أشتات

العبودية الناعمة

(وهم الحرية في عصر العلمنة الحديث)

يبدو الإنسان في هذا العالم المتحضر والمتمدن والمتطور في قمة الحرية والقيمة والتقديس والتعظيم، ويبدو أن الإنسان يعيش أعظم فترة في تاريخ الإنسانية في الرفاهية والراحة، أليس كذلك!!؟  لاشك أن جيلاً كجيلي الذي عشته والأجيال التي جاءت من بعدي سيجيب عن هذا السؤال بـ: بلى، خاصة أن العالم قد انتقل نقلة نوعية في مجال التكنولوجيا ووسائل الرفاهية، والراحة المتعددة كالهواتف والحواسيب والسيارات والطيارات وغيرها من وسائل التواصل وراحة الإنسان، ولاشك أن هذا الإنتاج الكبير الذي غزا العالم من كل فج وصوب وناحية قد أعمى عين المرء عن عيوب العالم شرقاً وغرباً، فبات المرء لا يرى إلا ذلك الإنسان الغربي المتمدن والقوي والخلوق والمتحضر والذي هو الشكل الأفضل الذي يسعى إليه الإنسان من شتى بقاع الأرض.

ولعل مصائب الدنيا في نواحي العالم قد عززت هذا الظن، وحملات الهجرة الكبيرة إلى أوروبا تشهد لذلك، فكل العالم يركض وراء أوروبا ليكون أوروبياً شكلاً ومضموناً، بل يحاول أن يتنصل من أصله ولغته وثقافته لصالح ثقافة البلد الغربي الذي يسكن به، بل ربما بعض المهاجرين يحملون الأفكار الأوروبية ويدافعون عنها أكثر من أصحاب البلد ذاته، فيكون ملكياً أكثر من الملك، وقد ساعد الإعلام العالمي بكل وسائله وأشكاله على زرع هذه الصورة النمطية التي باتت من المسلمات، حتى بت ترمق بعين التخلف والتنقص إن صرحت بعدم رضاك عن الإنسان الأوروبي الغربي، وبت تتهم بتهم الرجعية إن تمسكت بأصلك ولغتك وثقافتك.

إننا نعيش بعالم غريب.. ظاهره الرحمة والحرية والعدالة، وباطنه من قبله العذاب والعبودية، لكنها عبودية من نوع آخر، فهي ليست عبودية الرق والسبي، ولكنها عبودية ناعمة، تنفذ من كل شيء إلى داخلك لتجعلك عبداً للمال والجاه والتكنولوجيا، عبداً لهذه الدنيا، والعجيب أنك وأنت في قمة عبوديتك هذه تشعر وتتيقن أنك حر، تملك رأيك وفعلك، وتتصرف وفق إرادتك، لكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، لأنك ـ بكل ما فيك ـ ممنهج ومسير، ولا تختار إلا وفق خط سير معين، حددته لك الحضارة والثقافة الغربية المعاصرة، والتي تم إشباعك إياها وتشريب قلبك بها من قبل الإعلام، سواء الفضائيات أو وسائل التواصل الاجتماعي أو غيره.

إنها العبودية الناعمة…

فعبودية الماضي قد انتهت وانقضت، ولم يعد المستعمر بحاجة إلى إرسال جيوش مؤلفة من عتاد وسلاح ورجال لاحتلال العالم، وأسطورة المملكة التي لا تغيب عنها الشمس قد انتهت بشكلها السابق، لكنها بقيت بشكل حديث، فإنها حقيقة لا تغيب عنها الشمس، لأن وسائل العبودية الناعمة دخلت بيوت الناس في كل مكان، وعشعشت في قلوبهم وعقولهم وتمكنت منهم، فأصبح المرء مستعمراً في بيته، بين أهله، وبينه وبين المحتل آلاف الأميال والكيلومترات، وتقوم جيوش ما بعد الحداثة ـ الراعي الرسمي للعبودية الناعمة ـ بالتحكم بالعالم كله، بل وفي تفكيره، من بعيد! من خلال تعليب العالم وحمله على طريقة تفكير واحدة، لا تتعدد فيها الرؤى، إنما هي رؤية واحدة لكل شيء، وهي رؤية الإنسان الغربي.

إنها العبودية الناعمة…

أن تعيش عبداً مملوكاً من بعيد، ودون أغلال، ودون قيود، بل تكون عبداً وأنت في قعر بيتك، وبين أولادك، وعائلتك وأهلك، إلا أنك في الحقيقة تقاد من قبل منظومات فكرية أشبع عقلك بها، فغيرت أسلوب حياتك، ونظرتك للأشياء، وتم تعليبك بما يريدون، وأنت بدورك ـ وبلا وعيك ـ ستقوم بواجبك الجديد بتعليب وتسليع أولادك وأهلك ومحيطك ومجتمعك، في الوقت الذي تعتقد فيه أنك تخدمهم، بتقديم أيسر سبل الحياة والحضارة والتقدم لهم، بل أكثر من ذلك، فممن الممكن أنك تصبح دكتوراً في جامعة، أو وزيراً في وزارة، أو صاحب منصب تشرف فيه على عدد كبير من البشر والحجر، فتقوم بتقديم العبودية لهم بطبق الحضارة والعلم والانفتاح والتحرر، وترشدهم إلى طريق عبوديتهم.

(فاليوم يعاد صياغة العبودية بأسلوب جديد وفلسفة جديدة وهي فلسفة تشييء الإنسان وجعله سلعة تباع وتشترى، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة والأكثر انكشافاً في المجتمعات الفقيرة، مثل الأطفال والنساء والشباب العاطلين عن العمل، حيث أن هذه الهشاشة لم تأتِ وليدة ظرف معين بقدر ما هي مخطط لها من أصحاب السلطة والاقتصاديات المحلية وفي واقع مثل واقع فلسطين يمكن اضافة الاحتلال كسبب ثالث.

فاليوم نحن نصاغ ونتعلم في المجتمع، وبيئة العمل، والدولة، فن الانصياع والطاعة العمياء ولكن بأدوات جديدة غيرت المفهوم التقليدي للعبودية، فاليوم نحن عبيد الاستهلاك، والاعلام، والمسؤولين، عبيد للمهيمنين على الاقتصاديات الصغيرة  والكبيرة وصانعي القرار، وأصبح مفهوم الحرية مشوهاً فكلما زادت مهاراتك في الاستهلاك الغبي لكل ما يقال ويباع ويُسوق لك، كلما زاد الرضى عنك، وبالتالي زيادة الشعور بحريتك المزيفة، والأدهى من ذلك أننا لم نعد عبيداً بلهاء لا حول لنا ولا قوة، بل عبيداً أذكياء ، نجد مبررات للخيبة التي نعيشها فنحن أوجدنا أشكال تبرير لكل السلوكيات الشاذة)(1).

تعمل التيارات في هذا العصر على خلق حالة حياتية جارفة، بحيث يتم تنميط الأفراد والمجتمعات بنمط معين، تتم السيطرة عليه وتسيير أفراده بطريقة غير مباشرة، وإنما عن طريق الإعلام بكافة صوره، التي تحيط بنا من كل جانب، ودخلت حياتنا من كل فج، وكادت ـ أو تكاد ـ تطبق مخالبها على تفاصيل حياتنا، وقد دخلت وسيطرت هذه المنظومات على حياتنا من خلال تصديرها لنا بأسماء مختلفة، منها ما هو صحيح ومنها هو كاذب، كالتقدمية والتطور والحضارة والتكنلوجيا ومسايرة الأمم المتقدمة، وعدم البقاء في حضيض الثقافة والفكر، وبالتالي تتولد لدى الإنسان ثقافة معاداة التراث، والتخلص منه، وأنه لا منجى من التخلف إلا بالتخلص من القديم والعتيق والتراث، نلاحظ بعد ذلك.. أن هذه الحالة أشبه ما تكون بالعبودية الحقيقية، إلا أنها ليست عبودية رق وملك حسية كما كانت من قبل، بل عبودية ناعمة يتم فرضها بطريقة غير مباشرة ولا واعية، نتشر بها ونحن راغبون، ونأكلها ونحن طامعون، ونلبسها ونحن مقبلون غير مدبرين.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 2 العبودية الناعمة

والأهم من ذلك.. أن الإنسان في خضم هذه العبودية يعيش حالة من الانفصام في شخصيته، والازدواجية، فهو يعتقد ويتيقن ويؤكد أنه حر، وأنه يمارس حريته في كل شيء، وإقناعه يكاد يكون مستحيلاً بأنه مسير غير مخير، بفعل معايشة العبودية العميقة، فيعيش عبداً منمَّطاً مشيَّئاً معلباً، في الوقت الذي يعتقد فيه أنه أكثر الناس حرية على وجه الأرض، وهذه العبودية تلقي بظلالها إلى كل نواحي الحياة، وليس على البشر فقط، بل حتى على الحجر، كما سنرى، فهي تأتي لتغير نظرة الإنسان إلى كل شيء، حيث يصير الأهم والمهم هو القشر والمظهر دون الداخل، فالإنسان عبد في صورة مختار وحر وسيد ومتقدم ومتطور وحضاري! وهو في الحقيقة لا يملك من أمره شيئاً، ولا سيادة له على نفسه ولا على أهله ولا على أولاده ولا على مجتمعه، وإنما هو خادم، ولا يعلم أنه خادم!

