أشتات

العلامة الربيدي: سبعون عامًا على ثغر العلم والبذل

منذ أن بزَغَ نورُ العلمِ في اليمن، كانت تهامةُ سهلًا خصيبًا يُنبت الفقهاء والعلماء كما يُنبت الزرعُ الطيِّبُ سنابله، وكم انبعث من سهولها ومآذنها نُبلاءُ العلم، وحفَظَةُ الشَّريعة، وشُيِّدت فيها زوايا الذِّكر، ومجالس الإقراء، حتى صارت مناراتُ تهامةِ قبلةً للطلاب، ومثابةً للروَّاد، ومدرسةً يُروى فيها الحرفُ بالعرق، وتُعلَّمُ فيها الحروفُ بالحضورِ والخشوع.

وكان علماؤها لا يقفون عند حدود الرواية والحفظ، وإنما يحملون عن الأمَّة أعباءَ الإصلاح، ويرتقون بالمعرفة إلى حيث تثمر سلوكًا، وتُضيء وعيًا، وتصوغُ ضميرًا. ومن أولئك الكبار الذين حملوا لواء العلم والدعوة والإصلاح، وورثوا هدي النبوة خلقًا ومنهجًا، ولبثوا فيه أعمارًا طويلة = شيخُ تهامة، وعلّامةُ اليمن، الأستاذ الدكتور محمَّد بن يوسف الربيدي، حفظه الله ومتَّعه بالصَّحة وحُسن العمل.

أستاذنا الدكتور العلامة محمَّد بن يوسف بن محمَّد الرُّبيدي، نسبة إلى جَدِّه. ولد في عام (1356هـ) تقريبًا في قريةِ دير الرُّبيدي إحدى قرىٰ ريفِ مدينةِ الزيدية، بمحافظةِ الحديدة، قبيلة العطاوية، نشأ في رعاية والده حتى بلغ سن التَّمييز، ومنذُ بدأَ الدِّراسةَ في ميعةِ صباه، في منتصفِ القرنِ الماضي، في جامعِ “صائمِ الدهر”، وحصوله على الإجازاتِ العلميَّة من مشايخه، ثُمَّ التدريس في الجامع ذاته، حتى حصوله على درجةِ الدكتوراةِ في ثمانيناتِ القرنِ المنصرم = والشيخ قائمٌ على ثغرةِ العلم، معلمًا، متعلمًا، داعيًا، موجهًا، ومصلحًا، وقد ولجَ بوابةَ الثَّمانين؛ ولم ينقطعْ عن ذلك!

بعض مشايخه:

تتلمذَ العلامة الرُّبيدي على كبارِ علماءِ الأمَّة؛ فمن مشايخه في اليمن: العلامة الزوَّاك (ت: 1384هـ)، وأحمد بن محمَّد بن أحمد بن عمر علي عامر الشحري (ت: 1421هـ)، والعلامة مَنصِب(1) مدينة الزيدية محمَّد بن محمَّد عبد الرحمن القديمي (ت: 1418هـ)، والمُدَيْني (ت: 1421هـ)، وتلمذَ على ثلة من آلِ الوشلي رَحِمَهمُ الله. ومن مشايخه في مكَّةَ شرفها الله: العلامة التباني، والمالكي، والمشَّاط، والعلامة محمَّد نور سيف بن هلال، والفاداني، والعلامة عبد الله سعيد اللحجي، والبطَّاح. وممنْ تلمذَ على أيديهم في المدينةِ المنورة: صاحبُ أضواءِ البيان، العلامة محمد الأمين الشّنقيطي (ت: 1974)، والعلامة عطيَّة سالم (ت: 1430هـ)، وكانَ مشرفًا على رسالته الماجستير؛ والشَّيخ حسنين محمَّد مخلوف المصري (ت: 1410هـ).

وقد نالَ الشَّيخُ الربيدي من أسانيد العلماء نصيبًا وافرًا، إذْ تتلمذ على جملةٍ من كبار المسندين، وقرأ عليهم، وأخذ الإجازات المتصلة بأصولها، حتى بلغ علوًّا معتبرًا في السَّند، متصلَ الحَلْقة، موصولَ النُّور، فلا تكاد تذكر سندًا في الحديث أو الفقه أو التَّفسير، إلا وله فيه عُروة موثوقة. وقد ورَّثَ تلك الأسانيد لطلابه، كما تُورَّث الدُّرر النَّفيسة، فاستكمل بهم حلقة النور، وصار كثيرٌ منهم واسطةَ عقدٍ في سلسلة الرواية بعده، وهذا مما يُحفظ به ميراث النُّبوة، ويُصان به موضعُ العلم في الأمَّة، ويُعرفُ به فضلُ العالم إذا جلس في مصافِّ أهل الأثر، متصلاً بالسَّلف سندًا وسلوكًا وسَمْتًا.

