كان يستبطن قابلية للتعدد والاجتهاد، وهكذا المدارس الفقهية والفكرية في بداياتها، قد تجنح إلى المثالية في تنظيراتها، إلا أن ما حدث بعد ذلك هو تشكّل ذهنية مذهبية تقليدية، تصدّت لكل محاولات التجديد باسم الحفاظ على (أصول المذهب)، وجعلت من أقوال الأئمة معيارًا للحق بدلًا من العكس. وما تناقله بعض أهل العلم عن القاضي أحمد بن أحمد سلامة (1915- 1987م)، عندما بدأ يسأل من كان يدرسه عن مسائل حول بعض القضايا الفقهية، وعندها ضاق به هذا الأستاذ ذرعا، قال له: (بطّل نخدده)، ويقصد هنا: توقف عن البحث، وسلم بما تسمع، ولا تكثر التنقيب عن مسائل ليس لها دليل، أو تتعارض مع دليل صحيح صريح.
كما يكشف بحث البروف الدغشي في هذا الجزء كيفية استثمار بعض النصوص (التأصيلية) للجمود –مثل اشتراط أن يكون الإمام مجتهدًا مطلقًا– لا لفتح باب الاجتهاد، بل لتعزيز سلطة التقليد، وتحويل (أقوال المجتهدين السابقين) إلى حدود لا يجوز تجاوزها، وهذه المعضلة لم يسلم منها حتى أتباع المذاهب السنية الأربعة. ولفظ “المجتهد المطلق” هكذا بدون تحديد يحمل معنى الإطلاقية المفتوحة، وضبطه فيه إشكال ويوهم بالكمال ولا كمال كما يبدو لي، ولكن يمكن القول أن فلانا من العلماء أو الفقهاء بلغ في الاجتهاد منزلة عالية لم يسبقه إليها أحد إذا كان ذلك فعلا متحقق في هذا المجتهد، أما “مجتهد مطلق” بمعنى الإطلاقية التي تتبادر إلى الذهن أول ما تسمعها الأذن فهذا غير متأت البتة، ويحتاج إلى وقفات تحرر المصطلح وتعيد الأمور إلى نصابها في ضوء بشرية الإنسان وطاقته التي لن تصل إلى اعتباره “سوبر مان” لا في القوة ولا في الفكر ولا في الاجتهاد. مع الأخذ في الاعتبار أن الفكر الاجتهادي في التصور الإسلامي قد تأسس–كما تبدو أصوله القرآنية والنبوية الصحيحة– على خطاب يحرّض على النظر، ويدعو إلى الاجتهاد، ويرتقي بحرية الفكر إلى مرتبة العبادة. فالعقل في التصور القرآني ليس أداة تحليل فحسب، بل وسيلة للهداية، ومعيارًا للتمييز بين الحق والباطل، ولكن هذا العقل نفسه –حين دخل أسوار المذاهب– أسر في قوالب، وصودرت حريته باسم الأمانة على التراث.
وما حدث بعد ذلك أشبه بما يسميه الفلاسفة (بانقلاب الأنساق على مقاصدها)؛ فالمذاهب، التي نشأت بوصفها مشاريع اجتهادية مفتوحة على التأويل والاختلاف، سرعان ما تحوّلت إلى أنساق مغلقة، تقدّس أقوال المؤسسين، وتجرّم كل خروج على الحدود التي رسمها (الأئمة الأوائل). وهكذا صار المذهب الذي تأسس على الاجتهاد يحكم بالإعدام على المجتهدين الجدد، لا لأنهم جهلاء، بل لأنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء. وتظهر هذه المفارقة بوضوح فاضح في الزيدية، حيث يقرّ النص النظري بجواز الاجتهاد والتعدد، لكن الواقع التاريخي صنع ما يشبه (المذهب داخل المذهب)، فيه قوالب معرفية لا يجوز كسرها، ومعايير مرجعية لا يمكن تجاوزها. وقد كان الاجتهاد في الإطار الزيدي –كما يتبدى في التنظير– وعدًا بالعقل، أما في الممارسة، فكان نقضًا لهذا الوعد باسم الأمانة والحفاظ عليه! إن جوهر الأزمة هنا ليس في النصوص المُؤسِسة، بل في الذهنيات الحارسة لها، تلك الذهنيات التي تعيش رُهاب التغيير، وتتعامل مع الاجتهاد كما لو كان تهديدًا لهويتها لا امتدادًا لها. ومن هنا فإن العلاقة بين النظرية والممارسة لم تكن علاقة تكامل، بل علاقة خصومة: النظرية توقد المصباح، والممارسة تطفئ هذا المصباح باسم الحذر من الحريق! وفي هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة بناء العلاقة بين الفكر والعمل، بين التنظير والتطبيق، وفق تصور قرآني جذري: حيث يُعاد تحرير المفاهيم من أسر الأطر المذهبية، ويُستعاد العقل من تحت الركام، لا ليهدم، بل ليعيد وصل الجسور بين الأصل والمقصد، بين النص والواقع.
وإذا كانت المفارقة بين النظرية والممارسة قد أنتجت انغلاقًا بنيويًّا في المنظومة الفكرية، فإنّ أثقل أثمان هذا الانغلاق دُفعَتْ من دم المجددين. ففي كل طور حاول فيه فكرٌ جديد أن ينبثق من رحم المذهب الزيدي، كانت سكاكين الإقصاء تشهر، لا لتذبح (فكرة)، بل لتُخرس (إمكانية). لقد نشأ المذهب الزيدي على مساحة واسعة من الانفتاح في بداياته الأولى، مع بعض ومضات خجلى في فترات متباعدة بعد ذلك، واحتفى بتعدد الآراء، بل أفسح في بنيته الاجتهادية لما يشبه (الحوار الدائم) بين الأقوال، لكن هذا الانفتاح لم يلبث أن جُعل (تراثًا مغلقًا) بدل أن يبقى (أفقًا مفتوحًا). وما أُريد له أن يكون جسدًا حيًّا يتنفس (أي الاجتهاد)، صار هيكلًا جامدًا يستنسخ الذات ويخشى التبدل. هنا تحديدًا تبدأ محنة المجددين، أولئك الذين حاولوا تنشيط الذاكرة المذهبية وربطها بنبض العصر، فلم يُقابلوا بالحوار، بل بالمحاكمة. كأن الفكر الزيدي – في تحولاته المتأخرة – بات يرى كل تجديد تهديدًا لا إحياء، وكل محاولة مراجعة ضربًا من الردة.
وتتجلى هذه المحنة بصورة مأساوية في تجربة العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، الذي كان من أكثر الأصوات الاجتهادية اليمانية وعيًا بضرورة تجاوز النزعة الفقهية المغلقة إلى رحابة الاجتهاد القرآني. لقد أراد أن يستخرج من الزيدية جوهرها الحي، لا أن يسجن نفسه في قوالبها الجامدة. لكن المذهب، وقد تحوّل إلى مؤسسة سلطوية، لم يعد يطيق من يعيد صياغته، فواجهه بالتهميش، ثم بالنسيان. والأمر ذاته يتكرر – بصورة أكثر عنفًا – مع الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي لم يكن خصمًا للمذهب، بل خصمًا لما آل إليه من تصلب. أراد أن يصوغ منهجًا علميًا يحرر الاجتهاد من سلطة السلسلة الفقهية المغلقة، ويفتحه على النص المؤسس (القرآن والسنة)، فكان جزاؤه الطعن في مقصده، والتشكيك في صدقه، بل وتكفيره أحيانًا. وما نراه هنا ليس مجرّد (رفض لآراء مجددة)، بل رفض لحق الاجتهاد ذاته حين يتجاوز الخطوط الحمراء غير المنطوقة. لقد تشكلت في اللاوعي الجماعي للمذهب بنيّة دفاعية ضد التجديد، ترى في كل اجتهاد جديد خيانة لما تعتقد أنه (الهوية).
هذه المحنة ليست خاصة بالزيدية، بل هي علامة على أزمة أوسع في الفكر الإسلامي حين تتحول المذاهب من “طرائق إلى الله” إلى “أسوار حول المنهج الصحيح الموصل إلى الله”، ومن اجتهادات إنسانية إلى قيود معرفية. وكما سبق وأسلفنا، فالمأساة في الحالة الزيدية أشد إيلامًا، لأن المذهب نفسه يزخر بمقولات الانفتاح، ومع ذلك يتحول ضد نفسه حين يُجرّب أحدهم أن يُحيي تلك المقولات بروح جديدة. فكأن الانغلاق هنا لا يُبرر بذريعة الوضوح العقائدي كما في بعض المذاهب، بل يرتكب باسم الانفتاح ذاته، ومن هنا تتضح المفارقة: الزيدية تقرّر في تنظيرها أن الاجتهاد مفتوح، لكنها تؤسس في واقعها لحصون تمنع ولوجه. أما المجدد، فهو العابر بين النص والمقصد، يحاول أن يحرّك صخرة الجمود، لكن يده تنزف لا من الصخرة، بل ممن يقفون خلفها، يدافعون عن ثباتها باسم الخوف من الانهيار.
3ـ نحو إعادة تعريف الانتماء: الاجتهاد كأفق معرفي خارج القيد المذهبي
ليست الأزمة في التجديد الديني اليوم أزمة فقه أو تأويل فحسب، بل هي – في جوهرها – أزمة هوية ومفاهيم. فكل مشروع تجديدي لا يبدأ بتحرير المفاهيم، يظل يدور في فلك التقليد، وإن رفع شعار الاجتهاد. ولعل من أكثر المفاهيم احتياجًا لإعادة النظر في سياقنا الإسلامي المعاصر هو مفهوم “المذهب”، الذي لطالما ارتبط، في المخيال الجمعي، بحدود مغلقة، وولاءات عصبية، وسرديات تأسيسية لا تقبل المساءلة. في هذا السياق تأتي قراءة الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي لجزء بالغ الحيوية من مسار المجددين في البيئة الزيدية، لتمنحنا لحظة تأمل حقيقية، ليس فقط في تحولات الفكر داخل الزيدية، بل في معنى المذهب ذاته، ومدى قدرته على استيعاب النقد والتحول دون أن يتحول إلى قيد على العقل.
إن الجزء الثالث من بحث الدكتور الدغشي ليس مجرد تحليل سردي لمسار المجددين داخل المذهب الزيدي، بل هو جهد تأصيلي ونقدي عميق يسعى لتفكيك العلاقة الإشكالية بين الانتماء المذهبي ومشروع التجديد. ومن خلاله يُفتح أمام القارئ باب كبير للتساؤل: هل المذهب فضاء معرفي حرّ أم سجن هوياتي مغلق؟ وهل يمكن أن نظل أوفياء لتراث مذهبي ما، ونحن نمارس الاجتهاد عليه لا فيه؟ هذا ما يحاول البحث أن يقاربه بأناة العالم ورؤية المفكر، مستندًا إلى نماذج حية من رموز التجديد اليمني، ممن نقلوا الزيدية من عصبيتها المغلقة إلى أفق اجتهادي رحب، بل وأعادوا تعريف الانتماء نفسه.
وهذا الجزء من البحث يلفت نظر القارئ إلى ضرورة تحرير مفهوم المذهب، إذ لم يعد يعني – في أفق المجددين – الالتزام بنسق فقهي/كلامي مغلق، بل أصبح موضع مساءلة ونقد وإعادة تعريف. فالخلاف بين الاتجاهين اللذين رصدهما الباحث (الاستمرار داخل الزيدية، الانفكاك الكامل عنها) يكشف عن أزمة تأطير هوية المذهب في عصر الاجتهاد والانفتاح. ولعل المفارقة أن المجددين الذين وُلدوا داخل المذهب الزيدي كانوا، بفعل اجتهادهم، من أوائل من ساهموا في تحريره من عصبيته التكوينية وتحويله إلى مجرد مرجعية معرفية قابلة للنقد، لا مرجعية شاملة لا يمكن الانفكاك عنها.
وينجح هذا الجزء من البحث في تقديم قراءة متوازنة بين اتجاهين كلاسيكيين: أحدهما يؤكد بقاء المجددين داخل الإطار الزيدي، بوصفهم يمثلون تيارًا داخليًا إصلاحيًا انفتح على السنّة دون مغادرة الجذر الهادوي، وآخر يرى أنهم انسلخوا كليًا من المذهب، وتحوّلوا إلى الفضاء السنّي العام. غير أن التميّز الحقيقي للبحث هو محاولته تجاوز هذه الثنائية الاختزالية، عبر الدعوة إلى تأسيس معايير علمية موضوعية للتصنيف، بعيدًا عن الحمولة العاطفية أو الانطباعية، الأمر الذي يمنحه طابعًا نقديًا تأصيليًا، بدلًا من أن يكون مجرد رصد سردي.
والمدهش في عرض البروف الدغشي هو إبراز كيف أن المجددين لم ينتهكوا فقط الحدود الفقهية، بل نقلوا الاجتهاد من كونه أداة داخل المذهب إلى كونه مشروعاً يستبطن تحوّلاً عميقاً في علاقة الذات بالمقدّس، كما أن الاجتهاد عندهم لم يكن مجرّد تطوير فقهي، بل كان ثورة معرفية ذات طابع تحرري، تطال مفاهيم مثل (العصمة، والتقليد، والاتباع، بل وحتى مفهوم الحق الذي لم يعد حكراً على طائفة).
ويشير هذا الجزء من البحث ضمناً إلى توتر دائم بين الهوية المذهبية والسياق الثقافي الذي يحتضنها. فبيئة الزيدية، بما فيها من انغلاق تقليدي، على عكس ما تدعي، لم تتحمل طويلاً التحولات التي جاء بها المجددون، فكان لا بد من تصادم، وهذا بدوره يطرح تساؤلاً فلسفياً عميقاً: هل الهوية المذهبية كافية لفهم تحوّلات الفكر، أم أن السياق الاجتماعي والسياسي عامل لا يمكن إغفاله في إنتاج التحول؟ البحث يلمّح إلى ذلك، لكن تطوير هذا الجانب سيفتح المجال لتحليل المذاهب بوصفها ظواهر اجتماعية تاريخية لا مجرد مجموعات عقدية. ويمكن اعتبار هذا البحث امتدادًا علميًا رصينًا لمشروع الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي في تفكيك جدلية العلاقة بين التجديد والوفاء المذهبي داخل البيئة الزيدية اليمنية، وهو لا يقف عند حدود التوصيف التاريخي بل يخترق طبقات الرؤية التأصيلية للهوية المذهبية، في ضوء الحركية الفكرية للمجددين الكبار كابن الوزير والشوكاني والصنعاني، وفي ضوء معايير التصنيف العقدي والفقهي والسياسي التي ترسم تخوم المذهب الزيدي الهادوي.
إن ما يثيره هذا الجزء من البحث من أسئلة يتجاوز الإطار الزيدي اليمني، إلى سؤال النهضة ذاته: هل يمكن لمذهب أن يتجدد دون أن يتحول؟ وهل المذاهب مشاريع مغلقة أم طاقات مفتوحة؟ إن المجددين – كما يصوّرهم البحث – لم يكونوا مجرد فقهاء مختلفين، بل كانوا – في الجوهر – رواد حرية فكرية في إطارهم الإسلامي، وسفراء اجتهاد مفتوح، يستمد شرعيته من القرآن الكريم والسنة الصحيحة أولًا، ومن سلطان العقل ثانيًا، لا من قيود الأطر المذهبية التي أُعيد تشكيلها في ظروف سياسية واجتماعية راكدة. لأنه حين يتوقف المذهب عن كونه مصدرًا للمعرفة، ويتحول إلى هوية صلبة تُمنح بالولادة وتُحمى بالحدود، يفقد روحه الأولى التي انبثقت من سؤال الحقيقة لا من قيد الجماعة. وما يفعله المجددون – كما يبرزهم هذا البحث الرصين – هو أنهم يعيدون للمذهب معناه الأصلي: كخيار معرفي، لا كقدر جغرافي أو تراثي. إنهم لا يهدمون، بل يفتحون النوافذ المغلقة، ويسمحون للنور أن يدخل بيتًا طالما أُغلق بحجة الصون، لا بحجة التطوير.
إن هذا الجزء من البحث في جملته لا يكتفي بالتحليل، بل يدعونا – نحن القرّاء – إلى مراجعة مفاهيمنا عن المذهب، وعن الاجتهاد، وعن التاريخ، وعن الهوية، وعن الثبات والتحول… إنه نصٌ محفّز للتفكير، وناقد للركود، ويستحق أن يُقرأ لا بوصفه دراسة عن المجددين فحسب، بل بوصفه مرآة كاشفة لأزمتنا المذهبية الكبرى في الفكر الإسلامي المعاصر. وأخيرا، يمكن القول: أن بحث البروف الدغشي في مجمله يعتبر إسهاما علميا رصينا في دراسة التحولات المعرفية داخل المذهب الزيدي، لكنه في عمقه يطرح سؤالاً يتجاوز الزيدية إلى جوهر الفكر الإسلامي المعاصر: هل يمكن أن يبقى المذهب إطاراً للمعرفة في زمن العبور؟، أم أن المجددين اليوم، كما بالأمس، يُرغموننا على أن نعيد تعريف الانتماء ذاته؟
هؤلاء المجددون لا يعلّموننا فقط كيف نجتهد، بل كيف ننتمي من جديد؛ لا على طريقة التكرار، بل على طريقة الشهود الحر. هم رسل العقل في زمن الغفلة، وحَمَلة المشروع الإسلامي كما كان في بداياته: بحثًا دائمًا عن الحق، لا عن الاصطفاف. وهنا تبرز أهمية هذا البحث كمرآة ناقدة لواقع المذاهب المعاصرة، لا بوصفه تاريخًا لرجال مضوا، بل بوصفه بوصلة لما ينبغي أن نكون عليه إذا أردنا للإسلام أن يظل دينًا حيًا، قادرًا على مخاطبة الإنسان في كل زمان. ففي زمن تشتدّ فيه الأزمات الهوياتية، ويمتزج فيه الدين بالسياسة، والمذهب بالعصبية، يأتينا هذا البحث ليذكّرنا أن أرقى صور الانتماء هي التي تبدأ من حرية الفكر، لا من الخوف من الاختلاف. وأن التجديد ليس خيانة، بل أمانة حملها الأنبياء، وسار على نهجها المجددون، وفي طليعتهم من أضاءوا الزيدية بفكرهم قبل أن يُضيّق عليها العُصبة أفقها.
4 ـ تحوّلات الذات الفقهية اليمنية من التمذهب إلى التفكير.
يشتغل هذا الجزء من بحث الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي على مستوى بالغ الدقة من القراءة التاريخية المنهجية، حيث يواصل تحليل مسار المجددين اليمنيين، لكن لا باعتبارهم فقط أفرادًا مصلحين، بل بوصفهم نماذج لتحوّلات معرفية منهجية داخل سياق زيدي خاص، يتمحور حول سلطة مذهبية تأصيلية محكمة تُعرف بالاستدلال الهادوي. وما يميّز هذا الجزء هو التمايز البالغ بين الاستدلال السني النقدي والاستدلال الهادوي التقريري، حيث يشير البروف الدغشي إلى أن المنهج الزيدي التقليدي كان قائمًا على نوع من (الاستدلال المؤسّس على التسليم)، لا على النظر النقدي المتسائل، بما جعله أقرب إلى منهج المذهب لا منهج النظر.
وهنا تبرز أهم إشراقة منهجية في هذا الجزء: أن النقد السني الذي تبنّاه المجددون لم يكن (تحولًا طقوسيًا) كما يظنه البعض، بل كان تحولًا في أدوات إنتاج المعرفة، أي أنه انتقل من التعاطي مع النصوص بوصفها (سلطة موروثة)، إلى التعامل معها بوصفها (موضوعًا للتمحيص النقدي). هذا الفارق الدلالي في تموضع النصوص بين النسقين، هو جوهر ما يعبّر عنه مفهوم (القطيعة المنهجية).
وينبّه البروف الدغشي بذكاء إلى أنّ المجددين ـ وفي مقدمتهم الشوكاني ـ لم يُقدِموا على هذا التحول من موقع الاستلاب أو الانبهار، بل تم ذلك من معاناة معرفية حقيقية مع انسداد الأفق الاجتهادي في الحاضنة الهادويّة، التي باتت تعيد إنتاج خطابها أكثر مما تنتج معرفة جديدة. وهو بذلك لا يسرد تاريخًا، بل يُعري بنيةً معرفيةً راكدة، ظلت تؤسس شرعيتها من نصوصها هي، لا من اختبارها أمام الواقع والنقد. وفي هذا الإطار، فإن استعمال البروف الدغشي لعبارة (التحول النقدي المنهجي) بديلًا عن (التحول المذهبي) ليس مجرد اختيار لغوي، بل موقف علمي ضد القراءات الاختزالية لهؤلاء المجددين. فالتحول هنا هو إعادة تأسيس لشرعية التفكير، وليس مجرد تنقّل في الهوية الفقهية. ومن الجوانب التي تُغري بالتحليل في هذا الجزء، هو أن البروف الدغشي وإن كان ينتقد (الجمود الاستدلالي) الهادوي، إلا أنه لا يُقابل ذلك بتقديس للاستدلال السني، بل يُلمّح إلى حاجة كلا النسقين إلى نقد مزدوج؛ وعليه، فكأنّ ما طرحه البروف الدغشي يشتغل على تفكيك فكرة المذهبية من أصلها بمفهومها التعصبي الضيق، لا فقط الدفاع عن فريق ضد آخر. هذه الروح النقدية المتجاوزة للمذهبية ضيقة الأفق وتعصبية الانتماء، هي التي تمنح البحث بُعده المعرفي الأعمق، وهي التي تجعله طرحا لا يؤرّخ للمجددين فحسب، بل يؤرّخ لما يمكن تسميته: تحوّلات الذات الفقهية اليمنية من التمذهب إلى التفكير.
إن القيمة المعرفية المتجاوزة التي يشعّ بها هذا الجزء من البحث تتجلّى في تأطير ظاهرة (التحول السني) لدى بعض المجددين اليمنيين ـ كالشوكاني، والصنعاني، وابن الوزير ـ بوصفها ليست مجرّد حركة نقدية داخل النسق الهادوي التقليدي، ولا مجرد إصلاحات جزئية ضمن بنية موروثة، بل باعتبارها شكلًا من أشكال (القطيعة المعرفية)، حيث لا يكون التجديد امتدادًا تراكميًا لما سبق، بل تحوّلًا نوعيًا يعيد تشكيل المنهج من جذوره، وينقله من حقل معرفي مألوف إلى أفق مغاير تأسيسيًا.
لقد كانت هذه القطيعة ـ كما يلمح الباحث الدغشي من خلال استقراء نصوص أولئك المجددين ـ نتيجة وعي نقدي متنامٍ، وإن لم يُصرّحوا به في مستوى التنظير الفلسفي الصريح، إلا أن حضورها بادٍ في معمارهم المعرفي ومنهجهم التأصيلي، وفي جسارة الأسئلة التي طرحوها، وعمق المساءلة التي وجّهوها للتراث الحديثي والكلامي والفقهي الذي شكّل هوية المذهب الزيدي قرونًا مديدة. إنها، في جوهرها، ثورة معرفية صامتة، مارسها هؤلاء المجددون بأدوات التراث ذاته، لكنهم أعادوا توظيفها لهدم اليقين القديم وبناء أفق بديل، يطلب التجرد من الاصطفاف الطائفي، وينشد إعادة تأسيس العلاقة مع النص والواقع على قواعد أكثر انفتاحًا واتساقًا مع روح الاجتهاد الحي.
لقد كانت بنية الاستدلال الهادوي، كما تنص على ذلك مرجعياتهم، محكومة بسلطة التأويل المدرسي للتراث، وبخضوعٍ للمقولات الكلامية والاصطفائية السياسية (نظرية الإمامة مثلًا)، مما جعل النقد الذاتي داخل هذا النسق صعبًا، بل (محظورًا ضمنًا)، وفق تعبير البروف الدغشي. وبالتالي فإنّ ما فعله هؤلاء المجددون لم يكن مجرد تجاوز لبعض الفروع أو الشكليات، بل كان (تفجيرًا) لأعماق المنهج نفسه، واستنباتًا لوعي حديث لم يعد يرى في الانتساب المذهبي إطارًا للحقيقة، بل قيدًا عليها. وفي هذا السياق، فإن القراءة العميقة لهذا الجزء من البحث تُظهر أن المجددين لم ينتقلوا إلى (السنّيّة) كهوية، بل انطلقوا من معاناة وجودية معرفية مع محدودية المذهب الذي عايشوا نصوصه، ولكنهم في نهاية المطاف تمردوا عليه وخرجوا من إطاره الضيق، ووجدوا في المنهج السني الحديثي مجالًا أرحب لتأسيس (نظام معرفي) لا يقوم على سلطة العصبية المذهبية، بل على معيار (صحة الدليل) و(عقلانية المنهج).
ورغم التماسك المنهجي والاتساق البنيوي الذي يتبدّى بوضوح في مقاربة الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي لتحولات المجددين اليمنيين، إلا أنّ ثمّة ثلاث محطات معرفية ومنهجية يمكن ـ في تقدير الباحث ـ التوقف عندها، لا من باب المغايرة، بل من أجل إثراء الطرح وتوسيع أفق القراءة، على نحو يُكمل ما أشار إليه البروف الدغشي عرضًا، أو ما قد يُستوفى لاحقًا في الأجزاء الختامية من هذا البحث العلمي العميق.
أولًا، وعلى الرغم من إتقان هذا الجزء من البحث في رصد التحول المنهجي الحاصل لدى المجددين الثلاثة، فإنّ التأسيس الفلسفي لماهية (القطيعة المعرفية) لا يزال محتاجًا إلى تعميق من زاوية إبستمولوجية، على غرار ما نجده لدى مفكّرين كفوكو وباشلار، حيث تُفهم القطيعة لا كتحول في المضمون فحسب، بل كانتقال في بنية التفكير وأفق الوعي، وانفصال عن نظام معرفي سابق بآلياته، ومفاهيمه، ومقولاته، ومفاتيح قراءته للنص والواقع. من شأن هذا التأسيس أن يضيء لنا التحول الذي أحدثه هؤلاء المجددون لا بوصفه اجتهادًا جزئيًا في مسائل فقهية أو حديثية، بل بوصفه خرقًا للنسق الزيدي من الداخل، وتأسيسًا لوعي معرفي جديد تحرّر ـ جزئيًا على الأقل ـ من شرطه الطائفي والتقليدي.
ثانيًا، لا تخفى الإشارات الذكية التي وردت في طيّات البحث للتحولات الاجتماعية والسياسية المصاحبة للمسار الفكري للمجددين، غير أنَّ الحاجة تظل قائمة إلى مزيد من التحليل السياقي الذي يُبرز العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع؛ إذ يبدو ـ في نظر الباحث ـ أن التحول المنهجي لم يكن محض تطور معرفي ذاتي وحسب، بل كان نتيجة تفاعل استجابي -أيضا- مع انسدادات ثقافية واجتماعية وسياسية، وربما مع خيبات أمل في البنية المذهبية السائدة آنذاك. إنَّ استدعاء هذا السياق من شأنه أن يضاعف من إدراكنا لأهمية تلك التحولات، بوصفها تعبيرًا عن لحظة أزمة معرفية/ اجتماعية/سياسية متكاملة، لا عن مجرّد مراجعات فردية معزولة.
ثالثًا، لا يزال من المفيد، علميًا وتاريخيًا، التوسّع في استقراء الأثر الذي تركته مشاريع هؤلاء المجددين على التكوين السني اللاحق في اليمن، خاصّة في القرن الثالث عشر الهجري وما بعده. هل كانوا بمثابة نقطة انطلاق لتأسيس مسار معرفي جديد، خارج القيد المذهبي التقليدي؟ أم أنّهم ـ من حيث لم يريدوا ـ مهّدوا الأرضية لمَذهبة مضمرة باسم (اللامذهبية)؟ وهو سؤال شائك يتداخل فيه ما هو معرفي بما هو سياسي، وما هو إصلاحي بما هو سلطوي. ومن المؤكد أنّ باحثًا بعمق البروف الدغشي لن يغفل عن مثل هذه الإشكاليات، ولكنّ طرحها هنا هو على سبيل الإسهام في تعميق النقاش، لا الاكتمال في التحليل.
وفي النهاية، فإن ما يقدّمه هذا الجزء من البحث هو أكثر من تدوين لتاريخ تحول مذهبي، بل إنه تحليل عميق للحظة وعي، لحظة تمرد المنهج على نفسه، وانعتاق النص من وصاية الجماعة، وهي لحظة لا تزال، في كثير من بيئاتنا الإسلامية، تُحارب أو تُخون. وفي ضوء ما سبق، فإن هذا الجزء من البحث يقدّم أطروحة ضمنية: أنّ المجدد لا يكون مجددًا حين يبدّل أدواته، بل حين يُعيد مساءلة أصول إنتاج تلك الأدوات، وهي الأطروحة التي تُبرز الشوكاني وابن الوزير والصنعاني لا كمنتقلين من مذهب إلى آخر، بل كمشاركين في خلخلة المنطق الداخلي لصناعة المعرفة في سياقهم.
5 ـ المنهجية كعدو: حين تتحول أدوات التمحيص إلى تهم (ابن الوزير نموذجا).
يُمثِّل محمد بن إبراهيم الوزير نموذجًا فكريًّا إشكاليًّا في السياق الزيدي اليمني، تتنازعه أبعادٌ متعددة تجسِّد ثنائية التجديد والرفض؛ ففضلاً عن كونه عالِمًا مُجتهدًا ومصلحًا إسلاميا، يُعَدّ – من منظور خصومه – مُنحرفًا عن الثوابت المذهبية، ومُتَّهمًا بتقويض الأسس المعرفية لتراث ما يسمى ” بآل البيت” لصالح تيارات خارجية. وهنا، يبرز بحث الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي في جزئه الخامس، والموسوم: بـ “القطيعة المعمَّقة: المجدِّدون اليمنيون بين جحود مصادر السنَّة ومحاولة استردادهم هادويًّا” هذه الإشكالية عبر تحليل بنيويٍّ لآليات رفض الخطاب الإصلاحي لابن الوزير، والتي تتجلى في مستويين مترابطين:
أولاً: البنية الجدلية لخطاب الرفض: بين الإقصاء المعرفي والقلق الوجودي: حيث تكشف النماذج التوثيقية التي يستعرضها البروف الدغشي في هذا الجزء من بحثه عن هيمنة النزعة الدفاعية الطائفية على ردود خصوم ابن الوزير، والتي تتجاوز النقاش المنهجي إلى مستوى التكفير الرمزي. فبدلاً من تفكيك الحجج عبر آليات النقد الداخلي، تسود خطابات التحذير الإقصائية التي تُهيمن عليها مفردات مثل: “التحذير من كتبه”، “الإخراج من المذهب”، “الابتداع في أصول آل محمد”. ويَذْكُر البحث – نموذجًا – وهي رسالةً لأحد الخصوم تتهم ابن الوزير بـ”البيع للسنة”، استنادًا إلى تطابقه المنهجي مع رواة الحديث كالذهبي وابن تيمية وابن حجر، أو اشتراكه معهم في آليات نقد المرويات، ما يُفضي – بحسب الخطاب الرافض لمنهجيته – إلى تفريغ المذهب الزيدي من شرعيته التاريخية عبر استدعاء مرجعيات خارجية.
ثانيًا: السوسيولوجيا الطائفية للرفض: الهُوِيَّة المُهدَّدة واليقين المُزعزَع: حيث تُظهر التحليلات السوسيو-معرفية لهذا الجزء من البحث أن مقاومة اجتهادات ابن الوزير لا تنفصل عن المخاوف الوجودية للمؤسسة الزيدية التقليدية؛ فانتصاره لنقد الحديث وفق معايير مدرسة الجرح والتعديل، وتشكيكه في بعض الأسس الإخبارية للمرويات الهادوية، يُنظر إليه كخطرٍ مزدوج: ابستمولوجي يهزّ اليقينيات الموروثة، وهُوِيَّاتي يهدّد الانتماء الطائفي. وبذلك، تتشابك المخاوف المعرفية مع الحساسيات الطائفية، حيث يُعتبر قبول اجتهاداته مدخلاً لإعادة تشكيل التراث الزيدي عبر مرجعيات تتعارض مع سردياته التأسيسية. وهذا ما يفسِّر تحوُّل النقاش الفقهي إلى صراعٍ وجودي، تُوظَّف فيه آليات التكفير الرمزي كأدوات لحماية الحدود الطائفية من اختراق “الآخر” السني.
إن مأساة ابن الوزير ليست مأساة فردٍ اجتهد فأساء، بل مأساة مذهبٍ عجز عن معانقة أبنائه المجددين، واعتبر العقل الخارج عن نسقه خيانة، لا اجتهادًا. ومن هنا، تطرح تجربته علينا سؤالًا أوسع مفاده: هل تستطيع المذاهب أن تتسع لما بعد ذواتها؟ أن تعترف بأن طريق الحقيقة لا ينحصر في “الوفاء للمذهب”، بل في صدق السعي نحو البرهان والدليل، ولو أدى ذلك إلى التماسه من الآخر المختلف؟ إنها دعوة إلى أن نفكّك آليات الإقصاء من داخلنا، قبل أن نُحمّل التاريخ مسؤولية قسوة الحاضر.
ولئن أجاد الدكتور الدغشي في عرض الخلفية المعرفية لهذه القطيعة، فإن ما يثير الانتباه، بل ويستدعي مزيدًا من التحليل، هو طبيعة ردود خصوم ابن الوزير، لا بوصفها مجرد مواقف فقهية أو اجتهادية، بل بوصفها نماذج لذهنيات مغلقة ترى في “الميل إلى السنّة” خيانة لهوية الطائفة، وفي الانفتاح نقدًا لاهوتيًا للسلطة المؤسِّسة. ففي معرض ردودهم، لم يقف خصوم ابن الوزير عند حد الاعتراض العلمي أو الفقهي، بل جنحوا إلى مسالك الإقصاء والطعن في النوايا، مصورين اجتهاده على أنه “تسنُّن سياسي”، أو خضوع لضغوط سلطوية، أو حتى ارتماء في حضن خصوم العقيدة. ويصل الأمر إلى حد وصف بعضهم له بأنه “سني متستر”، في خطاب يشي بأن التجديد ليس فقط محل خلاف، بل محل تخوين.
هنا تتبدّى الأزمة لا كخلاف في طرائق النظر أو أدوات الاجتهاد، بل كحرب رمزية على شرعية التجديد ذاته. فالمسألة لم تعد تتعلق بتوثيق حديث، أو تحقيق في الإسناد، أو إعادة النظر في حجية بعض الأصول، بل في جوهر السلطة المعرفية التي يمنحها المذهب لنفسه. ومن ثم، فإن أي خروج على النسق يُنظر إليه كخروج على العصمة، لا على الرأي. وتزداد حدة هذه الردود حين يُظهر ابن الوزير انفتاحًا على التراث السني الحديثي، لا بوصفه “مصدرًا مساعدًا”، بل مرجعًا رئيسًا في تأصيل العقيدة. وهذا ما دفع بعض خصومه إلى اتهامه بالتشويش على “صفاء التشيع”، وتقديم “علوم الخصوم” في هيئة حقائق كاشفة. وهنا نلحظ القلق العميق الذي يعتري تلك الردود: قلق من فقدان السيطرة على أدوات تأويل النص، ومن انزياح المرجعية من ميدان الولاء التاريخي إلى فضاء البرهان الحديثي.
ولعلّ ما يزيد الأمر وضوحًا أن بعض ردود خصومه لم تكن تكتفي بالجدل النظري، بل تسعى إلى نزع المصداقية الأخلاقية والاجتماعية عن شخصه، كما في بعض الرسائل الزجرية التي تُتهم فيها اجتهاداته بـ “ممالأة السلطان”، أو “إضعاف عقيدة المؤمنين”، أو “تفكيك وحدة المذهب”. إننا إزاء بنية اتهامية تُوظف فيها الحيثيات اللاهوتية لتبرير موقف اجتماع -سياسي من التجديد.
في مقابل الخطاب الإقصائي لخصومه، حافظ محمد بن إبراهيم الوزير على خطابٍ تواصليٍّ متوازن، اتسم بسمتين رئيسيتين: الاعتدال المنهجي في الطرح، والحجاج العقلاني الذي يسعى إلى إرساء رؤية توفيقية بين “الصالح” من الموروث الزيدي (متمثلًا في مآثر أهل البيت) و”الثابت” من مرجعيات السنّة النبوية. ولم يكن مشروعه الإصلاحي – بحسب تحليل البروف الدغشي – يستهدف تقويض المذهب الزيدي، بل إعادة تشكيله عبر دمج انتقائي يلتقط نقاط التماس مع المنظومة السنيّة، دون انسلاخٍ عن الأطر الهُوِيَّاتية. إلا أن هذا التوجّه اصطدم ببنى معرفية طائفية مُتصلّبة، تُختزَل فيها الاجتهادات النقدية إلى “خيانة مذهبية”، والاختلافات الفكرية إلى “مؤامرة وجودية”. وهنا تبرز أهمية القراءة التي يقدّمها البروف الدغشي، لأنها لا تكتفي بتأريخ القطيعة، بل تُفكّك آلياتها. فنحن إزاء ظاهرة معرفية/نفسية مركبة: قطيعة مع المنهج، مقرونة بتوجّس وجودي من الآخر (السني)، مقرونة أيضًا بمنطق “الحراسة العقائدية” التي تجعل من المذهب سلطة فوق العقل. وفي مثل هذه السياقات، يصبح المجدد، وليس خصومه، هو الغريب في أهله.
ويُفترَض أن يكون استحضار محمد بن إبراهيم الوزير في السياق المعاصر استدعاء يهدف إلى تفكيك الثنائيات الحاضرة بين الانتماء الهُوِيَّاتي والمجال العمومي، وبين الموروث الديني وآليات الفحص النقدي، وبين الولاءات العصبية وحتميات التجديد. فإقصاء ابن الوزير – وفق التحليل – لم ينبثق من خلافٍ فنيٍّ حول توثيق حديثٍ ما، بل من سعيه إلى إعادة تشكيل المرجعية المعرفية للمذهب عبر تحويل العقل إلى سلطةٍ إبستمولوجية، والحديث إلى إطارٍ معياريٍّ خاضعٍ للنقد، والنقد ذاته إلى أداةٍ تصويبية لا تفكيكية. وتُبرز دراسة سيرة ابن الوزير أن أزمة الاجتهاد في المذهب الزيدي ليست سوى نموذجٍ مصغَّرٍ لأزمةٍ بنيوية تواجهها المذاهب المُنغلقة في مواجهة تحديات التحديث؛ فالمذهبية التقليدية – حين تتحوّل إلى نسقٍ مُتعالٍ عن النقد – تُنتج آلياتٍ دفاعيةً تُحوِّل الاختلافَ الداخلي إلى تهديدٍ وجودي. وبذلك، تُصبح القطيعةُ ليست خيارًا طوعيًّا للمجدِّد، بل ردَّ فعلٍ مؤسسيٍّ يعكس عجزَ النسق المذهبي عن استيعاب الاجتهادات النقدية التي تتجاوز حدوده التأسيسية.
6 ـ من تراب إلى تراب: تفكيك وهم التفوق السلالي في الإسلام
يشكّل الجزء السادس من بحث الأستاذ الدكتور أحمد الدغشي امتدادًا معرفيًّا ونقديًّا لمشروعه في مُسَاءلة البنية السلالية التي سيطرت – ولا تزال – على فضاء التدين الزيدي في اليمن، ومرجعيته العقدية والسياسية. غير أن هذا الجزء يكتسب خصوصيته من حيث تركيزه على شخصية مفصلية، ألا وهو الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، الذي أضحى شاهدًا حيًّا على إمكانية تجاوز سطوة الانتماء العرقي لحساب ولاء آخر أكثر جذرية وسموًّا، المتمثل في ولاء العقل للدليل، وولاء الضمير للحق. وفي قلب هذا الجزء ينبثق السؤال الجوهري: هل يمكن أن يكون الفكر سلالة مستقلة، تتجاوز الجينات والأنساب، وتؤسّس لانتماء بديل يقوم على الاجتهاد، لا الاصطفاء؟ إنّ اشتغال البروف الدغشي على هذا السؤال، ضمنياً، يعيد فتح ملفات مغلقة في تاريخ التجديد في الفكر الإسلامي، وينتصر لمعيار “الفكرة” على حساب “العِرق”، وللبرهان على حساب العصبية.
ومما يجب أن ندركه في هذا السياق أن وهم التفوق الوراثي على أساس النسب يشكل معضلة فكرية وأخلاقية متأصلة في بعض البنى الاجتماعية التقليدية، لا سيما حين يُغلّف هذا الوهم بغلاف ديني يضفي عليه مسحة من القداسة، ويُوظَّف لإقصاء الاجتهاد وتكريس الامتياز الوراثي على حساب القيم القرآنية والنبويّة. ويُعدّ ما تناوله البروف الدغشي في هذا الجزء من بحثه “سلالة الفكر أم سلالة النسب؟” مدخلًا علميًا لفهم هذا الإشكال، من خلال رصد ما عاناه مجددون كبار في التاريخ اليمني كابن الوزير، والمقبلي، والصنعاني، والشوكاني، من الإقصاء المنهجي بسبب تمردهم على منظومة النسب التي تؤطر المذهب في هذا الإطار.
والقرآن الكريم والسنّة النبويّة لم يتركا لبسًا في التأكيد على معيار التفاضل بين البشر فقد قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى”. وهذه النصوص تؤسس لرؤية مساواتية، تنزع القداسة عن كل امتياز إلا امتياز العمل الصالح. ومع ذلك، تسللت إلى الوعي الإسلامي تيارات تعيد إنتاج التمايز الطبقي، وتمنح بعض السلالات مكانة مخصوصة لا بسبب تقواهم أو علمهم، بل لأنهم “أبناء فلان” أو “من آل كذا”، ضاربين بعرض الحائط مقاصد الرسالة التوحيدية التي جاءت لتحرر الإنسان من كل صنمية، بما فيها صنمية النسب.
وبحث البروف الدغشي في جزئه السادس يكشف عن التحديات العميقة التي واجهها المجددون اليمنيون الذين خرجوا على تقاليد النسب المغلّف بالمذهب. فابن الوزير، رغم انتمائه الهاشمي، وجد نفسه في مواجهة مفتوحة مع من اعتبروا خروجه عن المسلك الوراثي خروجًا عن “الولاء للسلالة”. وقد تعرض لتجريح شديد، بل طُعن في نسبه نفسه، وكأن الخروج الفكري يلغي الانتساب الدموي. كذلك، المقبلي، والصنعاني، والشوكاني، كلهم دفعوا أثمانًا باهظة، لا لأنهم أخلوا بشروط العلم، بل لأنهم تمرّدوا على التراتب النَّسَبي الذي يُراد له أن يكون ميزان الحق والباطل.
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن في دهاليز الوعي المتكلس، وفي طبقات الذاكرة الاجتماعية مناطق لم تغسلها مياه الوحي، تختبئ فيها أصنامٌ لم يحطمها فأس إبراهيم عليه السلام، ولم يبلغها نور النبوة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. أصنامٌ لا تصنع من الحجارة، بل من الأوهام: وهم النسب، ووهم الشرف الوراثي، ووهم الامتياز الجيني. وهذا الوهم ليس خرافة شعبية عابرة، بل منظومة فكرية ترتكز على عقيدة طبقية مغلّفة بالدين، توظف الانتساب إلى “آل البيت” كذريعة لاحتكار الفضل، وقمع الفكر، وإقصاء المجددين.
وإذا كان للجينات أن تتكلم، فستروي قصةً واحدة: “نحن من ترابٍ واحد”. فمنذ مشروع الجينوم البشري، أكّد العلمُ أن التشابه الجيني بين البشر يصل إلى 99.9%، وأن الفروقَ الظاهرةَ في اللون أو الملامح لا تُعبّر إلا عن تنوعٍ طبيعيٍ كتنوّع الأزهار في بستانٍ واحد. فكيف يُبنى تفوّقٌ وهميٌّ على اختلافاتٍ هامشيةٍ لا تتجاوز 0.1%؟!
ومن المفارقات العجيبة، ولكنها جلية وواضحة، هي أن الإسلام نفسه – الذي منه يستمد دعاة النسب تفوقهم – هو أول من جرّد النسب من أي امتياز ما لم يقترن بالتقوى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، “من بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه”، “يا بني هاشم، اعملوا، فإني لا أُغني عنكم من الله شيئًا”. ومع ذلك، فإن ما رصده البروف الدغشي من إسقاطات واقعية، يكشف عن عودة صنمية النسب من الشباك بعد أن طُردت من الباب، حتى صارت بعض المدارس التقليدية تضرب بسياط “سوء الأدب مع آل البيت” كل من خالف السلالة في الرأي، أو نافسها في الاجتهاد. وابن الوزير تحديدًا كنموذج، -كما يكشف البروف الدغشي -، عاش التمزق بين انتمائه النَّسبي ومشروعه الفكري، فخصومه لم يعجزوا عن الردّ عليه فحسب، بل شكّكوا في أصله، واتهموه بالخروج من السلالة، لأن أفكاره “هاشمية المنشأ، سنية النَّفَس” – في نظرتهم، لقد طعنوا في نسبه ليطعنوا في فكره، وكأنّ العقل لا يكون رصينًا إلا إذا أطاع النسب، وكأنّ الاجتهاد لا يُقبل إلا إن عُجن بتراب العائلة.
إن سؤال البروف الدغشي في عنوان الجزء السادس من بحثه – “سلالة الفكر أم سلالة النسب؟” – ليس سؤالًا بلاغيًا، بل تحدٍ حضاري. إنه يقول بصراحة: إما أن نؤمن بسلالة الفكرة، حيث يُقاس الإنسان بما يقدمه من علم وإبداع وتقوى، وإما أن نستسلم لسلالة الدم، حيث يُمنح الامتياز فقط بناءً على ما كتبه التاريخ في أوراق النسب والمشجرات.
وهنا نعود إلى جوهر البحث، فليس النسب عيبًا، بل تَعلُّقُ الفضيلة به هو العيب. فالكرامة لا تُورَّث، بل تُنتزَع من مكابدات الصدق، والتقوى، والاجتهاد الحر. وليس النسب العريق -إن صحت التسمية- مذمومًا في ذاته، لكنه يصبح معضلة حين يُوظف لتمييع معايير التفاضل الحقيقية، أو يُستخدم لقمع الفكر المستقل. إن ما فعله المجددون اليمنيون كان جهادًا مزدوجًا: جهاد ضد الجمود، وجهاد ضد التراتب الوراثي، وعلينا اليوم أن نعيد الاعتبار لسلالة الفكر، لا سلالة الدم، فالكرامة لا تُورث، بل تُكتسب. وليس الناس -ونحن منهم- في خصومة مع من يُعرّف بنفسه من خلال نسبه، فذلك من طبائع البشر، لكننا نعارض من يجعله سيفًا يجرح به الآخرين، أو سلّمًا وهميًا يتعالى به على الناس، في مجتمع يجب أن تُقاس فيه قيمة الإنسان بتقواه لا بانتمائه العائلي. وليست المشكلة في الإشارة إلى التاريخ أو الانتساب إلى الأجداد، بل في أن يتحول ذلك إلى أريكة راحة يتكئ عليها الكسالى، ممن يظنون أن مجرد الانتماء يغنيهم عن الاجتهاد. فالتكريم الحق لا يُمنح وراثة، بل يُنتزع بالجد والإخلاص والبذل المتواصل.
والخطورة ليست في “الانتماء” بحد ذاته، بل في تحويل هذا الانتماء إلى رأسمال أخلاقي مزعوم، يمنح لصاحبه احتراماً لا يستحقه، ويُسلَب من غيره ما لا ينبغي أن يُسلَب، كأنما الإنسان لا يُقوّم بفعله، بل ببُويضة مخصبة في رحم أنثى، وكأنّ ماء الظهر الذي خُلق منه بعضهم من معدن نفيس، وغيره من معدن خسيس. إنّ ما نراه اليوم من غُرور سلاليّ، يُمارَس أحيانًا باسم “الانتساب الشريف”، ليس إلا نسخةً محدثة من أوهام الجاهلية الأولى، لكنه يرتدي عباءة الدين زورًا، ويخترق الوعي بأدوات خادعة: ألفاظ مُبجَّلة، وألقاب مقدسة، وأعراف لا تُمسّ.
والنبوة، في أعلى مقاماتها، كانت حربًا مفتوحة على هذه الأوهام. من ذا الذي كان أشرف نسبًا من نوح عليه السلام؟ ومع ذلك قال له ربه عن ابنه: {إنه ليس من أهلك، إنه عملٌ غير صالح}. فحين تسقط القيم، يسقط معها النسب. ومن ذا الذي كان أكرم حسبًا ونسبا من محمد صلى الله عليه وسلم؟ لكنه حين واجه بقايا الجاهلية قال بصرامة الوحي: “من بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه.” وقال: “يا بني هاشم، اعملوا، فإني لا أُغني عنكم من الله شيئًا.” تأمل هذه البلاغة النبوية: إنه لا يطلب منهم أن يتخلّوا عن النسب، بل أن يتحرّروا من عبوديته. فالنسب لا يُتعبد به لله، ولا تُفتَح له وبه أبواب السماء، ولا يُعطى به الإنسان فضلًا إلا إن كان سلوكُه ترجمانًا لهدي الرسالة، ولو كان للنسب وحده عند الله قيمة كبيرة لكان له يوم القيامة شأن عظيم، ولكن الأمر على خلاف ذلك، قال الله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).
إن معيار القيمة في الإسلام ليس في “ابن من أنت؟”، بل معياره “ما الذي قدمته؟”، و”بأي خُلق تعيش؟”، و”إلى أي قِبلة تتجه روحك؟”. فالناس –كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم– “كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى.” أما الذين يرتدون ثياب “الشرف الوراثي” فهم يشبهون من يحمل صورة الملك ويظن نفسه ملكا! وينسون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته لفقير، وصافح مملوكا، وجلس مع الفقراء كأنه أحدهم. أليس هذا هو التشريع الأعظم لمساواة تذوب معها كل أوهام التفاضل؟ وعليه، فإن الفخر الحقيقي ليس بأن ترث مجدا، بل أن تبنيه، وليس بأن تركض خلف ظل أسلاف لك، بل أن تصنع ظلا لمن يأتي بعدك. فليُعد الإنسان تعريفه لنفسه، لا من خلال شجرة النسب، بل من خلال شجرة القيم التي يزرعها في ذاته وفي مجتمعه، فهنالك وحده تُوزن المقامات، ويُعرف الكرم الحقيقي، وتُقام الإنسانية على سوقها.
وقد نقل لنا البروف الدغشي ردّ المرتضى على سؤال عن ابن الأمير بقوله: “ما دمُه إلا طاهر، والعرق دساس، وهو منّا…”. هذه العبارة تُشكّل وثيقة حية على منطق التفسير العِرقي للانحراف أو التماهي مع السلطة عند من لا يمكن نزع نسبه الهاشمي. إنّها محاولة لاستعادة ابن الأمير إلى الحظيرة السلالية، لا عبر الفكر، بل عبر “حنين الدم”، فيما يشبه تبريرًا مقلوبًا لسلوكه: لم يعد ابن الأمير مفكرًا مستقلاً، بل أصبح من وجهة نظرهم صدىً جينيًّا لاجتهاداته. لكن البروف الدغشي لا يقف عند حدود الرصد، بل يُعرّي هذا الخطاب السلالي الذي يصادر الوعي الفردي والاجتهاد العقلي، مُسلّطًا الضوء على تهافته الإبستمولوجي والأخلاقي، ورافضًا إحالة الفكر إلى العامل الوراثي، كما يرفض ربط الانتماء الديني والحق العقدي بالانحدار البيولوجي.
فابن الأمير الصنعاني، كما يُبرزه البروف الدغشي، لم يكن مجرّد صاحب فتاوى، بل كان مُجددًا عملاقا تجاوز الجدران العقدية لمذهبه، مفضّلاً مرجعية النصوص الصحيحة على سلطة الأسلاف. انتقد مفهوم “الإمامة العرقية”، ودعا إلى معيار الكفاءة والشورى، ونبّه إلى أن غلوّ بعض الهادوية في حصر الإمامة في “البطنين” يُناقض أصول الشريعة. وأعماله ـ مثل سبل السلام، وتطهير الاعتقاد عن أدران الإلحادـ لم تكن مجرد مؤلفات فقهية، بل كانت ثورات معرفية ضد بنيات الاحتكار الديني والتمييز السلالي. لم يكن ابن الأمير صدىً لبيئته، بل كان صدمة لها، وهو ما يفسّر حالة “الاغتراب المذهبي” التي عاشها في حياته، وعبّر عنها بعض خصومه بنفي نسبه الروحي عن “أهل البيت”.
ويرصد البروف الدغشي بذكاءٍ دلالي كيف أن السلطة السياسية الزيدية في عصر ابن الأمير – ممثلة ببعض الأئمة – لم تكتفِ بتهميشه، بل تنكّرت له تمامًا، كما في قول الإمام المنصور: “ليس منا أهل البيت!”. وهي عبارة ذات حمولة خطيرة، إذ تحيل على نزعة تكفيرية ناعمة، تُخرجه من النسب الرمزي لا البيولوجي فحسب، في عقاب مزدوج: إقصاء سياسي وتشهير عقدي. لكنّ هذا التنكّر لم يُسكت صوت ابن الأمير، بل جعله أكثر جذريّة في تفكيك سلطة “الإكليروس الهادوي”، وعياً منه بأن الاجتهاد ليس امتيازًا وراثيًا، بل مسؤولية معرفية وأخلاقية.
كما يلفت البروف الدغشي إلى أن ابن الأمير كان ملهمًا لرموز التغيير في اليمن الحديث، من أمثال الزبيري وصبرة والمطاع والمقالح، لا لكونه هاشميًّا، بل لكونه مفكرًا حرًّا كسر القيد المذهبي. فقد اعتبره الزبيري من “الهاشميين الأحرار”، بينما أشاد المقالح بتمرده على السلطة الدينية والتقليد الأعمى. هذه الاستعادة الحديثة لابن الأمير ليست إعادة نسب، بل إعادة قراءة. هنا، يفتح البروف الدغشي أفقًا فكريًا مهمًا: أن ابن الأمير لم يُلهم بمذهبه، بل بتمرّده، ولم يُستعد لأنه من “آل البيت”، بل لأنه رفض اختزال الإسلام في “أهل البيت”، وأصرّ على أن البيت الحقيقي هو بيت النبوة في معناها القيمي، لا العائلي.
وتكشف نصوص ابن الأمير الصنعاني، كما عرضها البروف الدغشي، عن نفس اجتهادي حر، يتوسل أدوات العلم الحديث، ويعيد قراءة التراث بمنظار نقدي لا يكتفي بالنقل، بل يمارس النظر والتعليل، غير عابئ بثقل الانتماء السلالي إلا بمقدار ما يقتضيه السياق المعرفي لا الامتياز السياسي أو الرمزي. فاجتهاده لم يكن تمرُّدًا على النسق، بقدر ما كان دعوة لإعادة بنائه على أسس معرفية خالصة، تنأى عن “الاستدلال الهادوي” بوصفه قيدًا لا مَنهَجيًّا فحسب، بل أنطولوجيًا وجوديا يحدد من يستحق القول ومن يُفرض عليه الصمت.
لقد تجلّت ردود خصوم ابن الأمير، كما أحصاها وعلّق عليها البروف الدغشي، في صورتها الأوضح كخطاب سلطوي مقنّع، يستبطن احتكار الحقيقة باسم السلالة، ويُحاكم الفكر بمقاييس الوراثة لا الحجة. إذ لم تُناقَش اجتهادات الأمير غالبًا من حيث مضمونها أو منهجها، بل من حيث “أهليته النسبية” و”حدوده الطائفية”، وكأن العلم حكر على أولي العصبة، أو أن التجديد لا يُقبل إلا إذا جاء من داخل الإطار المكرَّس طائفيًا. والمفارقة أن هذه الردود، كما لاحظ البروف الدغشي، كانت في كثير من الأحيان تضمر اعترافًا ضمنيًا بقوة ما يطرحه الأمير، لكنها تلجأ إلى تهميشه بإخراجه من الجماعة، لا عبر تفنيدٍ علمي، بل بمنطق الإقصاء القَبَلي الذي يرتهن للاصطفاء العرقي.
هذا، وتُعدّ شخصية ابن الأمير، كما يقدّمها البروف الدغشي، مفصلًا تأسيسيًا لفهم أزمة التجديد في الفكر الزيدي، لا بوصفه خلافًا مذهبيًا عابرًا، بل كاشفًا عميقًا لصراع البنى المرجعية داخل الفكر الإسلامي عمومًا. ومن هنا تبرز أهمية الانتقال من نقد الأعراض (ردود الخصوم) إلى تفكيك الجذور المعرفية والأنثروبولوجية التي تجعل من “النسب” شرطًا للاجتهاد، وتجعل من الاجتهاد فعلاً خارجيًا لا يُعترف به إلا إذا صاغه من ينتسب إلى السلالة. وبهذا المعنى، فإن دعوة البروف الدغشي إلى تحرير الفكر من ربقة العرق ليست مجرد صيحة في وادٍ، بل نداءٌ لمن أراد أن يبني معرفته على سلالة الفكرة لا سلالة الجسد، وعلى تراكم النظر لا تراكم الدم.
ويُعيد البروف الدغشي في هذا الجزء – عبر تحليل شخصية ابن الأمير – طرح سؤال الإصلاح من زاوية مختلفة: ليس من موقع الفقه أو السلطة، بل من موقع الانتماء. هل يمكن للإنسان أن ينتمي إلى الإسلام دون أن يرثه بيولوجيًّا؟ وهل يمكن للمسلم أن يخون الإسلام وهو يرفل في أنقى سلالاته العرقية؟ ابن الأمير الصنعاني كان الجواب الحيّ عن هذا السؤال، وكان بشهادته الفكرية أقرب إلى سلف هذه الأمة منه إلى ورثة النبوة بمعناها السلالي. إنها ليست معركة بين سلالة وأخرى، بل بين مفهوميْن للحق: أحدهما يُورَث، وآخر يُكتسَب. وقد اختار ابن الأمير طريق الاكتساب، فكان مغتربًا في قومه، لكنه شاهدٌ على أمة لم تولد بعد.
وقبل الختام، يمكن القول: أن منعطف الصراع بين سلطة العرق وسلطة العقل، يبرز ابن الأمير الصنعاني كـ(قناعة تاريخية) تجسد انكسار أسطورة “النبض الهاشمي” أمام إشراقة الاجتهاد. لقد حول الخطاب السلالي النسب إلى أيديولوجيا مقدسة، تضفي شرعية ميتافيزيقية على السلطة، عبر اختزال الإنسان في جينات انتمائه، وكأنما الفكر سبية تقيد بسلاسل الدم. لكن ابن الأمير، بمنهجه التحرري، اقتحم حرمة هذا المعتقد، معلنا أن الشرعية تستمد من العدالة، لا من الأنساب، ومن النص المنزل، لا من النصوص المؤلفة. وإذا كان الفكر السلالي يستند إلى “لاهوت التوريث”، كأنما الحقيقة موروثة لا مكتشفة، فإن ابن الأمير أطلق سهام النقد نحو هذه “اللوثة الجينية”، مؤكدا أن الانتماء الحقيقي لآل البيت هو اتباع عدل عليّ رضي الله عنه، لا ادعاء نسبه.
وينتهي الجزء السادس من هذا البحث إلى ما يشبه بيانًا نظريًّا ضمنيًّا: أن الانتماء للإسلام لا يمكن اختزاله في الميراث البيولوجي، بل يقوم على أسس معرفية وأخلاقية، قوامها: الاجتهاد، والحرية الفكرية، والولاء للنص لا للسلالة. وبذلك، يُساهم البروف الدغشي في إعادة تركيب مفاهيم “الأهلية”، و”القداسة”، و”القيادة” ضمن حقل الفكر الإسلامي، على أساس من الكفاءة المعرفية لا النسب الوراثي. هذه الرؤية تتقاطع مع الاتجاهات المقاصدية والإصلاحية الكبرى في الفكر الإسلامي، وتعيد الاعتبار لمبدأ “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” لا بوصفه شعارًا، بل كمنهجٍ معرفيّ يؤسس لعدالة رمزية غائبة في أنظمة الحكم والسلالة.
7 ـ ثلاثية التحرر: ابن الوزير، وابن الأمير، والشوكاني... وخريطة العبور من الانتماء المغلق إلى الإسلام العام
في سياق مشروعٍ علميٍّ متكامل قدمه الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي، نهضت أجزاؤه الستة السابقة بمهمة مزدوجة: أولًا، تفكيك البنية النظرية التي قام عليها المذهب الزيدي التقليدي، لا سيما ما يتعلق بشروط الاجتهاد التاريخية، كاشتراط النسب الهاشمي، وفرضية الخروج بالسيف. وثانيًا، تحليل السياقات الاجتماعية والسياسية والمعرفية التي ساهمت في ترسيخ هذه الشروط، ومن ثمَّ نقدها من داخل المنظومة ذاتها، بعيون ثلاثة من أبرز رموز التجديد العلمي في اليمن: الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والقاضي محمد بن علي الشوكاني. لقد تكاملت هذه المحاور، عبر ستة أجزاء سابقة، لتبني سردية نقدية متماسكة تكشف التوتر البنيوي بين إرادة الاجتهاد وسلطة المذهب، وتبرز الكيفية التي تحوّلت بها المرجعيات المذهبية إلى آليات للوصاية، لا للحوار، وإلى أدوات للإقصاء لا جسور للفهم.
وقد تميز هذا البحث بأنه لم يكتفِ بسرد الوقائع أو رصد التحولات السطحية، بل مضى عميقًا نحو تأصيل المفاهيم، وتحليل بنيات الإقصاء، واستكشاف ديناميات المقاومة الاجتهادية من داخل المذهب، منطلقًا من قناعة جوهرية بأن أزمة الفكر الإسلامي لا تكمن فقط في تضخم التراث، بل في نمط العلاقة معه: هل هو سلطة تُقلّد أم تجربة تُستأنف؟ هل هو إطار جامد أم مورد حيّ؟ ومن هنا، جاء تحليل الباحث للأبعاد المعيارية التي تحوّل فيها شرط النسب مثلًا، من كونه قيدًا تنظيميًا مرتبطًا بفهم معين للإمامة، إلى شرط هوياتي مغلق يُقصي الكفاءة العلمية، ويُعلي من وراثة الدم على شرعية العقل والدليل. وكذلك تحوّل الخروج بالسيف من فكرة نضالية تستند إلى مقاومة الظلم، إلى قيدٍ استئصالي يختزل أهلية المجتهد في قدرته على التمرد المسلح، مغيبًا بذلك البُعد الأخلاقي والعلمي لمفهوم القيادة الدينية.
وما يجعل هذا الجزء (الجزء السابع) من بحث البروف أحمد الدغشي مفصليًا ومغايرًا في بنائه، أنه لا يأتي مجرد خاتمة استعراضية تُلخّص النتائج، بل هو إعادة تركيب للمشهد، وانعطافٌ منهجيٌ يمهّد لمرحلة ما بعد النقد، حيث ينتقل البحث من تحليل مأزق التقليد إلى رسم ملامح الخروج منه، ومن استعراض اشتراطات الانغلاق إلى الإضاءة على آفاق الانفتاح. إن هذا الجزء يرصد التحول العميق الذي أحدثه أولئك المجددون الثلاثة، لا بوصفهم مجرد ناقدين لمذهبهم، بل كمؤسسين لرؤية اجتهادية جديدة تحررت من القيود الطائفية، دون أن تقع في فخ التلفيق أو التمييع.
لقد تجاوز ابن الوزير، وابن الأمير، والشوكاني، ذلك الانغلاق الذي حوّل المذهب إلى هوية ضيقة، ونجحوا في إعادة وصل الاجتهاد بروحه الأولى، أي بالقرآن والسنة ومقاصد الشريعة، دون أن تبقى أعينهم معلقة برضى الجماعة أو رضا السلاطين. لم يكونوا “خارجين على مذهبهم” بمعناه التخويني، بل “خارجين من المذهب إلى الإسلام”، بمعناه الواسع الجامع، فكانوا نموذجًا لثورة ناعمة لم ترفع السلاح، بل رفعت الدليل، ولم تتوسل التمرد الدموي، بل التمرّد المعرفي، ولم تهدم التراث بل أعادت تأويله من داخل النصوص وببصيرة اجتهادية نافذة.
إن هذا الجزء من البحث يركز على الكشف عن المشترك المنهجي العميق بين هؤلاء الثلاثة الأفذاذ، والذي يتمثل في إعادة بناء العلاقة مع التراث على أساس نقدي، لا سلطة فيه للانتماء الوراثي، ولا قداسة لسلطة السلف، بل معيارية معرفية تقوم على صدق النية، واستقلال العقل، وقوة البرهان. وهذا المشترك المنهجي ليس حالة عابرة ولا استثناء فرديًا، بل يمثل تراكمًا لوعي اجتهادي تحرري كان ممكنًا أن يتحول إلى تيار كبير، لولا أنه اصطدم بجدران المذهبية، وبُنى السلطة، وشبكات العصبية.
ومن هنا، يتجاوز هذا البحث في بعده التراكمي حدود التحقيب الزمني لفكر هؤلاء، إلى مساءلة الواقع المعاصر: لماذا خفت صوت المجددين؟ ولماذا تتكرس اليوم شروط الانتماء المذهبي أكثر من أي وقت مضى؟ ولماذا يُعاد إنتاج الإقصاء بأدوات أكثر حداثة؟ واللافت أن من يرفع اليوم لواء التجديد – في بعض الأحيان – يفعل ذلك بلغة حداثية ولكن بروح مذهبية، تستبطن التعصب وإن لبست عباءة الانفتاح.
إن ما يُضفي على هذا الجزء عمقًا خاصًا وخصوصية باذخة، هو أنه لا يتعامل مع النماذج المجددة بوصفها “وقائع فكرية” فحسب، بل بوصفها “نماذج تربوية” تؤسس لرؤية مختلفة لبناء الإنسان المسلم: إنسان متحرر من سلطان العصبية، قادر على التمييز بين الإخلاص للمذهب والتعصب له، بين الوفاء للهوية والانغلاق عليها. لقد قدّم هؤلاء المجددون درسًا تربويًا عمليًا عميقًا في كيف يكون الانتماء مفتوحًا، وكيف يُعاد تعريف “الولاء” لا بوصفه انتماءً للدم أو المذهب، بل انتماءً للحقيقة، ولما يُرضي الله ويخدم الأمة.
ومن خلال هذه الشخصيات، يتّضح أن التحوّل من “الانتماء المغلق” إلى “الاجتهاد المنفتح” ليس مجرد تحول معرفي، بل هو مشروع إصلاحي شامل يعيد ترتيب العلاقة بين الدين والعقل، بين المذهب والإنسان، بين النص والواقع. مشروعٌ يستدعي إعادة تشكيل العلاقة بالسلطة الدينية والمعرفية، لا بتمزيقها أو معاداتها، بل بتحريرها من التمركز، وتوزيعها على مساحة العقل الجماعي، حيث لا يظل الاجتهاد حكرًا على سلالة أو جماعة أو مذهب، بل أفقًا مفتوحًا لكل باحث صادق.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الذي يطرحه هذا الجزء من البحث ليس تاريخيًا بقدر ما هو وجودي: ما الذي يمنع مفكري اليوم من التأسيس لتحول مماثل؟ ما الذي يعوق المفكر المسلم المعاصر من تجاوز “الطائفية الناعمة” التي تتزيّا بزي الوحدة، بينما تعيد إنتاج الانقسام؟ أليس من المُفجع أن يكون مفكرو القرن العاشر والحادي عشر الهجريين أكثر انفتاحًا من كثير من المفكرين المعاصرين، وقد كانت أدواتهم أضيق، وواقعهم أكثر قهرًا؟!