إنها تسعى إلى إلغاء حالة التحسين والتقبيح، أي إلغاء العقل وأحكامه على الأشياء، إلى خلق حالة من استحسان كل شيء، أي شيء، فليس ثمة قبيح في مجتمع ما بعد الحداثة، فكل فكرة تحقق للإنسان لذة وشهوة فهي مقبولة وشرعية، لابد ـ ولو بالقوة ـ أن يقبلها العقل البشري، وهذا هدفه جعل المجتمعات مستقبلة لكل فكرة، تسعى حالة ما بعد الحداثة إلى نشرها، فهي تسعى إلى تغييب العقل الجمعي الذي من خلاله يتم الفرز بين ما يجب استقباله أو استبعاده، واستحضار حالة “البلع” من قبل المجتمع لكل شيء، دون تمييز بين ما هو سيء وحسن، ولعل الغاية الأهم من ذلك كله، تصدير الأفكار الجديدة على الإنسانية، والتي كان الجميع “كل الأمم” تستقبحه وتستقذره وترفضه، كالإلحاد والمثلية والجندرية والإباحية والنسوية وما شابهها، فالمجتمع في هذا العصر وهذه الحالة معلب، عبارة عن علبة يتم ملؤها بما يريدون، فالعقل الجمعي غائب تماماً.

فالحسن ـ في هذا العصر ـ هو ما استحسنته ما بعد الحداثة، ولو كان قبيحاً في العقل والفطرة، والقبيح ما تقبحه ما بعد الحداثة ولو كان العقل يستحسنه، وبهذا يتم تفسير كل شيء حولنا، نراه ونسمعه من أفكار وقوانين ومنظومات فكرية وتيارات ونظريات وافتراضات وغيرها.

وتعميم هذا التحسين والتقبيح للأشياء على العالم شرقاً وغرباً هو العبودية الناعمة، فيصبح الإنسان يفكر وفق تفكير الإنسان الأوروبي ونظرته للأشياء، وما دام الإنسان الأوروبي يرى أن المثلية حالة صحية فهي حالة صحية، ولو استقبحها العقل العربي والإسلامي مثلاً، ولو كانت تعاليم الدين تخالفها، إلا أن المعيار للحسن والقبح هو نظرة الغربيين إلى أشياء الكون، ونظرة الغربيين هذه للأشياء ـ وفق تحسينهم وتقبيحهم ـ ستعمم تلقائياً إلى الكلام عن الجواز والرفض، فالمستحسن جائز، والمستقبح مرفوض، وبالتالي سيظهر بعض العبيد ـ ممن استعبدوا بقوة ناعمة ـ ويطلقون فتاوى وأوامر وقرارات ملكية وتوجيهات رئاسية لقبول هذه المثلية المستحسنة، وسيقام لها الندوات والمؤتمرات، لاستنطاق النصوص وإجبار العقل الجمعي للشعوب على تفهم هذا الشذوذ على أنه حالة صحية وشرعية، وسيتم إنشاء الجمعيات التي تدافع عن حقوق الشواذ، ومحاربة التنمر تجاههم من قبل أولئك المتخلفين الرجعيين، والذين هم في الحقيقة: أهل الدين والقيمة والغيرة والعقل والفطرة والاستقامة وأهل الإيمان.

فالإنسان المستعبد أعمى.. سيصيبه الذهول حال رؤيته إنجازات الحضارة الغربية المبهرة، والتي تأخذ الألباب، حتى يغيب شيئاً فشيئاً عن ذهن المستعبد أن جزءاً كبيراً جداً من حروب وحطام وفشل هذا العالم إنما كان سببه الإنسان الغربي المتحضر، فالدول التي وقعت تحت نير الحروب والمستبدين إنما حصل ذلك بسب الغرب وسياسته تجاه الشعوب غير الغربية، والتي تراها عبيداً لسياساتها، وأنهم خلقوا لتنفيذ ما يريده الإنسان الغربي، وبالتالي فالدول الفقيرة ـ ولو كانت غنية ـ إنما تذهب خيراتها إلى الغرب، بسبب تسلطه وعداوته لغيره من البشر، وحتى لو أدرك المستعبد هذه الحقيقة إلا أنه سيكون شاطراً ـ إن صح التعبير ـ في اختلاق التبريرات الكثيرة التي يلقي من خلالها اللوم على نفسه وشعبه وبلده، وسيكون شاطراً كذلك في نفي نظرية المؤامرة بشكل كامل، حتى لا يخطر بباله إلا أن الإنسان الغربي قد فطر على الذكاء والحضارة والإنتاج، بينما جبل بقية الناس وفطروا على الغباء والتخلف والاستهلاك، وأن هذا العالم بكل ما فيه عالة على المجتمعات الغربية، ولولا صحة ذلك ـ كما يقنع نفسه ـ لما هاجر الناس كلهم إلى أوروبا بحثاً عن الحرية والقيمة والرفاهية والإنسانية.