الربيدي سبعون عامًا على ثغر العلم والبذل 3 العلامة الربيدي: سبعون عامًا على ثغر العلم والبذل

العودة إلى الوطن:

في ستٍ وثمانين وتسعمائةٍ وألف؛ قدِمَ إلى الوطنِ بعدَ اغترابٍ دامَ عقدًا ونصفًا، قضاها في طلبِ العلمِ والمعرفة، عندَ عودته؛ اِلتَحَقَ مدرِّسًا بجامعةِ صنعاء كلية الآداب، كما تمَّ انتدابه إلى كليةِ التربيةِ “بتعز”، يومَي الأربعاء والخميس من كلِّ أسبوع، وعندما فُتِحَت كلية التَّربيةِ في الحديدة فرعًا لجامعةِ صنعاء، عُيِّنَ وكيلًا لها، ومدرسًا فيها، ثم أنشأت جامعة الحديدة؛ فكانَ عميدًا لكليةِ الشَّريعةِ والقانون عقدًا من الزَّمن؛ إلى أن قدَّمَ استقالته للتَّفرغِ العلمي.

وإلى جانبِ انشغاله الأكاديمي والعلمي في الجامعةِ؛ انشغلَ أيضًا بالدَّعوةِ إلى الله، وتصحيحِ المفاهيم المنحرفة، وأسهمَ في إنشاءِ المدارس العلميَّة، ومدارس التَّحفيظ، وتكفَّل بالعديدِ من طلبةِ العلم، وكانَ وجيهًا، يتصدَّقُ بجاهه لكلِّ محتاجٍ وضائق، لا يردُّ طلبًا لأحد، وقد رأيته بعيني يذهبُ ويكتبُ إلى المسؤولين، ورجالِ الأعمال، للحديثِ معهم لقضاءِ حاجةِ إنسانٍ اشتدَّ به الخناق، وأرهقته الأزمات، وإني لأتذكر جيدًا، أني كنتُ إذا وقعتُ في ضائقة، ودارَ بيننا اتصال، يقولُ لي: أخبرني عن القائمِ هناك، وابعثْ رقمه إليَّ وأنا أتحدثُ معه، كانَ اهتمامه هذا يكفيني منه، ولا زيادة.

يعدُّ العلامة الرُّبيدي، عَلَمًا من أعلامِ الشَّافعية في تهامةَ واليمن، وعلمًا في الوسطيةِ العلمية بينَ مختلفِ المدراس، فقد حظيَ بقبولٍ كبير، لمرونته، وتقبله للآخر، وسعةِ صدره، وعظيمِ خلقه، وكرمِ شمائله، وإني لأعرفُ الكثير مما يمكنُ أن يكتبَ في هذا الشَّأنِ عن شيخنا أطالَ الله في عمره.

وقد تركّ العديد من المؤلفاتِ النَّافعة، والتَّحقيقات المتقنة، وناقشَ وأشرفَ على عشراتِ الرَّسائلِ العلميَّة، وكان من كبار المفتين في المدينة، يلجأ في فتاواه إلى التيْسير، ولا يلتزمُ المذهبَ في الإفتاء إن اضطرَ الأمر؛ وهذا ما دفعه إلى تأليفِ رسالةٍ قيِّمة حولَ مسِّ المصحفِ للحائض والنُّفساء والمحدثين، على خلافِ المذهب، وما ذاكَ إلا تخفيفًا، وتجنبًا للمشقَّة التي لمَسَها من طالباته في الجامعةِ، ومدارسِ تحفيظِ القرآن الكريم للنِّساء.

عُرِفَ الشَّيخُ بعذوبةِ حديثه، وصون لسانه عن ذكرِ غيره، وحبِّه لطلابه وزوَّاره، وهو كريمُ اليدِ واللسان، بسَّامًا، بشوشًا، لينًا، هينًا، يَألفُ ويُؤلَف، مع تورعٍ وتصاون هو فيهما نسيج وحده، فإذا ما حضرتَ درسًا في منزله العامر؛ إلا ويأمرُ بصبِّ القهوة، والنعناع، وإذا تغيَّبَ أحدهم سألَ عن حاله، وكم من مراتٍ رفع هاتفه يتصلُ بأحدهم مطمئنًا، سائلًا، داعيًا له بالتَّوفيقِ والسَّداد.

الربيدي سبعون عامًا على ثغر العلم والبذل 2 العلامة الربيدي: سبعون عامًا على ثغر العلم والبذل

رأيتُ شيخنا أول مرةٍ في حياتي في “جامعِ الرحبي”؛ كنتُ يومها في مطلع الإعداديَّة، كان يلقي درسًا في الفقه المقارنِ كل أربعاء، بدا لي يومها شيخًا مهيبًا، لباسه البياض، وكذا عمامته ولحيته، يتحدثُ بصوتٍ هادئ، ولغةٍ رصينة، لم أكنْ أفهمُ كثيرًا مما يقول، لكنَّ حبه وقعَ في قلبي منذُ تلكَ الأيام. وما علمتُ أنَّ هذا الرجل سيكونُ حاضرًا معي في كثيرٍ من محطَّاتِ الأيَّامِ الكبرى.

في الأزمةِ الأخيرة، نَزَحَ شيخنا إلى صنعاء، ومكثَ فيها بضعة أشهر، كنتُ أزوره باستمرار، كانَ قلبه مُعَلَّقًا بمدينةِ الحديدة، ومكتبته العامرة، وطلابه، ودروسه، كنتُ ألحظُ أنفاس الحنين، ولوعة الشَّوق التي ارتسمت في وجهه وحديثه، كانَ معجبًا بهواءِ صنعاء، لكنَّ الروح كانت في مكانٍ آخر. ولهذا؛ ما إن هدأتِ الأوضاع قليلًا، حتى قرَّرَ النزول إلى المدينةِ التي أحبَّ وأحبتْهُ!

وقد جمَعَ الشَّيخ بين التَّعليم الأكاديمي، والتَّعليم التَّقليدي، فكانَ نموذجًا في الاِنضباط، والتفاني، والإتقان، في النَّهار يمارسُ عمله العلميِّ الأكاديمي والإداري، وباقي يومه يعلِّمُ في المسجد، والمركز، وفي منزله، وللشَّيخ مكتبة عامرة، يستقبلُ فيها طلاب العلم للقراءةِ عليه، والسَّماع منه، واستقبال الفتوى، والإصلاح، وتقديم المشورة، والرأي.

وحين يُذكَرُ العالِمُ العامل، يُذكَرُ من جمع بين حُسنِ المأخذ، وغزارة العلم، ونقاء القلب، وسعة الصَّدر، ونبل الطَّريقة، وتلك خصالٌ اجتمعت في شيخنا الرُّبيدي، فكان بين النَّاس عالِمًا مؤتمنًا، ومربِّيًا رحيمًا، ومفتِيًا بصيرًا، وإمامًا في التيسير والرَّحمة.

إنَّ سيرة شيخنا العلامة الربيدي ليست حكايةَ عُمرٍ فحسب، وإنما هي مدرسةٌ في المكارم، والسَّمت، والنَّفع العام، وشاهدٌ على الجيل الذي أدركَ منزلةَ الكلمة، وأمانةَ العلم، وجمالَ البذل الخفي.

ندعو الله، في ختام هذه الإطلالة على حياة شيخنا، أن يُبارك في عُمره، ويزيده سدادًا ونورًا، ويجزيه عن أهل العلم، وأهل تهامة، وأهل اليمن، خير الجزاء، وأن يُمتِّعه بالقوَّة في الطَّاعة، والصَّحة في الجسد، والقبول في الأرض والسَّماء، وأن يجعل علمه صدقةً جاريةً باقيةً إلى يوم يبعثون.

اللهم احفظ شيخنا، وبارك في حياته، واكتب له حُسنَ الختام كما كتبت له حُسنَ المسير.

الهوامش:

  1. المنصب: هو من يتولى القيام بالأعمال الدِّينية في بلدٍ معين، ويُفتح له منزل يقوم فيه بإكرام الضَّيف والإصلاح بين النَّاس وإيواء الغرباء وتلاوة كتاب الله تعالى وإملاء سنة رسول الله، ويتولى كل الشَّعائر الدينية في المجتمع. ينظر: المنار الجلي، ص۸.

تعليق واحد

  1. جزاك الله خير استاذ خالد وجعل ذلك في ميزان حسناتك
    وحفظ الله الأستاذ الدكتور محمد بن يوسف الربيدي ومتعه بالصحة الوافرة وحسن الخاتمة.
    اتمنى منك يا استاذ خالد ان يكون لك مشروع ترجمة لعلماء اليمن و فقهائه يخرج الى النور على هيئة كتاب مكون من عدة اجزاء يكون مرجعية لكل طالب علم وباحث ومؤرخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى