حدثانِ في حياةِ الأمة الإسلامية كان لهما بالغ الأثر في تاريخها، ومثَّلَ كل حدثٍ منهما انقلابًا مكتمل الأركان، وكان لكلِّ انقلاب تداعيات وتبعات امتدت حتى يومنا هذا..
أحدهما كان في بنائها السِّياسي, والآخر كان في بنيتها الفكرية .
في الشَّأن السياسي انتقل الأمر (بعد صفين) من الشورى إلى الاستبداد، ومن رضا الأمة واختيارها الحر إلى الاستئثار وحصاده المر، وكان لهذا الانحراف تداعيات كبيرة وآثار خطيرة، قال عنها الشهرستاني “وأعظم خلاف بين الأمَّة خلاف الإمامة (الحكم) إذ ما سلَّ سيف في الإسلام على قاعدةٍ دينية مثل ما سلَّ على الإمامةِ في كلِّ زمان”!!
وأما التحول الآخر فقد كان في “فهم العلاقة بين الكتاب والسُّنة، فبعد أن كان كتاب الله العظيم هو الأصل الذي لا يجارى والمصدر الذي لا يماثل، وأنَّ السُّنة تبع للقرآن تبين مقاصده وتفصل أحكامه وتدور حيث يدور وتقف حيث يقف، تحولت العلاقة بين الكتاب والسنة من علاقة تبع بأصل إلى علاقة بين مثيلين نتيجة لجهود فقهية رامت إلى تأسيس السنة مصدرًا مستقلًا بذاته”( 1 ).
“وأصبحت نصوص الحديث المصدر الأول والمرجع الأساسي الذي يعتمده الفقيه لتطوير الأبحاث الفقهية والدراسات النظرية، حتى صارت جل الأحكام التي يدور عليها الفقه في شتى المذاهب قد ثبتت بالسُّنَّة، ومن طالع كتب الفقه تبين له ذلك بكل جلاء، ولو حذفنا السنن وما تفرع عليها واستنبط منها من تراثنا الفقهي ما بقي عندنا فقه يذكر”!! ( 2 ).
السنة في صدر الإسلام:
السُّنة في اللغةِ العربية بمعنى الطَّريقة المعتادة، حسنة كانت أم سيئة ومنها قوله عليه الصَّلاة والسَّلام “من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها… ” وقد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة بمعنى: العادة المستمرة والطريقة المتبعة، قال تعالى “قد خلت من قبلكم سنن”, وقال سبحانه “ولن تجدَ لسنةِ الله تبديلًا”.
“والسُّنة في صدرِ الإسلام ولسان الشَّرع هي: الصورة العملية التي بها طبَّقَ النَّبي وأصحابه أوامر القرآن على حسب ما تبينَ لهم من دلالة القرآن ومقاصده.
والسنة المقرونة بالكتاب والتي يكون التَّمسك بها كالتمسك بالكتاب في الوقايةِ من الضَّلال، ليست إلا الطريقة العملية المضطردة التي نقلت عن الرسول نقلًا متواترًا عمليًا معروفًا عند الكافة، ومن الوصايا بها على هذا المعنى ما ورد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي”, وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: “من رغِبَ عن سنتي فليس مني”, وقوله “سنوا بهم سنة أهل الكتاب”, أي: اسلكوا في معاملتهم الطريقة التي اتبعت مع أهل الكتاب” ( 3 ).
غير أنَّ التطورات سارت بالسُّنة في اتجاهٍ مخالف، اتجاه يجعل السنة في الدرجةِ الأولى (حديثًا) للرسول، وتحديد سنة رسول الله بأحاديث متفرقة اجتزأت من سياقها الخطابي, واستلت من سياقها الحالي ، وضمت في مرحلة لاحقة أحاديث الصحابة الموقوفة وفتاواهم!!
موقف الصَّحابة من السُّنة:
الصحابة والأجيال الأولى من التابعين لم تر في السُّنة المروية مصدرًا مطلقًا يضاهي الكتاب أو يقاربه، بل نموذجًا تستصحبه في فهم كتاب الله الكريم وتطبق أحكامه وتوجيهاته، ولذلك تجد أنَّ فقهاء الصحابة لم يقبلوا الحديث المرفوع إلى النَّبي على عواهنه؛ لأنَّ صحابيًا رواه، بل نظروا إلى الرواية من خلال الرؤية القرآنية التي اكتسبوها من استبطان معاني كتاب الله الكريم ، وعرضوها على نسق المبادئ والمقاصد التي تشكل ثوابت هذه الرؤية, ولم يترددوا في رد الحديث أو تأويله عند تعارضه مع المبادئ القرآنية الثَّابتة .
فقد أنكرت عائشة رضي الله عنها رواية “يعذَّبُ الميت ببكاء أهله عليه” مستدلة بالآية الكريمة “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، وأنكرت الرواية التي تقول بأنَّ محمدًا رأى ربه، مستدلة بقوله تعالى “لا تدركه الأبصار”.
ولما خاطبَ النَّبي المشركين الذين دُفنوا في القليب وناداهم بأسمائهم، قال لعمر “والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”، أنكرت ذلك عائشة مستدلة بالآية الكريمة “وما أنتَ بمسمعٍ من في القبور”.
ولعمر بن الخطاب موقف من رواية فاطمة بنت قيس عن سكنى المطلقة ونفقتها, وقال: “لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت”, وقال: لها السكنى والنفقة وتلا قوله تعالى “لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ ولا يخرجنَ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة”.
وموقف عمر معروف في قضية سواد العراق المخالف لفعلِ النَّبي وإيقاف سهم الفيء لقرابة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وغيرها من الاجتهادات التي خالفت السَّائد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
“والمتأمل في مواقفهم والمدقق في اجتهاداتهم يلحظ أنهم لم يتبعوا توجيهات رسول الله اتباعًا حرفيًا، ولم ينهجوا في فهم أقواله نهجًا نصوصيًا، بل كانوا دومًا ينظرون في مقاصد فعله وخطابه ويربطونه بقواعد القرآن الكلية، فإذا تبين أنَّ قوله أو فعله بيانٌ مطلق لكتابِ الله لا يتقيد بقيودِ الزَّمان والمكان، ولا يتعلق بأحوالٍ خاصة اتبعوه دون تغيير أو تحوير، كما فعلوا عندما اتبعوه في صلاته وصيامه وحجه، أما إذا تبين لهم أن قوله أو فعله متعلق بتطبيق قواعد الكتاب وكلياته وَفْقًا لخصوصِ الزَّمان والمكان، اجتهدوا في تحقيق الكليات التي سعى لتحقيقها، والعمل بالمقاصد التي دعته إلى قول أو فعل وإن أدى ذلك إلى مخالفة ظاهر قول رسول الله وفعله”( 4 ).
مفهوم السنة الجديد .. أصل الحكاية:
“مرت عملية إخراج السُّنة من دائرة التبعية للكتاب وجعلها أصلًا مستقلًا عنه ومكافئًا له في النَّظر والاعتبار بمراحل عديدة، واستغرقت قرونًا طويلة، ولعلَّ البداية الأولى لهذه العملية في الجهد الذي بذله الإمام الشَّافعي للتصدي لأصحاب الرأي الذين رفضوا تخصيص آيات الكتاب وتقييدها بالخبر الخاص (أحاديث الآحاد) فقد اشترط أصحاب الرأي (ممثلين بمدرسة الأحناف) اقتران النَّص العام بالنَّص الخاص لصحة التخصيص، وعدوا تراخي النَّص الخاص عن النص العام نسخًا لا تخصيصًا، وامتنعوا عن تخصيص القرآن بخبر الواحد خشية نسخ أحكام الكتاب بأخبار ظنية، وانبنت منهجية الشَّافعي في التصدي لأصحاب الرأي على ثلاثة أركان:
– التأكيد أنَّ الحديث المرفوع إلى رسول الله هو الحكمة التي ذكرها القرآن عندما أكَّدَ أنَّ مهمة الرسل تعليم النَّاس الكتاب والحكمة .
– منع نسخ السُّنة بالقرآن .
– التسوية بين حجية الكتاب وحجية السُّنة.
وبهذا وضع الشافعي رحمه الله اللبنات المنهجية الأساسية التي مهدت لظهور المنهجية النصوصية من خلال إعادة تعريف العلاقة بين الكتاب والسنة”( 5 )، وتعريف السُّنة على النَّحو الذي بات مشهورًا وصار مخالفًا لما كان عليه معنى السُّنة في صدر الإسلام ولسان الشَّرع!!
وسيأتي في بحثٍ لاحق بإذن الله معنى (الحكمة) التي وردت في القرآن الكريم وتفسير لفظة “الوحي” في قوله تعالى “إن هو إلا وحيٌ يوحى”, هذه الآية المكية – والتي لا صلة فيها من قريب أو بعيد بالمرويات والمدونة الحديثية التي تكاثرت وتضخمت فيما بعد – في وقت كان المشركون يشككون فيما أتاهم به محمَّد عليه الصلاة والسلام من آي القرآن الكريم ويزعمون أنه من تأليفه ومن بنات أفكاره .
أخيرًا :
مع تعاقب الأجيال تراجعت قدرة المسلم على الاستنارة بالمعرفة الكامنة في كتابِ الله والاهتداء بالحكمة الثاوية فيه، حتى كادت تغيب كليًا في عصرنا هذا، ويعود تراجع قدرات المسلمين عن فهم كتاب الله العزيز في المقام الأول إلى سوء فهم العلاقة بين الكتاب والسُّنة (6).
وفي تصوري أنَّ أي محاولة للإصلاح الديني وترميم البنية الفكرية وعملية التجديد، لن تنجح حتى تعيد تعريف العلاقة بين الكتاب والسُّنة ومعرفة مقامات النَّبي الأكرم، وفهم الحديث وتحديد موقعه في بناء المفاهيم والأحكام الإسلامية برده إلى الرؤية القرآنية التي ولدته، وأن اتباع السُّنة لا يتحقق بمجاراة أفعال الرسول دون فقه دواعيها ومقاصدها، بل يتطلب استلهام مبادىء الكتاب وإعمال الرؤية القرآنية التي وجهت سلوكه ولو أدى ذلك إلى مخالفة ظاهر فعله .
وكما امتلكت الأمة الشجاعة في السعي لحل أزمتها الدستورية وفهم طبيعة ما جرى من انحراف في بنائها السياسي بعد قرون من الخنوع والتسليم لذلك التحول في مسارها السياسي وغياب الشرعية السياسية، تحتاج لأنَّ تمتلك ذات الشجاعة في الاعتراف بالمشكلة واجتراح الحلول العلمية إذا أرادت أن تصل لمعرفة جديدة وتجديد حقيقي.
تلك في الحقيقة جوهر القضية وأصل الحكاية فيما يتعلق بموضوع السنة النبوية، ولعلَّ من اللافت ارتباط أزمتنا السياسية وأحكامها السلطانية وفقه التبرير، بموضوع السُّنة أو بمعنى أدق: الأحاديث والمرويات والتي استغلت لتطويع الأمة وإخضاعها، في الوقت الذي لا ترى فيه الرؤية القرآنية غير سبيل واحد للانعتاق والتحرر والفاعلية، وهي حاكمية الأمة وسيادتها من خلال الشورى ومؤسساتها .
إذن, وبعيدًا عن التهريج ومحاولات الشغب واحتكار الدفاع عن الدين وحماية الثوابت واستباحة تلفيق التهم، فإنَّ الأمر يتعلق بمناهج النظر وطرق التفكير ومدارس الفكر، فهناك – بعد الاستقراء – طريقتين في التفكير وخلاف بين عقلين تمامًا كمسألة النقل والعقل، فالتعارض في فحواه – بحسب د. لؤي صافي – تعارض بين عقلين، أو بين منظومتين متباينتين، تم تطويرهما انطلاقًا من منهجيتين معرفيتين مختلفتين:
– عقل تراثي مكبَّل بالقرائن اللفظية للنصوص، والدلالات التاريخية للألفاظ .
– وعقل تكاملي يفهم النص ضمن سياقه الخطابي والحالي، ويسعى إلى تحديد مقاصده الكلية وربطها بالمقاصد العامة للخطاب.
الهوامش:
- د. لؤي صافي، إعمال العقل, ص 118.
- د. يوسف القرضاوي ، المدخل لدراسة السنة النبوية, ص 45.
- د. محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة, ص491 .
- د. لؤي صافي ، إعمال العقل, ص128 .
- المصدر السَّابق, ص132
- المصدر نفسه .