وليس لدى هذا الإنسان المستعبد أدنى قوة وقدرة ـ بسبب قوة عبوديته الناعمة ـ على استرجاع واجترار الماضي الذي يبين وينسف هذه الدعاوى، والذي يكشف أن الإنسان الغربي كان في لحظة من اللحظات أتعس أهل الأرض وأشقاهم، بل جزء كبير منهم كان يلتجئ إلى الإنسان الشرقي بحثاً عن الأمان من جحيم أوروبا ونارها المستعرة، ذلك أن الإنسان المستعبد إنسان منهزم، قد ماتت بذور النصر والعزة في قلبه، ولذلك يقرر دائماً أن نهاية التاريخ هي أوروبا، وأن الشعوب البقية ليس بوسعها إلا أن تتشبه بها، وتحاول أن تكرر تجربتها على شعوبها، لعلها تحقق شيئاً مما حققته أوروبا في طريقها إلى التمدن والحضارة، ولذلك فالحل في كل الدول والمجتمعات هو الحل الأوروبي: علمانية وديمقراطية وحرية مطلقة وتقديس للإنسان وذبح للدين وتضييق عليه وعلى أهله، وفتح الباب على مصراعيه لكل الأفكار الوافدة التي يريدها الناس، كالمثلية والإباحية والجندرية والركض وراء الجنس والمال والشهرة وغيرها، بغير ذلك.. فنحن لن نتقدم وفق ما يراه الإنسان المستعبد للغرب وما بعد الحداثة، وأي محاولة للنهوض مع المحافظة على الدين والمبدأ والثوابت والثقافة واللغة فهو عبث، وتضييع للوقت، وانشغال بما لا يحسن الانشغال به.

حتى لو حصرته ـ أقصد الإنسان المستعبد ـ في الزاوية في حجاجك ونقاشك، فإنه سيتمكن في ظل ذكائه في الدفاع عن عبوديته بأن يدافع عن نفسه وعن أوروبا بقوله: من قال إن أوروبا قد ركبت كلها في سفينة ما بعد الحداثة، هناك يمين ويسار في الأحزاب الأوروبية، وفي تفكير الناس، وهذه الحالة من الصراع بين اليمين واليسار هي حالة الديمقراطية التي يفتقدها الشرق، هذا على حد زعمه، ونسي المسكين أن الغرب بيمينه ويساره هو عبارة عن موجتين لهذا التيار الجارف، المسمى ما بعد الحداثة، وأن الغرب ـ بيمينه ويساره ـ جزء من اللعبة في تعميم العبودية الناعمة على البشرية كاملة، وأن اليمين قبل اليسار لن يرضى أن تكون حراً بعيداً عنهم، وبعيداً عن التفكير وفق رؤيتهم ونظرتهم للأشياء.

الهوامش:

  1. انظر مقال: العبودية لا يغيرها المكياج ولا يجملها الكوافير، حسام شحادة، موقع دنيا الوطن.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال في غاية الروعة ، يصف الحالة العامة التي آلت اليها المجتمعات العربية و الإسلامية ،و يشخص عللها و امراضها ،و اسباب تلك العلل ،و سبل التعافي منها .
    مقال يستحق الرجوع اليه اكثر من مرة ،لفهم كل جملة جاءت فيه ،لما له من أهمية ،في توعية الناس بما يدور حولهم من خطط و مؤامرات غربية ، في مناهج التعليم و الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.التي قولبت العقل الجمعي العربي لصالح الفكر الغربي ، فأصبحت تابع مقيد الفكر ، مقيد الارادة ، لا يمكنه تصور مجتمع بعيد عن هذه الرؤية الغربية ، التي يرى فيها حريته و خلاصه من العديد من المعوقات الحضارية التي تتخبط فيها هذه المجتمعات العربية والاسلامية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى