أشتات

العدالة الانتقالية في سوريا

الطريق نحو الاستقرار وإعادة البناء

كم حنَّ السوريون لفسحة النور بعد دهورٍ قضوها في كهف الظلم المستبد؛ لقد تحطَّم الجدار وتعانقت خطاهم مع شمس الحرية الدافئة، هم اليوم في أمسِّ الحاجة لكلِّ أداةٍ ووسيلةٍ تشدُّ من عزمهم، وتُفضي بهم إلى وطنٍ ينعم بالكرامة والعدل. تطرّقنا في المقال السابق لأهمية بناء رؤية واستراتيجية شاملة لسوريا الجديدة، تضع الأسس لمنظومة حكمٍ رشيد وعادل، يأخذ على عاتقه التصدي للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وها نحن الآن نستكمل الحديث عن العدالة الانتقالية، بوصفها ركيزةً أساسيةً لتحقيق الاستقرار الدائم، وضمان ألا تتكرر انتهاكات الماضي. إنّ العدالة الانتقالية ليست مجرد إجراءٍ شكلي أو مسارٍ للتعويض المادي، بل هي منظومة متكاملة تتناول المحاسبة، والتعويض، والشفاء الاجتماعي، والتشريعات الداعمة، مستفيدةً من التجارب العالمية التي سبقتنا في هذا المضمار.

المحاسبة: عدالة بلا تمييز

في الحديث النبوي الشريف: ” اتقُوا الظُّلْمَ؛ فإن الظلم ظلُمات يوم القيامة “. من أجل ذلك كانت محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والظلم والاستبداد هي أولى خطوات تحقيق العدالة الانتقالية. فلا يمكن أن تُبنى العدالة على التغافل عن الجرائم أو التسامح مع الجُناة؛ بل يجب أن يأخذ كل ذي حقٍّ حقّه، ويُحَاسَب كلُّ معتدٍ مهما علا شأنه، دون تمييزٍ أمام القانون. وقد جاءت القيم الإسلامية الكبرى مؤكدةً هذه الحقيقة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمد سرقت لقطعتُ يدَه “. وفي سوريا التي عانت من الظلم والقهر، لا بد من مؤسساتٍ قضائيةٍ مستقلة تتولى مهام المحاسبة بكل شفافية. فكما قال الماورديّ في (أدب الدنيا والدين):

” إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان. وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل “.

فكيف نأخذ خطوات عملية لتفعيل عملية المحاسبة هذه؟

1. تأسيس هيئة خاصة بالعدالة الانتقالية: من أهم الخطوات في سبيل تحقيق مبدأ المحاسبة، إنشاء هيئة خاصة بالعدالة الانتقالية في سوريا مستقلة وممولة بشكل كافٍ، شبيهة بالتجارب الأخرى في العالم كتجربة تشيلي والأرجنتين ورواندا، التي استخدمت لجان الحقيقة لاستكشاف مصير المختفين قسريًا، وتضم بين جنباتها هيئة قانونية سياسية تتولى تحويل القضايا المتعلقة بجرائم الحرب والتعذيب إلى القضاء. 

2. جمع الأدلة وحفظها: لا عدالة من دون حقائق موثّقة. يجب تبنّي آلياتٍ تضمن جمع الأدلة المادية والشهادات والوثائق التي تُثبت مسؤولية الجناة في جرائم القتل والتعذيب والفساد، مع حماية الشهود وتشجيعهم على الإدلاء بشهاداتهم دون خوفٍ من الانتقام. 

3. ضمان حماية الضحايا والشهود: كي تُفعل المحاسبة بصدق، لا بد من إجراءاتٍ أمنية صارمة تحمي الضحايا والشهود والخبراء القانونيين من التهديد والإكراه. 

4. تنظيم محاكمات علنية عادلة: كلّ من تورط في سفك الدماء وإذلال الشعب السوري ينبغي أن يمثل أمام محكمةٍ علنية لا تُميِّز بين مواطنٍ عاديٍّ ومسؤولٍ رفيع. تلك الشفافية تُوصل رسالةً واضحة بأن لا أحد معصوم من المساءلة حين يتعلق الأمر بإزهاق الأرواح أو نهب ثروات الشعب. وصدق القائل حين قال: (إنّ العدل أقل كلفةً من الظلم والأمن أقل كلفةً من الحرب). 

5. إحياء الذكرى: جزء من العدالة الانتقالية هو إحياء الذكرى من خلال المتاحف والنصب التذكارية، لكي تظل مأساة الشعب السوري حية في الذاكرة الوطنية.

التعويضات: ردُّ الاعتبار للضحايا

لا يخفى على أحدٍ أن النظام السوري البائد خلّف خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وأفرز مآسي إنسانية لا تُحصى. وهنا تأتي أهمية تعويض الضحايا وذويهم، ليس من باب المنّة، بل من أجل استعادة ما سُلب بالظلم. ليس التعويض المادي هدفًا بذاته، فالضحايا يحتاجون كذلك إلى اعترافٍ صريحٍ بما لحقهم من أذى، ومؤسساتٍ قانونيةٍ محايدةٍ تصون حقوقهم. وقد وضع أبو إسحاق الشاطبي قاعدة جوهرية عن مقصد الشريعة الأساسي: “إنها ـ أي الشريعةـ وضعت لمصالح العباد “, وفي نفس السياق يقول العز بن عبد السلام: ” إن الشريعة كلها مصالح: إما درء مفاسد وإما جلب مصالح “. وهو تأكيدٌ على أنّ التكافل والإنصاف وردّ الاعتبار من صميم الشريعة الإسلامية، وأنَّ التعويض عند وقوع الظلم واجبٌ أخلاقيٌ يحقق الأمن والاستقرار.

الشفاء الاجتماعي: بناء الثقة بين المجتمع والدولة

قال الطغرائي:

 أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها

ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ

لا يمكن الحديث عن عدالةٍ انتقاليةٍ ناجحةٍ من دون التركيز على الشفاء الاجتماعي. إنّ سوريا اليوم بحاجةٍ ماسة إلى تضميد جراحها الغائرة، التي لا تُرى بالعين المجردة، بل تستقر في أعماق النفوس. يتطلب ذلك دعم برامج حوارٍ مجتمعي تساعد على استعادة الثقة بين المواطنين أنفسهم، وبين المواطنين ومؤسسات الدولة، وبناء جسورٍ جديدةٍ للتفاهم والتعاون. وكما قال الحكيم يوما: ” الحياة بلا أخلاق وفضائل، كالشجرة بلا ثمر “، ولا فضيلة أسمى من التعاون والتكاتف والتكافل والتسامح التي تنبع من قوة العدل. إنّ هذه القيم الكبرى لا تعني التفريط في المحاسبة أو السماح بالإفلات من العقاب، بل يوازن بين حقّ الضحايا في الإنصاف، وحق المجتمع في فتح صفحةٍ جديدةٍ من الاستقرار.

السياسة, ميزان العدل

أهمية التشريعات: قانونٌ عادلٌ يُحارب الظلم

لا يُمكن لأي مشروعٍ للعدالة الانتقالية أن ينجح ما لم يكن هناك إطارٌ تشريعيٌّ واضح يأخذ على عاتقه حماية الحقوق ومحاسبة الجناة. فلا يكفي النص على مبادئ عامة، بل لا بد من آلياتٍ قابلةٍ للتطبيق تضمن عدم التمييز وإتاحة الفرصة للجميع للوصول إلى القضاء. ومن أهم الخطوات العملية لتفعيل هذه التشريعات:

1. تشكيل لجنة دستورية مستقلة: تتضمن حقوقيين متخصصين، وممثلين عن كل شرائح المجتمع، وكذلك ممثلين عن القوى السياسية تضع مسودة دستورٍ جديدٍ أو تعديلاتٍ دستورية تُجرّد السلطة من أي مادةٍ تسوغ الاستبداد أو تعرقل مسار العدالة الانتقالية. وأولى نقاط هذا الإعلان هي دستورية النضال العسكري ضد نظام الأسد، بما يضمن حماية المقاتلين والمناضلين الذين سطروا صفحات المجد في مواجهة الظلم، بناءً على المبادئ التي أرساها دستور 1950 الذي كتبته جمعية تأسيسية كانت تمثل تطلعات الشعب السوري. 

2. إصدار قوانين تجرّم الانتهاكات الجسيمة: يجب أن تكون هناك نصوصٌ صريحة وواضحة تعاقب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، مع تحديد إجراءات تقاضي مرنة وسريعة. 

3. تأسيس هيئات رقابية: لضمان تطبيق القوانين وعدم التلاعب بها، كهيئة وطنية لمكافحة الفساد، وجهات مستقلة تتابع تنفيذ الأحكام القضائية. 

4. إدماج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية: ليكبر الجيل الجديد وهو يدرك حقوقه وواجباته، ويمارس ثقافة القانون لا ثقافة القوة.

من الضروري أيضًا أن تقوم هذه القوانين على مبادئ حقوق الإنسان التي أقرّتها الشريعة الإسلامية قبل المواثيق الدولية، مثل مبدأ حفظ النفس والمال والعرض، ومبدأ ” لا ضرر ولا ضرار “فتشريعاتٌ كهذه تضمن عدم تكرار مآسي الماضي، وتخلق قاعدةً متينة لحماية الحريات والحقوق.

