نظام الحكم :
سعت الحركة الإسلامية السودانية لتنفيذ الفدرالية أو (الحكم اللامركزي) في السودان بعد أن طبقته في تنظيمها الخاص، وذلك قبل نحو عقد من الزمان يقول المحبوب عبد السلام: ” ارتبطت الفدرالية أو الحكم الاتحادي اللامركزي بحلم عزيز في وجدان الحركة الإسلامية السودانية، وتحديداً في التطلع المشترك لقيادتها لبناء المجتمع بما يشبه نسق تنظيمها الخاص الداخلي، وإحلال نموذجها بفلسفته التنظيمية وهياكله الإدارية ليغدو نظاماً للمجتمع المسلم الذي تتطلع إليه “.
وبمجرد أن استلمت السلطة شرعت مباشرة في تطبيق رؤيتها للحكم اللامركزي، وصدرت القرارات والمراسيم الدستورية بذلك : ” فقد حمل المرسوم الدستوري الرابع في 4 فبراير1991م قانون تأسيس الحكم الاتحادي الذي مثّل بداية الانتقال لتأسيس الفدرالية كما حددتها خطة الانتقال. وحمل المرسوم الدستوري الرابع كذلك مفهوماً ودوراً جديداً لنظام المحليات الذي عرفه السودان منذ الاستعمار، ومهّد لقانون الحكم المحلي الذي أصدره رئيس الجمهورية في العام 1995م “.
وتمت إجازة المرسوم الدستوري الثاني عشر، وزيادة عدد الولايات، وتحديد السلطات الاتحادية والولائية وكذلك الموارد: ” أجاز المجلس الوطني الانتقالي في جلسته رقم (81) بتاريخ 9 أغسطس (آب) 1995م المرسوم الدستوري الثاني عشر في (علاقات الحكم الاتحادي وتعديل نُظم الولايات)، وقد نصَ صراحة في بنده الأول المادة الثالثة : ” تُحكم جمهورية السودان على أساس الحكم الاتحادي”، كما حدد المرسوم أسماء الولايات وعواصمها وأُلحق المرسوم بخريطة توضِح الحدود لأية ولاية، ونصَ في مادته (5 \ 3) على تقسيم الولايات إلى محافظات يُحدد قانون اتحادي كذلك عددها وعواصمها “. وهذا القانون مهّد الطريق لانفجار في عدد المحافظات ينتقل بالعدد المحدود السابق الذي عرفه السودان منذ أول العهد بالإدارة الرسمية الحاكمة إلى عدد مضاعف جديد يحمل مفاهيم جديدة لمعنى المحافظة ودور المحافظ لا يُمثل العدد أهم مغازيها، ولكنه يكمن في جوهر فلسفة الحركة الإسلامية المتطلعة إلى التغيير الإجتماعي الأشمل”.(المحبوب: الحركة الإسلامية دائرة الضوء خيوط الظلام).
وهكذا أصبح شكل السودان الإداري بدلاً عن ستة أقاليم وعدد محدود من المحافظات، كما يلي : (26 ولاية، و100 محافظة و500 محلية).
وكذلك: ” حدَد المرسوم السلطات الاتحادية والولائية والسلطات المشتركة بجلاء، ثم لامس المسألة الأخرى الأساسية اللازمة لمعنى قسمة السلطة وهي قسمة الثروة أو الموارد، ومنح الولايات ولاية على ضرائب أرباح الأعمال ورسوم الانتاج وضريبة مبيعات الأراضي وإيرادات الخدمات الولائية، كما منح المجالس المحلية ضرائب العقار والمبيعات وبعض ضريبة الانتاج الزراعي والحيواني ووسائل النقل ورسوم الانتاج الصناعي، كما نصَ المرسوم أن ينشأ بقانون اتحادي صندوق قومي لدعم الولايات يستهدف بالعون الولايات الأفقر لضمان التوزيع العادل للموارد “.
