في رسم النار لخريطةٍ باروديّةٍ ونفسيّةٍ وقّادة، تمتدُّ من غزة إلى جنوب لبنان، مُسلِّمةً على بغداد، غير غافلةٍ عن دمشق وصنعاء، يتحرّر من ظلّ الصورة مشهدٌ شيعيٌّ مُسلّح، لم تُحرّكه المواعظ الفقهية ولا أدبيات الاجتهاد بقدر ما سقاه الخطاب الثوري رُؤاه، وأشعلَ صدرَهُ بأناشيد السِّنان وركوب الوغى والمُسايفة.
هذا المشهد، في كثافته الرمزية والسياسية، يُوتّدُ سؤالاً في غَمراتِ الضرب:
من أولئك الذين يقاتلون أو يستعدّون؟ أَهُم تلامذةُ الحوزة التقليدية في النجف، المأنوسة بالحذر الفقهي وصمتٍ غير مسرورٍ؟ أم أبناءُ الحوزة الثورية في قُم، أولئك الذين آمنوا بمشروع ولاية الفقيه، فحَفِزوا من العقيدة وقودًا للسياسة، ومن الرؤية المهدوية وعدًا تاريخيًّا لا يُغني عنه الانتظار، بل يُحرَّك به الواقعُ ويُخاض به الصراع كفعلٍ سياسيٍّ عاملٍ في الجغرافيا؟
أقمتُ طويلًا على حِياض هذا التمايز، رغبةً في فَهم الغائب عن صورة طالب علمٍ سُنّي يكتفي بعمومية المشهد والموقف، بحثًا عن عدالةٍ فكرية تمنعني من إغفال دقيق الفروق، وتنقذني من مزالق التعميم وعِثاره. فظهرَ لي، بما لا يعترضهُ لَبسٌ ينكثُ الفَتل، أنَّ التعامل مع الشيعة ككتلةٍ سياسية أو دينية واحدة، يعتورهُ تعسّفٌ معرفي وتحليلٌ قاصر قد توجبُه العلّةُ المذهبية. إذ أنَّا أمام شِيَع، وطيفٍ مذهبيٍّ داخليٍّ متعدّد المرجعيات والرؤى، ومدارس متباينة، لا تتّفق جزمًا في منهج النظر ولا في أولويات الفعل. لكن ذاك الطيف في حاصلهِ يتّسع لتيارين كبيرين: أحدُهما ثوري، والآخر تقليدي. أحدُهما حركي، والآخر تأمّلي:
١/ الرؤية الثوريـة: قُم كجبهةٍ مهدويّة:
في المدرسة الثورية التي تمثلُّها قم، العقيدة ليست نصًا ينتظر التأويل، بل مشروعٌ يتحرّى التنفيذ. الحوزة هناك، وقد تشكّلت في قلب ثورة ١٩٧٩م، لا ترى فيصلاً بين الفقه والسياسة، ولا بين المذهب والدولة. بل تجدُ في السياسة مدًّا طبيعيًا للولاية، وفي الصراع مع الاستكبار العالمي، وعلى رأسه أمريكا وإسرائيل، تمهيدًا لـ[أرض الظهور]، وتعبيرًا عن منطق المستضعفين في وجه المُستكبرين.
في هذا الفهم، يغدو العمل العسكري مقاومةً مقدّسة، والبارود خِطابًا، والدم لغةً من لغات الانتظار الفاعل؛ إذ لا ترى في القتال انفعالًا ظرفيًّا، بل تعبيرًا أصيلًا عن روح المذهب وقدر الجماعة… تلكم رؤيةٌ تُحيل الزمنَ الحاضر إلى مساحة تكليف، لا إلى هامش تأجيل.
٢/الرؤية التقليديـة: النجف كضمير فقيه
على جهةِ المقابلة، تمثّلُ النجف الأشرف مدرسةً عريقة في التوقير الفقهي، والتأنّي السياسي الرافض للعسكرة، وامتدادًا للمدرسة الأصولية التقليدية المُعلية من شأن الاجتهاد والعقل. هنا، على هذا الرسم لتاريخية النجف لا تتفقُ مرجعيتها وإقحام الدين في دهاليز السياسة وحِراكها، ولا ترى في الصراع العسكري تجلّيًا عقائديًا بالضرورة، بل تُنزّل المسائل على مقاصد الفقه، ومصالح الأمة، وحرمة الدماء.(1)
النجف، وقد اختبرت قرونًا من تعاقب السُّلطات، تزيّت بذاكرة تحفظ التورُّع أكثر مما تستدعي وجوه المغامرة. ومراجعُها الكبار، أمثال السيد السيستاني، لم يدفعوا يومًا نحو تجييشٍ عقائدي، بل وقفوا في مفترق السياسة بما رُكِّبوا عليه من منهجية الحذر والرويّة، يُحرّكهمُ المبدأُ لا الاصطفاف.
