في لحظات التاريخ الفارقة، يظل الحلم بوطن نستحقّه ويستحقّنا يداعب قلوب أبناء الأمة من شرقها إلى غربها، وسوريا اليوم في مرحلة فارقة بعد سنوات طويلة من القمع والتدمير. يحلم فيها السوريون بوطن يتنفس الحرية ويحتضن كفاءات أبنائه، ويبني مؤسساته على أسس من التخصصية والنزاهة، بعيدًا عن كل مظاهر الفساد والتهميش التي سادت في العهد البائد. في هذا المقال، نناقش كيف يمكن لسوريا الجديدة أن تبني مؤسسات قوية تديرها العقول المتخصصة ذات الكفاءة، بحيث نرتقي بمستقبلنا إلى آفاق جديدة تليق بتاريخنا وتضحيات شعبنا.
ولأننا نعيش في عالم تتسارع فيه التطورات التقنية والاجتماعية، فإن بناء سوريا الجديدة يتطلب منَّا إعادة النظر في طريقة إدارة مؤسسات الدولة، وتحديد كيفية هيكلتها لتصبح أكثر فعالية وكفاءة. في هذا السياق، يتعين على المؤسسات السورية أن تستفيد من التجارب العالمية الناجحة في مجال التخصصية، التي أثبتت قدرتها على تحقيق الأداء الفعَّال في جميع جوانب الحياة. ذلك أنّ التخصصية، بمعناها الواسع، هي تحويل النظام الإداري إلى أنظمة ذات كفاءات دقيقة ومتخصصة في مختلف المجالات، ليتمكّن كل فرد من أداء مهمته بأعلى درجة من الاحترافية.
التخصصية: ركيزة بناء المؤسسات القوية
التخصصية وفق هذا المفهوم ليست مجرد مصطلح حديث أو فكرة نظرية، بل هي جزء أساسي من منظومة الدول المتقدمة التي تضمن تطبيق العدالة والمساواة. فالدولة التي تعتمد على التخصصية في اختيار كوادرها القيادية، تقوم على أسس متينة من الكفاءة، حيث يتم وضع كل مسؤول في منصبه بناءً على خبرته ومعرفته في مجال معين. هذا هو المبدأ الذي أقرّته شارلوت بيركينز الفيلسوفة والشاعرة وعالمة الاجتماع عندما قالت: ” التخصص والتنظيم هما أساس التقدم البشري.”. وقد قال توماس جيفرسون أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية: “أعظم واجب للقائد هو أن يكون واجبه الرئيس أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب”، وهذا ما ينطبق بشكلٍ خاص على سوريا الجديدة.
إنَّ وضع الأكفاء في المناصب المناسبة يتطلب أكثر من مجرد التعيينات التقليدية التي كانت سائدة في العهد السابق، والتي كانت تحكمها الأهواء السياسية والمحسوبية. بل يتطلب هذا التغيير أن تكون آلية التوظيفات والتعيينات شفافة، وأن يتم اختيار الأشخاص بناءً على معايير صارمة من الكفاءة والنزاهة، بعيدًا عن أي انتماء حزبي أو طائفي.
التحديات والفرص في بناء المؤسسات الحكومية
بعد سنوات من الاستبداد، لا بد من مواجهة التحديات المترتبة على دمار المؤسسات الحكومية السورية، والتي تركت البلاد بلا هياكل راسخة قادرة على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. ولذلك فإنَّ إعادة هيكلة هذه المؤسسات على أسس من الشفافية والمساءلة يتطلب خطوات مدروسة، في مقدمتها:
1. إصلاح النظام الإداري:
من الضروري أن يتم إعادة بناء المؤسسات الحكومية بحيث تصبح أكثر قدرة على العمل بفعالية وكفاءة. وهذه العملية تتطلب التخلص من البيروقراطية المترهلة التي كانت تتسبب في تعطيل الأعمال، وذلك من خلال تحديد صلاحيات واضحة لجميع المعنيين. وتشجيع الابتكار في العمل الإداري وتبسيط الإجراءات، مع احترام المعايير والمبادئ القانونية، بحيث يتم تسريع العمل دون الإضرار بالجودة أو النزاهة
2. الشفافية والمساءلة:
لابد من أن تواكب هذه الإصلاحات ترسيخ قيم الشفافية والمساءلة في جميع مستويات الحكومة. يقول أنجيل غوريا، الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: “يجب أن تكون النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة. ويجب تدريسها كقيم أساسية”. ولذلك يجب أن تكون هناك آليات لنشر وتعميم قيم الشفافية والنزاهة والوازع الأخلاقي لضمان أن جميع الأفراد والمؤسسات تعمل بجدية وبطريقة تخدم المصلحة العامة.
3. تعزيز الممارسات العالمية الجيدة:
في هذا السياق، يمكن الاستفادة من التجارب المحلية والعالمية الناجحة التي استطاعت بناء دولة حديثة وقوية من خلال تطبيق مبدأ التخصصية في جميع مجالات الحياة العامة. مثال ذلك ما حدث في إستونيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تبنت إستونيا إصلاحات جذرية في نظامها الإداري والتعليمي، مركزة على التخصصية في بناء مؤسسات الدولة، وتحديث أنظمتها الرقمية والتعليمية، مما جعلها واحدة من أنجح الدول في أوروبا في التحول إلى حكومة إلكترونية.
4. التعليم، ركيزة أساسية في بناء الكفاءات: إحدى أهم جوانب التخصصية هي التركيز على التعليم كأداة أساسية لبناء القدرات البشرية، فالتعليم هو الأساس الذي يمكن أن نبني عليه مؤسسات الدولة الحديثة. إنَّ تحديث المناهج التعليمية، ودمج التعليم المهني مع التعليم الأكاديمي، بالإضافة إلى إنشاء برامج تدريبية متخصصة، سيسهم بشكل كبير في تأهيل جيل جديد قادر على تحمل المسؤولية وإدارة الدولة بفعالية. وكما يقول الإمام الشافعي رحمه الله في توجيهه المشهور: “تَفقَّه قبل أنْ تَرأس، فإذا رأستَ فلا سبيل إلى التَّفَقُّه”. هذه الكلمات تمثل أساسًا قويًّا لبناء الدولة السورية الجديدة على أسس متخصصة، حيث يجب أن يبدأ كل فرد بتعلم أصول عمله قبل أن يتولى أي مسؤولية.
التخصصية من منظور القيم الإسلامية
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وفي حديث آخر يرويه الحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ استعمل رجلاً من عصابة – أي طائفة – وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)، إذن فإنّ القيم الإسلامية تُعزز التخصصية بشكل طبيعي، فالإسلام قد أمر بالعمل وفق الكفاءات في جميع المجالات، سواء كان ذلك في السياسة أو العلم أو الاقتصاد. كما أنَّ القرآن الكريم يدعونا إلى السعي وراء العلم: (وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]، فالعلم هو أساس التخصص والتقدم. لذلك، فإنَّ بناء المؤسسات السورية الجديدة يجب أن يكون مبنيًا على أسس علمية وتخصصية، لضمان أن تُدار الدولة بما يتناسب مع تطلعات المواطنين وتحقيق العدالة والمساواة. فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأبي ذر رضي الله عنه لما طلب منه أن يستعمله، بل حذره من خطر ذلك عليه مما عرفه عنه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذرٍّ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم)، وعنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعمِلُني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذرٍّ إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلاَّ مَنْ أَخَذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها). وقول سيّدنا يوسف عليه السلام لعزيز مصر يرفع شعاراً مركزياً في هذا السياق: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف كيف يصنف الناس ويحدد أماكنهم بدقة، فهو كان يضع كل شخص في موقعه المناسب وفقًا لقدراته. على سبيل المثال، كان أبي بن كعب هو سيد القراء وشيخ الأمة في علم القراءة، ومعاذ بن جبل كان قاضيًا وإمامًا، وأبو بكر الصديق كان رائدًا في فنون الإدارة، وحسان بن ثابت كان شاعرًا ومفكرًا، ينافح عن الإسلام في مجالس الشعر والخطابة. أما زيد بن ثابت فكان مختصًا بالفرائض، وخالد بن الوليد كان قائدًا عسكريًا شجاعًا في ساحات المعركة، وعلي بن أبي طالب كان قاضيًا حكيماً وقائدًا ذا بصيرة نافذة، بينما كان الزبير بن العوام حواريًا مخلصًا، وعثمان بن عفان كان رائدًا في مجال الاقتصاد والبذل في سبيل الله. وقد ضرب لنا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالًا عظيمًا في الاستشارة والاختيار عند تولي المناصب، حيث استشار أصحابه في اختيار الشخص الأنسب لشغل أحد المناصب الهامة، قائلاً: ” أشيروا عليّ ودلوني على رجل استعمله في أمر قد دهمني، فقولوا ما عندكم، فإنني أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم” فقالوا له: “نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي”. فأحضره، وولاّه المهمة، فكان الاختيار موفقًا بشكل عظيم.
الخاتمة:
ممّا لا شك فيه أنّ طريق النهضة في سوريا يمرّ عبر مسارات شتى، أهمّها مسار إعادة بناء المؤسسات التي ينبغي أن تكون قائمة على أسس التخصصية والكفاءة. وهذا لا يُتوصّل إليه إلا من خلال التعليم الذي يُعتبر ركيزة أساسية لبناء جيل قادر على مواجهة التحديات، مع ضمان أن كل منصب يتم شغله من قبل الشخص المناسب القادر على أداء المهام بشكل متميز. من خلال هذا التوجه، يمكننا بناء دولة قوية ومستدامة، تضمن العدالة والمساواة بين جميع مواطنيها، وتحقق رفعة سوريا وتقدمها على جميع الأصعدة.