وهذه المراسيم والقرارات أثارت جدلاً كثيفاً بين أهل السياسة والإدارة والقانون، وأحيت مناظرات قديمة بين دعاة المركزية وأنصار اللامركزية، ويُؤكد المحبوب ذلك بقوله: ” أثار المرسوم الدستوري الثاني عشر، بما حمل من نقلة جوهرية في نظام الإدارة والحكم المتوارث بعضُه منذ الاستعمار والراسخ بحكم مداه المتطاول في القلوب والعقول، اهتماماً واسعاً في داخل أُطُر الصف الإنقاذي وخارجها وفجّر جدلاً بدا كأنه لا ينتهي بين السياسيين والقانونيين والإداريين، إذ تمحور الخلاف مجدداً بين دعاة اللامركزية والممسكين بالمركزية القديمة، مما استدعى حملة أخرى للشرح والبيان والاهتمام بالجانب النظري، إلى جانب الحشد والتعبئة اللازمة ليستقبل السودان التغيير ويتهيأ لتنفيذه عن إيمان وحماسة”.
و يمضي المهندس سليمان صديق في ذات الاتجاه شارحاً فكرة الحكم اللامركزي وذلك في كتابه (الخطاب الإسلامي وعلاقة الدين بالسياسة والحياة العامة: تجربة الحركة الإسلامية السودانية نموذجاً): ” لم تكتف الحركة بمجرد الدعوة للحكم اللامركزي للبلاد بل عمدت إلى تنفيذه عام 1991 بعد أقل من عامين من توليها السلطة بعد أن ظل السودان يحكم من الخرطوم منذ الاستقلال رغم التنوع الذي أشرنا إليه واتساع مساحته. مما زاد من وعي الأقاليم وسكان الولايات بحقوقهم في قسمة السلطة والثروة والتنمية “.
هذا الوعي بالحقوق عدّه البعض من الآثار السلبية لسياسة اللامركزية، وتم اتهام الحركة الإسلامية بأنها مسئولة عن الصراعات الإقليمية ضد المركز على حسب سليمان صديق: ” وقد زعم البعض أن الإنقاذ قد عمقت الصراعات الإثنية وتمرد الأطراف على المركز بالسياسات التي ارتبطت بالحكم اللامركزي والتسويات الاثنية التي قامت بها في ترسيم الحدود بين الولايات والمحليات وفي توزيع المناصب السياسية “.
ويرد صديق على هذه الاتهامات بقوله: ” غير أن المنصف يعلم أن العصبيات والصراعات الاثنية في السودان لها جذور تاريخية قديمة وأن الظروف الطبيعية المتمثلة في الجفاف والتصحر والزحف الصحراوي الذي ضرب بعض مناطق السودان الأوسط أدى إلى هجرة الرعاة جنوباً بحثاً عن الكلأ وزاد من حدة الاحتكاكات القديمة بين المزارعين – الذين غالبهم من القبائل ذات الأصول الإفريقية – والرعاة الذين غالبهم من القبائل ذات الأصول العربية”.
العلاقات الخارجية
واجهت حكومة الانقاذ تحدي آخر وشديد الأهمية، وهو متعلق بأمر العلاقات الخارجية، حيث أن توجهات الانقاذ الفكرية والسياسية صعّبت وعقّدت من علاقاتها الخارجية مع دول الجوار والمجتمع الدولي. كذلك وجود معارضة بالخارج سهّل من عملية الإحاطة بالسودان وحصاره سياسياً وديبلوماسياً ومن ثم اقتصادياً.
وكان أول وأقوى تحدي في العلاقات الخارجية بعد عام من الانقاذ، حيث بداية تداعيات حرب الخليج الثانية وذلك بعد اقتحام القوات العراقية لدولة الكويت :
” في أغسطس عام 1990م، بعد أن اجتاحت العراق الكويت، انعقدت القمة العربية، وكان موقف السودان رفض الوقوف إلى جانب مصر ودول الخليج. وربما لم يحسب النظام السوداني ردّات الفعل التي ترتبت على موقفه ذاك، إذ جلبت له ليس معاداة مصر ودول الخليج فحسب، وإنما معاداة الدول الأكثر نفوذاً في العالم، وقد التقت الدواعي باعتبار أنه يهدد استقرار دول المنطقة وبالتالي يهدد مصالح أمريكا فيها “.(سليمان حامد: تجربة الإسلاميين في السودان).