هذا التمايزُ بين المدرستين لا يُلغي عن الأذهان شِركتهما في العقيدة، لكنه يشفعُ المعرفة بهما بإدراك مسافة واسعة في أدوات الفهم ومواطن التفاعل مع العالم. من هنا، تتجلّى الحاجة إلى فقهٍ دقيقٍ للمشهد: فالحوزة النجفية، بحكم تكوينها التاريخي، لم تنخرطْ في خطاب المعركة الحالية بغير ما تُمليه رسمية أخلاق العالِم، لا نداءات الملاحم. وكم مرّاتٍ مضَت حين تصدر بياناتها في رابعة الوقائع، تدعو إلى السِّلم لا الحسم، وإلى حفظ النفس لا تحريك الجبهات، وإلى الارتهان للأقدار لا الرِّهان على النبوءات، هذا فيما يخصُّ مسألة التجييش الحوزوي.
من هنا، فإن إغفال هذا الفارق، والحديث عن [المدرسة الشيعية] وكأنهم جماعة واحدة تتّخذ موقفًا موحدًا، لا يوقعنا في خطأ تحليلي وكفى، بل يُعطّل أدوات الفهم الجادّة؛ إذِ الحراك الشيعي المسلح الذي يملأ الشاشات اليوم ليس إلّا من ثمار النَفَس الحوزوي الثوري لا من الحوزة التقليدية، وما هذا بمعنى التناقض، وإنما بمعنى التمايز في أدوات الفهم ومساحات التدخُّل.
لكنني، وأنا أدوّن وجيزَ هذا التفكيك، لا أقف على مسافةٍ باردة من ساحة الوغى وأتون هذا الاشتباك التاريخي بين إيران وإسرائيل، بل أنطقُها بصدقٍ لا يخفي لوعته: أنا مع ملحمة المقاومة، تلك التي تصوغ مشروعًا للتحرر الإقليمي من الاستعمار والهيمنة، وتُعيد تعريف الذات الإسلامية من موقع القوة لا الضعف، ومن مقام الفعل لا التبعيّة. ولا أرى في هذا المشروع الثوري عداءً للفقه، بل صيغة جديدة لتفعيله في زمننا المُعاصر الدامي التباسًا. فالخطابُ الصادر من قُم، وإن تمايزَ عن النجف في أصوليّاته، ليس ناشزًا في تاريخ المذهب بل تأويله في ظرفٍ استثنائي، وهو بذلك يؤسس لمفهوم [السياسة المهدوية، كما هي عند العقل الشيعي] في وجه الهيمنة، لا كحلمٍ غيبي، بل كملحمةٍ يشدُّها توقُ التمثّل.
المقاومةُ بين وعدين، وإذا كانت قم تكتب بمداد الثورة، والنجف تحرس بمداد الفقه، فإن المنطقة التي تُسفَكُ فيها الدماءُ اليوم تُطالبنا بفهم مزدوج: عدالةُ التحليل وإنصاف الرؤية، وفقهُ المُتغيرات والمقاصد والقواسم؛ فالمقاومة ليست نقيضًا للفقه ولا المذاهب طُرّها، بل قد تكون تجديدًا له ولها. والسياسة، وإن استقوَتْ بخطاب العقيدة، لا تُلغِي فقه الواقع. وفي زمن تتقلّب فيه الخرائطُ وموازين القوى وتتهشّم فيه السرديات التي عهدنا، علينا أن نفهمَ من يطلق الرصاص، ومن يباركه، ومن يسكت عنه ومن يدفعه. فبين الحوزة والبارود، وإيران وإسرائيل، والشرق والغرب، والصاعد والذاوي، تمتدُّ أسئلة المذهب، وأسئلةُ المصير.
الهوامش:
- ¹: انظر موقف المرجع الأعلى، السيد علي السيستاني، في العملية السياسية إثر ٢٠٠٣.