التجارب العالمية: كيف نتعلم من الآخرين؟

قال العربي يوماً أنّ السعيد من اتَّعظ بغيره، والشقي من اتَّعظ بنفسه. إنّنا عندما نتحدث عن العدالة الانتقالية، فإنّه لا يمكننا تجاوز التجارب العالمية التي نجحت في تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين المحاسبة والمصالحة. فإلى جانب تجربة جنوب أفريقيا التي أُنشئت فيها (لجنة الحقيقة والمصالحة) بعد نظام الفصل العنصري، والذي تمت فيها تفضيل الانتقال السياسي على العدالة الانتقالية، حيث تم إطلاق صفقة شراكة بين نيلسون مانديلا وفريدريك كلارك لإتمام الانتقال السياسي. ورغم نجاح جنوب أفريقيا في تحقيق الانتقال السياسي، إلا أن لجنة الحقيقة والمصالحة لم تستطع تطبيق توصياتها بالكامل بسبب تركيزها على الانتقال السياسي فقط. في المقابل نجد تجربة رواندا المتميزة في هذا السياق، والتي شهدت إبادة جماعية قُتل فيها أكثر من ٨٠٠ ألف شخص خلال ١٠٠ يوم، نجحت رواندا بشكل أكبر في تحقيق العدالة عبر محكمة دولية لمحاكمة المجرمين الكبار، مع إعطاء فرصة للمحاكم المحلية لمعاقبة الفاعلين بناءً على التقاليد القبلية. وكذلك لا يغيب عن القارئ محاكم نورمبرغ عقب الحرب العالمية الثانية. هناك، وقف كبار القادة النازيين أمام محكمةٍ دولية في محاكمةٍ علنيةٍ لم تكتفِ بالاعتراف بالأخطاء فحسب، بل وجّهت اتهاماتٍ جنائية أدّت إلى إصدار أحكامٍ صارمة بالحبس والإعدام. رأى العالم في تلك المحاكمات أن العدالة ليست مجرد قيمةٍ مثاليةٍ، بل واقعٌ قابلٌ للتحقق، وشعر الملايين بأن القصاص ممكنٌ حين تتوافر الإرادة السياسية والقانونية. ومع ذلك، ندرك أنّ اجتماع القوى الدولية في نورمبرغ لم يكن ليتم لولا اتفاق المنظومة الغربية على ضرورة محاسبة النازيين، بينما تُرتكب اليوم مجازرٌ وإباداتٌ جماعيةٌ أمام نظر العالم ـ كما في غزة، وما حدث في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي وبعد ثورة 2011, دون تحركٍ مماثل، ما يضاعف مسؤوليتنا كسوريين في أن نسعى لبلورة مشروع عدالةٍ انتقاليةٍ ينصف الضحايا ويقتص من المجرمين رغم تجاهل المجتمع الدولي.

من خلال النظر إلى التجارب العالمية، نلاحظ أن العدالة الانتقالية ليست عملية قضائية 100%، بل هي عملية سياسية تعتمد على قرارات سياسية جريئة. إن على السوريين ألا ينظروا إلى العدالة الانتقالية كبديلٍ للقصاص، بل كوسيلةٍ أوسع تشمل الاعتراف والتعويض والإصلاح، جنبًا إلى جنب مع المعاقبة الصارمة لمن تلوثت أيديهم بالجرائم الكبرى، ومن أبرز الحلول المقترحة لتسريع محاكمات العدالة الانتقالية في سوريا هو تشكيل محكمة مختلطة تضم قضاة سوريين ودوليين بإشراف سوري. هذه المحكمة يمكن أن تعمل على تسريع المحاكمات وضمان نزاهتها، مع مراعاة الظروف المحلية والضغط الدولي من أجل العدالة.

ختاماً

ختاماً يُقال: ” ما ضاع حقٌّ وراءه مُطالب “, لقد مرَّت سوريا بتحولاتٍ مفصلية دفعت أهلها لحلمٍ مشترك: حياةٌ عادلة لا يُهَمَّش فيها أحد، ولا تتكرّر فيها مآسي الماضي. لذلك من المهم التأكيد أنّ العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل ضرورةً ملحّة لئلا تعود عجلة الظلم إلى الدوران. والبديل عن العدالة المنصفة هو مستقبلٌ غامضٌ تسيطر فيه الأحقاد والانتقامات. وفي هذا السياق، يصدق قول القائل: ” العدل جيش لا يُهزم “.  فحقيقة النصر ليست في البطش أو القوة الغاشمة، بل في إحقاق الحقّ وبسط العدل. كلّما تبنّينا رؤيةً تعلي شأن الحرية وتبني جسور الأمل بين السوريين، نما فينا الأمل بمستقبلٍ أفضل.

إنَّ مسيرة الحرية التي انطلقت في سوريا تستحقّ ألا تُجهَض بالفوضى والانتقام، بل أن تتوّج بالعدل والمساواة، في وطنٍ يُسهم في نهضة المنطقة العربية بأسرها. ولئن بدا الطريق طويلًا، فإن كل خطوةٍ عادلةٍ هي بذرةٌ تُزرع في تربة المستقبل، ولن تُثمِر إلّا حين نسقيها بإرادةٍ صادقةٍ وإيمانٍ راسخٍ بقيمة الإنسان. نلقاكم في المقال القادم لنخوض سويًّا في مفهوم الإصلاح السياسي، ونستكشف سُبله في استراتيجيات إعادة بناء الدولة وتعزيز المشاركة السياسية، للانتقال من عهد الاستبداد إلى عهد الحكم الرشيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى