إشكاليات التفعيل
ثانياً: إشكالية واحدية القيم وشمولها:
إن إشكالية واحدية القيم وشمولها هي إشكالية عميقة الجذور وتتصدر موكب الاصطدام الفكري مع نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي؛ ذلك أن الإسلام في بنائه الفلسفي يقوم على واحدية القيم وشمولها، وذلك مفهوم جوهري وأساسي في الإسلام، ومن تجلياته أن الإسلام لا يقر ولا يعترف بالفصل بين الدين والحياة، بل تقوم رؤيته على تعبيد كل مناشط الحياة لله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]
وانطلاقًا من مفهوم واحدية القيم وشمولها نرى الإسلام لا يقر أن يكون للأفراد حيوات خاصة منفصلة الأثر عن الحياة العامة، بل الإسلام يجعل صلاح الفرد واستقامته في حياته الخاصة أساس قبوله في الحياة العامة، وشرط أساسياً لتصدره للشأن العام.
ومن مفهوم واحدية القيم وشمولها انطلقت حركات الإحياء الإسلامي المعاصر، لاسيما حركة ((الإخوان المسلمون)) ومن له اطلاع على أدبيات الحركة سيجد أن فكرة (شمولية الإسلام) هي واحدة من أكثر الأفكار جاذبية لديها، ولطالما عابت الحركة على غيرها من الدعوات اقتصارها على جوانب من الإسلام، وعدم أخذها للإسلام بشموله، ولم يكن محض مصادفة أن يكون الأصل الأول من الأصول العشرين التي كتبها الإمام حسن البنا هو “أصل شمولية الإسلام”، بل كان ذلك عملاً مقصوداً في سلم أولويات الفكر لدى الجماعة، ويمكن القول إن هذا الأصل هو أحد نقاط القوة الفكرية المعتبرة لدى الحركة ــ إن لم يكن أهمها على الإطلاق ــ وأنه لعب دوراً كبيرًا في اجتذاب وإقناع قطاعات واسعة بفكر الحركة وبتفوقه على غيره.
والحقيقة أن فكرة ” شمولية الإسلام” على قدر ما أعطت للحركة من جاذبية وتميز، فقد حملتها أعباء ثقيلة، حتى أفضى الحال إلى أن تحتمل الحركة من التبعات والتكاليف ما يفوق طاقتها ويشتت جهودها، وكان ذلك ــــ فيما نحسب ــــ نتيجة طبيعية للغلو في تفسير فكرة ” شمولية الإسلام” والخلط بين مستوى الاعتقاد والتصور ومستوى العمل والممارسة. ويجب أن لا يغيب عنا هنا أن تقرير فكرة الشمولية جاء في سياق ردة الفعل على دعوات التغريب وفصل عن الدين عن الدولة، وردود الأفعال لا تسلم من الغلو والمجاوزة غالباً.
إننا ــــ بلا شك ــــ مطالبون بالإيمان الكامل بالإسلام دونما تبعيض أو انتقاص، ولكن عند التطبيق نحن مأمورون أن نطبق ما نطيق، وأن نفعل ما نستطيع، ولنا فسحة في تخصيص بعض الأعمال بمزيد اهتمام وترك بعض الأعمال أو تأجيلها إلى أن تتهيأ الأسباب وتسنح الظروف، ولنا أن ننظر في المآلات فنحجم أو نقدم على الأعمال تبعاً لذلك، ولنا أن نأخذ بمبدأ التخصص والاقتصار على بعض الأعمال دون أن يعني ذلك الانتقاص من مبدأ شمولية الإسلام أو التنكر له؛ ذلك أن فكرة شمولية الإسلام لا تعني شمولية الاشتغال للجماعات والأفراد، بل الاشتغال تحكمه قواعد التخصص والإمكان والنظر في النتائج والمآلات.
ولكن ما حصل في ظل هيمنة فكرة الإسلام الشمولي أن تم الخلط بين مستوى (الإيمان) ومستوى (العمل) وفي ظل ذلك الخلط كان يتم الاستدلال بقوله تعالى:أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] في مواجهة أي دعوة للأخذ بالمرحلية والتدرج، وهكذا تم الخلط بين مستوى الاعتقاد والتصور ومستوى العمل والتطبيق، وفي هذا السياق شاعت المقولة المشهورة: خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة!
إن فكرة الجماعة التي يجب أن تتبنى الإسلام بشموله العملي عبر أذرعها الدعوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية…الخ قد أدت إلى العديد من الإشكالات على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة، ويمكننا القول إن هذه الفكرة قد تجاوزها الزمن، ونحن نعلم أن فكرة الجماعة التي يجب تمثل الإسلام بشموله قد وقفت حائلاً ــــ في بلد كمصر مثلاً ــــ أمام الاستقلال بحزب سياسي يشق طريقه بعيداً عن الجماعة، وأن ضريبة ذلك الجمود كانت غالية جداً.
ويجب أن يكون واضحاً هنا أن دعاة التمييز بين الدعوي والسياسي، أو الفصل الوظيفي بين المجالين لا يهدفون إلى استبعاد القيم الدينية والأخلاقية من ساحة الفاعلية والتأثير على نحو ما يذهب إليه دعاة الفصل التام بين السياسي والديني، ولكن الهدف تمييز دائرة القطعيات عن دائرة الظنيات، ودائرة الثوابت والمحكمات عن دائرة الاجتهادات والمتغيرات، وبالتالي عدم اضفاء القداسة الدينية على المواقف والممارسات السياسية؛ لأنها بطبيعتها اجتهاد بشري، وحتى وهي تستظل بظلال الثوابت والقيم الدينية والأخلاقية فإن ذلك لا يعطيها صفة القداسة أو العصمة.
ويمكن للمتابع أن يرصد أربع تجارب في مسار العلاقة بين السياسي والدعوي لدى الحركة الإسلامية، وعلى النحو التالي:
أولاً: تجربة الوصل والتماهي التام بين الدعوي والسياسي، وهذا ما كانت عليه الحركة الإسلامية في بداية نشأتها، ووقوعها تحت التأثير الكامل لفكرة شمولية الإسلام، وعلى نحو لا يهتم كثيراً بالتخصص، ولا يسمح بالتمايز، ولاز الت الحركة الإسلامية في عدد من البلدان تسلك هذا النهج كالحركة الإسلامية في اليمن ((التجمع اليمني للإصلاح)).
ثانياً: تجربة التخصص المقيد من خلال إنشاء أذرع سياسية للحركة كما حصل في مصر والأردن، مع بقاء الوصل التام بين السياسي والدعوي، وقد نتج عن تلك التجارب إشكالات عديدة، وانعكست آثارها سلباً على الدعوي والسياسي في آنٍ معاً.
ثالثاً: تجربة التمييز بين الدعوي والسياسي من خلال إنشاء كيانين مستقلين، أحدهما للسياسي والآخر للدعوي، مع بقاء مرجعية تشاورية وشراكة استراتيجية تجمع بين الكيانين، وهذه تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي.
رابعاً: تجربة الفصل بين الدعوي والسياسي، والاستقلال الكامل للحزب بكيانه وبرنامجه السياسي، وتركه مجال الدعوة لكيانات أخرى، وهذه تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.
ولاشك أن لكل تجربة سياقها الظرفي الخاص بها، وأنه تبعاً لذلك تختلف الإشكاليات التي تواجه كل تجربة، والمهم هنا أن لا يتوقف الإسلاميون عن تقييم تجاربهم في تنظيم العلاقة بين السياسي والدعوي، وأن يمتلكوا من اليقظة والجاهزية الفكرية ما يمكنهم من رؤية الثغرات وحسن التعامل معها.
ثالثاً:إشكالية التقاطع مع الحجاج العلماني:
هنالك من الإسلاميين من يبدي معارضة صريحة لتمييز “الدعوي” عن ” السياسي”؛ ولا يخفي قلقه أن يكون ذلك بداية أو مقدمة “لتعلمن” الحركة الإسلامية.
وهنا يجب الاعتراف أن من الإشكاليات التي تعترض التمييز بين الدعوي والسياسي لدى الأحزاب الإسلامية: إشكالية التقاطع مع الحجاج العلماني في فصل الدين عن السياسة، ومع أن المنظرين الإسلاميين يحاولون الابتعاد عن منطقة التقاطع مع الحجاج العلماني، وتقديم رؤية مختلفة لمفهوم التمييز بين الدعوي والسياسي إلا أن ذلك لم يجعلهم بمنأى عن تهمة العلمانية من قبل الحرس القديم إن جاز التعبير.
وهنا لابد من القول بوضوح تام أنه ليس مما يعيب أي فكرة أن تتقاطع مع فكرة أخرى في بعض المفاهيم أو الأفكار، بل ذلك هو واقع عالم الأفكار والنظريات، وما يجب علينا في هذا السياق هو البحث عن عناصر التميز والاختلاف إذا أردنا فهم فكرة ما، وتقديرها موضوعياً.
لقد قام الحجاج العلماني في فصل الدين عن السياسة على جملة من المنطلقات ومنها: تنزيه مقام الدين عن ألاعيب السياسة، والنأي بالمقدس عن استغلاله لمآرب سياسية، أو توظيفه لأجندات حزبية، ولقد نأى دعاة التمييز بين الدعوي والسياسي بأنفسهم عن تقرير هذا المنطلق حذراً من التماهي مع الرؤية العلمانية، فالقائلون بنظرية التمييز بين الدعوي والسياسي لا يتحدثون عن “التمييز” كقيمة معيارية وأخلاقية تمنع استغلال الدين لأغراض سياسية، بل يركزون في حديثهم على الجوانب ” النفعية” و “المصلحية” التي ستعود على “الدعوي” حينما يتم تمييزه عن “السياسي”، وفي سياق تأكيد افتراق نظرية “التمييز” الإسلامية عن نظرية “الفصل” العلمانية يؤكد القائلون بنظرية “التمييز” أن ما يدعون إليه هو تمييز أو فصل على مستوى الإدارة والعمل، لا على مستوى العقيدة والفكر، ويبدو أنه لا زال من الصعب على كثير من الإسلاميين الاقتراب من حقيقة تكاد تكون بدهية وهي أن الحديث باسم الله وبما يضفي قداسة على مسائل وقضايا خاضعة للرأي والاجتهاد هو أمر غير صائب وغير أخلاقي والإسلام ذاته لا يقره.
ويبقى أن نقول إن التنظير الإسلامي للتمييز بين الدعوي والسياسي وإن تقاطع مع التنظير العلماني في بعض المفاهيم فهو لا يتكئ على التجربة والخبرة العلمانية الغربية كما فعلت الأحزاب القومية والاشتراكية في عالمنا العربي، وخلال فترة حكمها لم تنجو من الاضطراب الشديد بين الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة وبين توظيف الدين لأغراض سياسية حين تدعو الحاجة لذلك، وهو ذات الاضطراب الذي نشهده اليوم في أكثر من بلد أوروبي، ويخلق جدلاً بين المثقفين الغربيين من حين لآخر حول انتهاك معايير العلمانية.
وختاماً: فإن النظريات عموماً تواجهها الإشكاليات عند محاولة تطبيقها في الواقع، وهنالك فجوة بين “النظرية” و “التطبيق” قد تتسع وقد تضيق بحسب الممارسة العملية، ولا شك أن ميدان الممارسة العملية هو الذي يُكسب الخبرة والنضوج، ومع تراكم الخبرات العملية تصبح الممارسة أكثر سلاسة ورشداً، وبالتالي تضيق الفجوة بين “النظرية” و “التطبيق” شرط أن تكون النظرية متماسكة في بنائها الداخلي، وواقعية في تعاطيها مع الحقائق الموضوعية.
إن النظرية تأخذنا نحو “المثال” ثم يأتي بعد ذلك “البرنامج” محاولة لتنزيل المثال الأعلى في الواقع الأدنى، وإذا كانت النظرية تحوي القواعد والمبادئ والقيم الكلية الناظمة، فإن البرنامج يحوي التفصيلات والإجراءات العملية، وبقدر ما تشتمل النظرية على الثوابت فإن البرنامج يشتمل على المتغيرات تبعاً للظروف والأحوال وبما يتلاءم مع الواقع وسياقاته، وهو ما يعني المرونة في التطبيق، وإعمال الفكر لتخليق الوسائل والآليات المناسبة، وذلك يقتضي يقظة عقلية تدرك أن إبداع الوسائل والآليات لا يقل أهمية عن تشييد وبناء الأسس التنظيرية العامة.