سوريا، الوطن الذي عانى طويلاً من هزات عميقة، تُختزل مأساته في كلمتين: الحرية والكرامة. فالشعب السوري لم يكن يطالب يومًا بما هو مستحيل، بل كان يطالب بحق طبيعي لا يمكن لأحد سلبه إيّاه. تبدو سوريا اليوم وكأنها تقف على مفترق طرق، تحمل بين طياتها تاريخًا مليئًا بالنضال والآلام، لكنها أيضًا تحمل أحلامًا لا تموت، وأملًا لا ينطفئ، حيث الحلم بالحرية ظلَّ لسنواتٍ أسيرًا بين جدران القمع والاستبداد، وتدفقت شلالات الدماء لتروي أرضًا عطشى للكرامة. هذا الواقع المحفوف بالآلام لم يبدأ في 2011 فقط، إنما هو امتدادٌ لعقودٍ من القمع، منذ أن انقلبت آلة الاستبداد الأسدية على الحياة السياسية، وسلبت السوريين حقوقهم، وزرعت بذور القمع، وظلت تنمو حتى انفجرت في وجه الجميع. ومع ذلك، بقي الشعب السوري يواجه بشجاعة، معلنًا أن الكرامة والحرية أثمن من كل شيء. يقف السوريون اليوم أمام مشهد معقد، مشهد تتداخل فيه الآلام مع التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي ظل أحلام بناء سوريا الجديدة، يبرز سؤال مركزي: كيف نبني سوريا الجديدة؟ ليس “ماذا نفعل”، بل “كيف نفعل؟” إذ إن الفعل الصحيح لا يكتفي بتشخيص المشكلة، بل يستلزم تقديم آلياتٍ واضحة وواقعية للتغيير.
التحديات السياسية: كيف نبني نظامًا سياسيًا بعد 60 عامًا من الاستبداد؟
أن تبني نظامًا سياسيًا بعد عقود من القمع يشبه زرع شجرة في أرضٍ محروقة. التحدي هنا ليس فقط في غرس البذور، بل في توفير التربة الخصبة والبيئة المناسبة لنموها. سوريا تحتاج إلى نظام سياسي يقطع جذور الاستبداد تمامًا، ويستبدلها بنظام يقوم على الشفافية والمساءلة، حيث يكون المواطن هو أساس الحكم وليس العكس. فالمطلوب ليس فقط تغيير الأشخاص، بل تغيير منظومة الحكم بالكامل
لكن كيف نفعل ذلك بعد 60 عامًا من الظلم؟
1. فصل السلطات: كما قال مونتسكيو، “إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد فلن تكون هناك حرية”. ولذا فإنّ بناء نظام سياسي حُر وعادل يبدأ بضمان استقلال القضاء، وتوازن السلطات.
2. المشاركة الشعبية: لا حرية ولا نزاهة بدون شعب حر ونزيه. فالانتخابات الحرة والنزيهة ليست مجرد أداةٍ تقنيةٍ، بل هي جوهر العملية الانتقالية في أي نظامٍ يحترم إرادة الشعب.
3. ضمان الحقوق والحريات: قال جون لوك: “الحرية هي ألا يخضع الإنسان لإرادة أي شخص آخر”. ومن هنا، يجب أن يكون الدستور الجديد وثيقةً جامعةً تعكس قيم الحرية والعدالة والمساواة، بحيث لا يعود المواطن أسيرًا لسلطةٍ مطلقة.
4. لكن مرة أخرى، كيف نحقق ذلك؟ أولاً، علينا أن نضع نموذجًا واقعيًا يتناسب مع تعقيدات الوضع السوري. قد لا تكون الديمقراطية المثالية متاحةً فورًا، إلا أنّ بناء نموذجٍ تدريجي قائمٍ على المحلية واللامركزية السياسية قد يُسهِّل تمكينَ المجتمعات المحلية وتعزيز التمثيل الشعبي. ويمكن الاسترشاد بتجربة تونس بعد ثورتها، رغم ما اعترضها من تحديات وانقلابات لاحقة، إذ أثبتت أنَّ الإرادة الشعبية قادرةٌ على إرساء قواعد نظامٍ سياسيٍّ جديد إذا توفرت الرقابة الفعالة وهيئاتٌ مستقلة تضمن نزاهة الانتخابات ومساءلة المسؤولين.
المجتمع: نحو حلول مستدامة
إنّ التحدي الاجتماعي لا يقل ضراوةً عن التحدي السياسي. ما فسد في المجتمع بفعل عقود الاستبداد لن ينصلح بقراراتٍ سريعة أو قوانينٍ جافة، بل يحتاج إلى إعادة بناء الثقة بين مكوّنات الشعب. يقول الشيخ المُصلح محمد عبده في كلمة ذات مدلول مهم: (إن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع: القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها، والزامها الشورى والمساواة بين الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيها التعليم الصحيح والتربية النافعة وصار لهم رأي عام). والاستبداد كما علّمتنا التجارب والتاريخ يُفسد أخلاق الشعوب، وهو ما ذهب إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: أنّ الاستبداد يفسد طبيعة الإنسان، فيجرده من حريته وشرفه وحبه لوطنه، مما يدفعه للعيش تحت وطأة الخوف والحرمان. بذلك يستغل المستبد ضعف العقول والأجساد لفرض سلطته، فيقلب الحقائق ويشوه المبادئ الأساسية حتى يُنظر إلى الظلم كفضيلة، مما يجعل الناس ينصاعون له انصياعًا أعمى. وعلى الرغم من محاولات تمجيد الاستبداد بزعم تقديم فوائد، فإنه في الحقيقة يقود إلى انكماش النفوس وتدهور الأخلاق والمجتمع.
لذلك فإنّ العمل على وضع خطط اجتماعية استراتيجية تتبعه خطوات عملية يجب أن تبدأ من الاعتراف بالآلام والجرح الذي لحق بكل فئة من فئات الشعب السوري، والتحدي يكمن في إعادة بناء الثقة بين أبناء الأمّة السورية، بين المواطنين الذين عانوا تحت وطأة الظلم سنوات طويلة. والخطوة الأولى نحو تحقيق ذلك بأن نستمع لبعضنا البعض. ينبغي أن نقبل الاختلاف، وفي ذات الوقت نتمسك بمنظومة القيم الكبرى التي تُحدّدها الهوية السورية التي تدعونا إلى التكاتف والوحدة والرحمة. فالمجتمع لا يمكن أن ينهض على أسس من السلطوية والتفرّد والإقصاء، بل على أسس من التعاون والاحترام المتبادل. نحتاج إلى حوار حقيقي، ليس بين السياسيين فقط، بل بين أفراد المجتمع أنفسهم، وذلك بهدف إعادة بناء الروابط المجتمعية التي مزقتها سلطة القهر والظلم، ومن أهم المبادئ الأساسية لفعل ذلك:
5. الاعتراف بالمظلومية: لا يمكن تجاوز آلام الماضي من دون الكشف الصادق عن الانتهاكات التي حصلت، وإعادة الاعتبار للضحايا. فمن شأن هذا الاعتراف أن يفتح الطريق أمام تهدئة النفوس، ومداواة الجراح التي أشعلها الظلم.
6. برامج التعليم المجتمعي: مناهج التعليم تحتاج إلى تعزيز قيم المواطنة والتعايش، حتى تنشأ الأجيال القادمة على نبذ الظلم والفساد، وتقدير الاختلاف بوصفه مصدر قوةٍ لا تهديد، وكما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: (وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، تغير التاريخ).
7. العدالة الانتقالية: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أما العدلُ فلا رخصة فيه من قريب ولا بعيد، ولا في شدَّة ولا رخاء. والعدل وإن رُئِيَ ليِّناً فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور”، ولا يمكن تحقيق سلام مستدام دون محاسبة عادلة، تحترم حقوق الجميع دون انتقام.
التحديات الاقتصادية: كيف نعيد بناء الاقتصاد الوطني على أسس العدالة؟
سوريا التي كانت تمتاز بالزراعة والصناعة والتجارة تجد نفسها اليوم تحت وطأة اقتصاد مدمر يحتاج إلى إعادة بناء من جديد. لكن الاقتصاد في سوريا الجديدة لا يمكن أن يُبنى على أسس فاسدة، بل يجب أن يعتمد على العدالة الاقتصادية والتوزيع العادل للفرص، والاستثمار في رأس المال البشري، واجتماع أهل الخبرة والمعرفة لوضع رؤية اقتصادية للبلد. للكندي مقولة تُستلهم في هذا الجانب يقول فيها: (من أدرك طريق الحق فليكثر مُساءلة الحكماء ومشاورتهم، وليكن أوّل شيء يسأل عنه العقل، لأن جميع الأشياء لا تُدرك إلا بالعقل). وقد أثبتت تجارب الدول التي استطاعت أن تنقل واقعها نقلة نوعية أنّ أوّل خطوة نحو تحقيق هذه القفزة النهضوية هي أنّ الأمم تُبنى بالعقول أولاً قبل القوة. في سنغافورة مثلا، قاد لي كوان يو تحولًا جعل من بلاده واحدة من أكثر الاقتصادات تطورًا في العالم، وفي كوريا الجنوبية تم التركيز على تطوير الصناعة الثقيلة والتكنولوجيا، وربطت بين الجامعات وقطاعات الإنتاج، مما ساعد على تحفيز الابتكار واستثمار طاقات الشباب. في سوريا الجديدة، يمكننا الاستفادة من هذه التجارب عبر:
8. التخطيط الشامل لإعادة الإعمار: توجيه المشاريع نحو بناء البنية التحتية وخلق فرص عمل، بما يعزز الاقتصاد المحلي.
9. الاستثمار في التعليم التقني والمهني: لتأهيل الشباب للعمل في القطاعات المستقبلية والواعدة، ضمن خطةٍ وطنيةٍ مرتبطةٍ بواقع سوريا ومواردها.
10. محاربة الفساد بلا هوادة: كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو أن شاةً عثرت في العراق، لخشيت أن يسألني الله عنها”. وهذا يعني الحرص على أدق تفاصيل الإنفاق العام والتعامل بحزمٍ مع أي تجاوزٍ مالي أو إداري.
نريد سوريا جديدة، لكن كيف نصل إليها؟ في الطريق إلى بناء سوريا الجديدة، المنهجية هي الأساس. لا نحتاج إلى خطط مرتبكة أو آمال عشوائية، بل إلى استراتيجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وتطبقها على الأرض خطوة بخطوة. لن يحدث التغيير في يوم أو يومين، بل في مراحل، وستكون أياماً صعبة، وكما قال أحمد شوقي: “وما نيل المطالب بالتمني … ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”. لكن المفتاح هو أن نكون مخلصين في العمل، وأن نلتزم بالقيم الكبرى التي نؤمن بها، انطلاقاً من رؤية واعدة ومنظومة جديدة تعتمد على العدالة والمساواة وعلى التخصصية والشفافية.
إنّ إعادة بناء سوريا الجديدة ليست مجرد حلمٍ بعيد المنال، بل هي مشروعٌ واقعيٌّ قابلٌ للتحقق إن حددنا كيفية إنجازه بدقة، واتفقنا على قيمٍ جامعة تحقق المصلحة المشتركة لجميع السوريين. في المقال القادم من هذه السلسلة، سنتناول موضوع العدالة الانتقالية، مبرزين كيف يمكن أن تكون حجر الأساس في استعادة ثقة الشعب بالدولة وتحقيق الاستقرار الدائم في سوريا. إنّ الحلم بالحرية لا يموت؛ إنما يتوارثه الشعب جيلًا بعد جيل، حاملًا معه إرادةً قويةً للتغيير. وما نحتاجه اليوم هو تحويل هذا الحلم إلى خطوات عمليةٍ تحمل بذور المستقبل.