واستمرت العلاقات في التوتر بين السودان والغرب عموماً ومع الولايات المتحدة وبريطانياً خصوصا، كما يوضح دكتور عبد الوهاب الأفندي في كتابه (الثورة والإصلاح السياسي في السودان): ” علاقات السودان مع الغرب تعرضت أيضاً للتوتر، حيث بدا ذلك بعد اعتراض بريطانيا على الحكم المخفف الذي صدر في مطلع عام 1990 ضد خمسة من العرب اتهموا بقتل بريطانيين في حادثي تفجير في فندق الأكروبول في الخرطوم والنادي السوداني، ثم تعرض السودان لحملة أمريكية عنيفة بعد إعدام موظف سوداني في العون الأمريكي في مدينة جوبا في الجنوب في يوليو 1992 بعد اتهامه بالتواطئ في محاولة للمتمردين لاجتياح المدينة “.
ويُؤكد سليمان حامد عقد مؤتمرات بشأن السودان شاركت فيها أحزاب سودانية معارضة: ” خلال يومي 17 – 18 سبتمبر 1997 عقد معهد السلام الأمريكي مؤتمراً حول السودان شارك فيه عدد كبير من المعارضين السودانيين وعدد من المسؤولين الأمريكيين، وتوقع المؤتمرون سقوط حكومة الخرطوم قبل نهاية عام 1997م وألمح مسؤولون إلى أن الاتجاه المتشدد داخل الإدارة الأمريكية قد كسب الجولة إزاء السودان “.
وكذلك من أهم التحديات التي واجهت الانقاذ صدور القرارات الدولية ضدها، مما جعل السودان دولة محاصرة، سياسياً واقتصادياً وديبلوماسياً، فتارة بحجب المساعدات وتارة بإيقاف التمويل الدولي لمشاريع التنمية وتارة وضع السودان في قائمة الارهاب وغيرها. وهذا العداء سببه الأساسي هو التوجه الإسلامي المعلن للدولة: ” فإن علاقات السودان بدول الغرب تأثرت هي الأخرى بذات العوامل التي أثرت على علاقاته مع محيطه العربي والإفريقي. وظل توجه السودان الإسلامي هو محركها الأول بحيث نُسجت حوله المبررات الأخرى من تصديره للثورة أو نقله للعدوى، أو تهديده لأنظمة مجاورة “. ويعتبر الغرب وأمريكا تحديداً أن هذا تهديد مباشر لمصالحه في المنطقة: ” فقد كان من البداهة بمكان أن تأخذ سياسة أمريكا تجاه السودان طابعاً ينم عن خوفها على مصالحها في المنطقة، إذ اتخذت طابع تحجيم العلاقات الديبلوماسية مع السودان وتجميدها أحياناً، ومقاطعة النظام اقتصادياً وتجارياً وحجبه عن القروض والمساعدات بموجب قرار الكونغرس رقم (513) ومنع الشركات الأمريكية من الاستثمار في السودان، وبعث رسائل تهديد لشركات دول أخرى دخلت السودان مستثمرة سيما في مجال البترول كما حدث مع شركة تاليسمان الكندية للبترول على سبيل المثال”.
ثم أدخلت أمريكا السودان من ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب كمزيد من الضغط على الحكومة حتى يتم إسقاط الحكومة: ” في السابع والعشرين من أغسطس عام 1992م، أصدرت الخارجية الأمريكية كتاباً عن الإرهاب الدولي اشتمل مقالاً عن السودان، تناول علاقات السودان بليبيا وإيران وأشار إلى انحيازه للعراق في حرب الخليج. وفي الثامن من أغسطس 1993 م، أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب “.
ودعمت أمريكا المعارضة والتحالف الإقليمي لإسقاط النظام وتضييق الخناق عليه بسلسلة من القرارات الدولية: ” بلغ دعم أمريكا للمعارضة والتحالف الإقليمي المضاد للنظام ذروته في عام 1995م، وقد كان لحادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري أثرها في ذلك. وأعقب ذلك قرارات مجلس الأمن الثلاثة : 1044، 1054، 1070 بإدانة السودان في عام 1996م بدعم أمريكي “.
وفي كتابه (الحركة الإسلامية السودانية في ظل التحديات الاستراتيجية المعاصرة) وتحت عنوان (التحديات الخارجية) كتب دكتور علي عيسى عبد الرحمن: ” تزامن مجيئ ثورة الانقاذ في السودان مع ظهور مصطلح النظام العالمي الجديد، ولما كانت الثورة تطرح شعارات ضد الهيمنة الغربية كان من الطبيعي أن تجد المواجهة من الغرب الذي ترأسه الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تكتف الولايات المتحدة بإيقاف المساعدات فحسب بل عمدت إلى تشويه سمعة السودان واعتباره منتهكاً لحقوق الإنسان كما جعلت من حرب الجنوب مبرراً لهجومها على السودان “.
وقد أثار موضوع العلاقات الخارجية والدولية جدلاً كثيفاً بين الإسلاميين أنفسهم، وبين الإسلاميين والآخرين. فيرى البعض أن حكومة الإنقاذ استعدت الخارج – خاصة الغرب – واستعجلت المواجهة، ويرى البعض أنها غير مستعدة لذلك، ويرى البعض (كتمان التوجه الإسلامي حتى يقوى عود الدولة) وغير ذلك من هذه الهواجس، والتي تتجدد بتجدد الأحداث وتسارعها. والقيادة ترى عكس ذلك خاصة الأمين العام الشيخ الدكتور حسن الترابي، ففي (ندوة مركز دراسات المستقبل الاسلامي) والتي عقدت بالجزائر في مايو 1990 قدّم د. الترابي مساهمة بعنوان: (أولويات التيار الإسلامي لثلاث عقود قادمات) أي ملامح خطة مستقبلية للتيار الإسلامي في الفترة من (1990م وحتى 2020م)، وآخر فقرة كانت بعنوان (أولويات العلاقة الدولية) وفيها يرى الترابي أنّ أهم أولوية – وتكاد توازي كل الأولويات السابقة – هي استكمال عملية التحرر والإستقلال: ” لربما يقدر المرء أنّ كل ما قدمنا من أولويات ملحة لا تعني كثيرا في جنب أولوية استكمال التحرر والاستقلال التي يقع عبئها الآن على التيار الإسلامي بعد أن مهد له التيار الوطني السابق شكلا من الاستقلال الرسمي”.
ويرى أن الإعداد للعلاقات الدولية سيمكننا من مواجهة كافة التحديات، ويشرح الواقع الذي قامت فيه الدولة الإسلامية في السودان: ” وبهذا الإعداد نستعد كذلك للتحديات. نحن نعلم أن الدّين لا يمكن أن يقوم اليوم في بقعة معزولة، ولا يمكن أن نبني حائطًا حديديًا نحمي به ناشئة الإسلام في السودان حتى يقوى عودهم؛ لأننا مضطرون أن نقيم الإسلام في الشمس وفي الأعاصير وفي قلب الدفوع الدولية. ونعلم أنه كلما تبلور الواقع الإسلامي وبدت أصالته وبعض آثاره، اشتد الفزع من مستقبله. وكلما نشط الحق نشط الباطل في وجهه أيضاً، وتلك سنة من سنن الله الذي قدّر أن يقابل بين الحق والباطل، ابتلاءً لعباده “. وكان يُؤمن بتكامل الأدوار الداخلية والخارجية، وكل منها يُعضد الآخر، لذا بعد أزمة الخليج 1991 تم العمل في اتجاهين :
الأول داخلي :
ويقوم على تقوية الجبهة الداخلية بمعنى القوة الشاملة، ولخصها الترابي في لقاء بالقيادات في ثلاث كلمات : (دفع ، نبع ، زرع) :
فالدفع :
مقصود به الدفاع عن المشروع والدولة يقوم به الشعب كله وهو يحمل هم الفكرة والدعوة والوطن، ويقوم على تدريب كل الشعب على وسائل الدفاع المختلفة، بما في ذلك حمل السلاح والتدريب العسكري، لذلك تم تقنين تجربة (الدفاع الشعبي) فالشعوب المؤمنة بقضيتها لا تهزم، ودونكم شعوب كوبا وفيتنام والصومال وافغانستان، هذا الشعب الذي قهر ثلاث امبراطوريات (البريطانية والسوفيتية والأمريكية).
والنبع :
أنه لابد من استخراج البترول وتصديره وتوفير الطاقة للمشاريع المختلفة، وحتى لا يستخدم سلاح الطاقة لوأد المشروع الإسلامي الوليد.
والزرع :
لابد من الاكتفاء الذاتي من القمح والمنتجات الزراعية المختلفة بل والتصدير.
والأخيران (النبع والزرع) سيتم تفصيلهما في مقال منفصل عن تحديات الإقتصاد.
لذا فالدفاع الشعبي كان فكرة متكاملة للدفاع عن البلد واستنهاض الهمم وترقية الأداء وليس (مجرد ميليشيات) كما يدعي البعض. وتم تدريب المئات من الآلآف من طلاب الجامعات في دورات (أسامة بن زيد وعزة السودان وغيرها). وكذلك الموظفين في دورات (حماة السودان)، وحتى المرأة تم تدريبها في دورات (نسيبة بنت كعب). وأصبحن يُعرفن بهذا الاسم (اخوات نسيبة).
الاتجاه الثاني: خارجي:
ويقوم على فكرة (تأمين السودان من خارج السودان بالسودان). لذا تم تأسيس وإنشاء المؤسسات الآتية :
1\ المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي.
2\ مجلس الصداقة الشعبية العالمية.
3\ الاستراتيجية (المحطات الخارجية).
والمكاتب الاستراتيجية تجمع المعلومات وتقوم بالبحوث والدراسات المختلفة لتأمين السودان في محيط العلاقات الدولية المتلاطم والمتضارب المصالح.
والدكتورة ويلو بريدج أستاذة التاريخ بجامعة نيوكاسل لها كتاب بعنوان :
(Hasan al-Turabi : Islamist Politics and Democracy in Sudan)
(حسن الترابي : سياسات الإسلاميين والديمقراطية في السودان). ويقع الكتاب في 349 صفحة، وتحدثت فيه عن ” المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي العالمي : والذي أراد به الترابي جمع ممثلي المسلمين في العالم حكومات ومعارضةعلى صعيد واحد لتوحيد كلمتهم، ورأى فيه خصوم الإسلام تجمعاً للإرهابيين.
ويقول صمويل هنتنغتون في كتابه (صدام الحضارات): ” في 1991 بعد حرب الخليج، قام الزعيم السوداني حسن الترابي بانشاء المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي (PAIC) كنقيض لمنظمة (OIC) الخاضعة للهيمنة السعودية. الاجتماع الثالث لمؤتمر (PAIC) في الخرطوم في مقتبل 1995 كان قد حضره بضع مئات من الوفود من المنظمات الإسلامية والحركات الإسلامية في ثماني عشرة دولة “. وكذلك كتب عنه عبد الباري عطوان وطلال أسد وروجيه جارودي.
دائما المجال الحيوي الدولي تُسيطر عليه قوة أو أكثر، فمسار العلاقات الدولية له مدارسه ونظرياته وطُرُقه، فالتحدي الذي يُواجه حركات الإسلام السياسي أنها تسبح عكس التيار، وخلفت أنظمة كانت تحكم نفس هذه الدول ولها تبعية كاملة للغرب، فأتت برؤية جديدة للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، تقوم على أنها تُعبّر عن مكونات الدولة الداخلية وثقافتها وفكرها، يقول د. الترابي في كتابه (في الفقه السياسي – فصل السياسة الخارجية ) : ” إنّ السياسة الخارجية لا ينبغي أن تكون ثمرة النفوذ الخارجي على البلاد، ولا معادلة بين الضغوط الواقعة عليها، بل ينبغي أن تكون منبثقة من سياستها الداخلية، ومن توجهاتها وأعرافها ومصالحها الذاتية، وهذه بدورها ينبغي أن تكون تعبيرا عن وجدان الشعب عن عقائده الأصيلة وحاجاته الصادقة. ومن ثمّ كان استقلالنا بالموقف الخارجي الذي نستوحيه من داخلنا، وتنزُّهنا عن الإنحياز إلى المحاور الدولية مهما كانت ضغوط الترهيب والترغيب التي تبسطها علينا الدول ” . فلابد أن تكون لها استراتيجيات للتفاعل مع العالم، حيث لا مكان مرة أخرى للإنعزال والإعتزال، ولا ينفع ولا يُفيد