في خاتمة هذا الجزء – الذي يُعد مسك ختام البحث ومفتاح بدايته المستقبلية في آن – لا يسعنا إلا أن نثمّن الجهد العلمي الرصين الذي بذله الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي، بما فيه من دقة تأصيلية، ورصانة تحليلية، وبصيرة نقدية قلّ نظيرها. لقد قدّم الباحث مثالًا نادرًا في الجمع بين الوفاء للمنهج العلمي والجرأة في نقد الموروث، ونجح في تحويل دراسة فكرية إلى مشروع نهضوي، يحرّك مياه الاجتهاد الراكدة، ويعيد رسم معالم الطريق نحو “الإسلام العام”، الإسلام الذي لا يُقزم في طائفة، ولا يُختزل في مذهب، بل يظل مشروعًا ربانيًا واسعًا، لا يعرف العصبية، ولا يحتمل الغُلُو.
إن هذا الجزء – وقد توج مسيرة ستة أجزاء سابقة – لا يغلق بابًا، بل يفتحه: باب التفكير في مستقبل الاجتهاد بوصفه مشروع أمة، لا مسألة فقهية. ويضع بين أيدينا خريطة معرفية وتربوية لإعادة بناء وحدة الأمة، لا على أساس المساومة والتلفيق، بل على قاعدة التأسيس العلمي، والارتقاء التربوي، والانفتاح الحضاري.
خاتمة وخلاصات:
في منعطفات الفكر الديني اليمني، حيث تتقاطع الموروثات الصارمة مع أسئلة التجديد، ينهض بحث الاستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي كمرآة صافية لتجربة نادرة: تجربة المجددين الذين راحوا يشقّون طريقهم بين تضاريس الانتماء المذهبي وبصائر العودة إلى النص المؤسّس. في سبعة أجزاء متسلسلة، يرصد الباحث معالم هذا التحول من داخل البنية، لا من خارجها؛ متتبعًا لحظات الانفصال التدريجي عن أسر السلالة والاصطفاء، إلى فضاء الرسالة والاجتهاد. هذه الخلاصات السبع تضيء لبّ كل جزء، ولا تلخصه فحسب، بل تستنطقه بلغة تجمع بين التحليل الرصين، والرؤية العميقة، والبيان الموحِي، لتفتح أمام القارئ نافذة على مشروع فكري مشبع بمرارة الانتماء الموروث، ومشحون بإرادة الانعتاق الواعي نحو أفق أرحب من الحرية والاجتهاد.
الخلاصة الأولى: في هذا الجزء (الجزء الأول)، يتناول البروف الدغشي الأسس التاريخية والرمزية التي شيدت جدران الانغلاق داخل المدرسة الهادويّة، مركِّزًا على تحوّل العقل الاجتهادي الأول إلى بنية تقليدية متصلّبة تنزع نحو التكرار والجمود. ويُبرز كيف ساهمت عوامل سياسية واجتماعية وفكرية في إنتاج نسق عقدي لا يتسامح مع النقد، بل يؤطّره في قوالب طقوسية. ويتعمق في الكشف عن العلاقة بين مفهوم “الاجتهاد” كما وُلد في بداياته الأولى عند المؤسسين، وبين ما آل إليه في صورته المتأخرة التي تتماهى مع التقليد المقنّع باسم الوفاء للتراث. ويُظهر الباحث أن أزمة التجديد في النسق الزيدي لا تكمن فقط في غياب الإرادة، بل في تكوّن ثقافة معرفية ترى في الأسئلة تهديدًا، وفي التجديد ضربًا من الغفلة أو التجرّؤ.
الخلاصة الثانية: يركز الجزء الثاني على نماذج بارزة من المجددين داخل المدرسة الزيدية، ممن سعوا إلى إعادة إحياء ملكة الاجتهاد والانفتاح على المدوّنة الحديثية السنّية، دون أن يُعلِنوا قطيعتهم الظاهرة مع المذهب. يظهر ابن الوزير كأنموذج للمجتهد الذي لا يأنف من هدم الأسس التي قامت عليها بعض العقائد الهادويّة إذا لم تتسق مع صحيح السنة أو مقاصد القرآن، بينما يُقدَّم ابن الأمير كرائد من رواد التفكيك الداخلي الذي يمارس نقدًا خفيًا للموروث، دون التمرد المعلن. وهنا، يسلط البروف الدغشي الضوء على تلك الهوة المعرفية بين التنظير الأصولي الذي يدعو للاجتهاد، وبين الواقع المذهبي الذي يحاصر كل تجديد باسم الجماعة والطائفة.
الخلاصة الثالثة: يناقش هذا الجزء (الجزء الثالث) موقع علم الحديث في خطاب المجددين، متتبعًا الخلاف المنهجي بين من استند إلى أصول نقد الرواية عند أهل السنة، وبين من ظل وفيًا للمنهج الاستدلالي الزيدي، القائم على تأويل الروايات لصالح العقائد الموروثة، ويظهر ابن الوزير مجددًا كقطب صراع لا يكتفي بنقل الحديث، بل يُخضعه لمنهج التمحيص السُّني، وهو ما استدعى عليه موجة ردود من خصومه الذين اتهموه بالتساهل أو التهوين من شأن المذهب. ويُبرز البروف الدغشي في هذا السياق كيف كانت معركة الحديث معركة منهج قبل أن تكون معركة نصوص، ويوضح أن الخلاف الجوهري يكمن في البنية المنهجية الحاكمة لا في ظواهر المواقف، حيث المجدد يُحاكم الرواية على ضوء الميزان النقدي، بينما المذهبي يُحاكم النقد على ضوء الرواية المُؤوّلة.
الخلاصة الرابعة: يُعالج هذا الجزء (الجزء الرابع) الإشكالية العميقة التي تواجه المجدد داخل بيئة مذهبية مغلقة، حينما يُطلب منه أن يُفكّر بعقل مستعار أو أن يُؤمن بسلطة لا يختارها. يتتبع الباحث الأثر النفسي والاجتماعي للوراثة الدينية والنسبية في تشكيل اختيارات العلماء، مميزًا بين من ظل أسيرًا للانتماء العائلي ومن تجاوز تلك القيود لصالح الانتماء للفكرة. ويطرح البروف الدغشي مفهوم “الوعي الوراثي”، أي الوعي المتولد داخل بنية اجتماعية ترسّخ للولاء لا للفكرة، بل للمرجعية الموروثة. ويُبرز كيف أن المجدد الحق هو من يوسّع دوائر انتمائه من “البيت” إلى “القرآن”، ومن “المدرسة” إلى “الأمة”، في مسار يُعلي من قيمة التنوير على سلطة الدم أو العُرف.
الخلاصة الخامسة: يُفرّق البروف الدغشي في هذا الجزء بين نوعين من القطيعة: قطيعة المنهج التي يمارسها المجدد حين يعيد بناء أدواته النقدية، وقطيعة الانتماء العقدي التي نادرًا ما يُعلنها المجدد اليمني. يُبرز كيف أن كثيرًا من المجددين، رغم تجاوزهم منهجيًا للمرتكزات التقليدية، ظلوا حريصين على التعبير عن وفائهم الظاهري للمذهب، إما كنوع من الاتزان الدعوي أو تجنّبًا للصدمة الثقافية داخل مجتمعهم. ويرى أن هذه المفارقة تعكس طبيعة المجدد اليمني كمن يخوض حربًا داخلية بين الصوت العقلي والصوت الاجتماعي. فالقطيعة الحقيقية، في رأيه، لا تتمثل في الانفصال الشكلي، بل في تحول أدوات الفهم، وتجاوز الحرفية إلى المقاصدية، والانتماء للمعنى بدلًا من الطائفة.
الخلاصة السادسة: في هذه المرحلة الحاسمة، يرصد البروف الدغشي لحظة التحول الكبرى لدى المجددين من النسق المذهبي إلى ما يسميه “الإسلام العام” الذي يتأسس على مركزية النص القرآني وصحيح السنة، دون تعصب لانتماء مذهبي ضيق. يُحلل الباحث هذا التحول باعتباره ضرورة معرفية، لا خيانة للمذهب، بل وفاءً لجوهر الإسلام الذي يسبق الطوائف. ويُبرز أن إسقاط شرط “الخروج بالسيف”، رمز الإمامة الهادويّة، كان إيذانًا بنهاية عصر الانتماء السياسي العقدي للمذهب، وبداية تشكّل وعي جديد يتجه إلى بناء خطاب إسلامي جامع، يتجاوز الشروط الفقهية المحلية نحو مقاصد الدين الكبرى. وهذا التحول، بحسب الباحث الدغشي، لا يتطلب إعلانًا صريحًا، بقدر ما يتجلى في بنية التفكير والمرجعية، وفي النزوع إلى التوحيد لا التفريع، وإلى المعنى لا الشكل.
الخلاصة السابعة: يختم البروف الدغشي بحثه بطرح سؤال مركزي يعيد قراءة كل التجارب السابقة من منظور مزدوج: هل نحن أمام مجددين يعيدون إحياء المذهب من داخله؟ أم أمام متحولين يمارسون التجاوز في لبوس الموالاة؟ ويقترح إطارًا تحليليًا يُصنّف التجديد وفق معيار الوعي المنهجي، لا وفق الحدود الطائفية. كما يُبرز أن المجددين الحقيقيين هم من تمرّدوا على النسق التقليدي دون إعلان القطيعة الصاخبة، وشرعوا في بناء خطاب يتسق مع مقاصد الشريعة الكلية. ويرى أن التحول عن المذهب ليس دومًا خيارًا فرديًا، بل هو استجابة لتراكم معرفي وشروط اجتماعية ونفسية. وفي النهاية، يدعو إلى تجاوز سؤال “الانتماء” إلى سؤال “المعنى”، حيث تكون الطائفة وسيلة لا غاية، والمذهب طريقًا لا سجنًا، والقرآن هو المركز لا التابع.