التقسيم التاريخي السابق (دار الحرب ودار السلم) ، وكذلك أن تكون لاعبا أساسيا في محيطك الإقليمي، وتكون دولة لا يمكن تجاوزها في الترتيبات الدولية، وكذلك تبنّى سياسة خارجية مستقلة وعزيزة لا تُحقق أهداف المنظومة العالمية الإمبريالية الأحادية يُعرّض هذه الدول للمواجهة والحصار الإعلامي والسياسي والإقتصادي وربما حروب ومواجهات مع دول الجوار والدول الكبرى. يقول الترابي في (أصول فقه العلاقات الخارجية) : ” الغرب هو الأجرأ على التدخل في شؤوننا الداخلية، ليُرتّب التسويات الإقليمية كما يُريد، وليعوق حركتنا التحررية نحو الأصالة الثقافية والقانونية وليُسيّر اقتصادنا في سياق مذاهبه ومصالحه. إننا بحاجة إلى إرادة سياسية لا تترك مقتضيات قوة الغرب الطاغية تتداعى علينا بضياع الإستقلال، ولابد أن نحقق قدرا أدنى من التوازن الدولي في سياستنا العالمية، وأن نصمد على موقف صلب في وجه الضغوط الدولية، حريص على العدل والسلام والتعاون في العلاقات الدولية. والغرب أو الشرق مضطران لمصالحهما الإستراتيجية إلى أن يظلا متعاملين معنا على كل حال نختاره لأنفسنا بعزة واستقلال ” .
ويضع الترابي للتيار الإسلامي خطة عملية لمواجهة الإستكبار العالمي : ” يلزم التيار الإسلامي أن يعلن عقيدة التوكل والعزة والثقة بالله، وإرادة التحرر والقوة والاستقلال ولن يكون ذلك بالتعليم والتربية ولكنه يتعزز أيضا ببناء القوة الإقتصادية والإعلامية والعسكرية في عالم ذرائعي لا يعرف الحق إلا بالقوة ويرى حجة المذهب أو الموقف في واقع النجاح “.
وهذه الفقرة الأخيرة قطعت فيها تجربة الحركة الإسلامية شوطاً بعيداً، وهو الأمر المتعلق بـ(المنظومة الدفاعية) وتعني في المقام التصنيع الحربي، وحققت عدة أهداف منها: الإكتفاء الذاتي من السلاح والذخائر، تقوية الدولة في مواجهة الاقتحامات العسكرية من دول الجوار والمدعومة من الغرب، والتي حدثت عدة مرات من عدة دول، فقد كان الجيش السوداني ومجاهدي الدفاع الشعبي يقاتلون في جبهة طولها (ألف كيلو متر)، وكذلك من الأهداف إعداد القوة التي تُررهب الأعداء الظاهرين والمستترين، وهذا الترتيب بدأ التفكير فيه مبكراً قبل وصول الحركة الإسلامية للسلطة. يقول الترابي في (فقه الدعوة: ملامح وآفاق) تحت عنوان: (الانتقال من المبادئ للبرامج) وقد صدر عام 1985 يقول الترابي :
” ونحاول بالجمع الذي نجمعه، وبالعدة التي نعدها أن نرهب عدو الله كذلك من أن تحدثه نفسه بأن يستهين بشأن الإسلام وأن يكيد له؛ حتى يعلم أنه إن حاول الكيد سيكاد له، وإن مدّ يده ستقطع بإذن الله “.
ثم يختم الترابي القول في جملة السياسات الخارجية وتحدياتها بالقول :
” لقد دخلت السياسة الخارجية كما دخلت كل السياسة اليوم في الدين، دخولاً واسعاً، وأصبحت لنا مصالح الآن في موقف كل قوة عظمى أو صغرى لأن العالم كله يموج بالتفاعلات، ولا تقوم دولة بشأنها، قوية كانت أو ضعيفة، فكما تحتاج الضعيفة للقوية، تحتاج القوية لسوق الضعيفة ولتابعيتها، وهذا وجه جديد من وجوه الابتلاء ووجوه الفقه سنحاول أن نقتحمه بإذن الله، بزاد محدود من الاجتهاد؛ حتى نحمي ناشئة الإسلام، ولا نقول نحميها وحسب، لأن الدفاع ليس إلا مرحلة، والقصد في نهاية الأمر أن يمتد هدي الإسلام، وأن ينتشر، وألا نكون مستقلين عن الناس ولكن أساتذة هداة للناس “.