4 دقائق
في خضمّ محاولات سوريا الخروج من رماد الحرب، تبرز فجوة خفية لكنها عميقة: فجوة معرفية وتربوية تتجلى في تجربة آلاف الطلاب العائدين من اللجوء إلى النظام التعليمي المحلي. ليست هذه الفجوة مجرّد نقص في المعلومات أو تفاوت في المناهج، بل هي شرخ تربوي ثقافي يمسّ بنية الهوية التعلّمية ومفهوم الانتماء المعرفي. جيلٌ تربّى في فضاءات تعليمية متنوعة، ثم عاد ليجد نفسه في بيئة تعليمية غير مهيأة لاستيعاب تعدده أو استثمار تجربته.
قبل أن نبحث عن الحلول، لا بد أن نفهم أبعاد المشكلة من جذورها. الفجوة التعليمية التي يعاني منها العائدون ليست حالة واحدة، بل طيف واسع من الاختلافات الثقافية، والمنهجية، واللغوية، وحتى النفسية. ولتوصيف هذه الفجوة بدقة، نعرض أبرز مظاهرها:
إن اختلاف الأنظمة التعليمية بين سوريا وبلدان اللجوء يخلق فجوة حقيقية في التسلسل المفاهيمي للمعرفة. ففي حين اعتمدت بعض المناهج الغربية أو الإقليمية على التفكير النقدي والمقاربة متعددة التخصصات، لا تزال مناهج التعليم السوري تعتمد في كثير من الأحيان على النمط التراكمي التلقيني. يجد الطالب العائد نفسه أمام مناهج مألوفة في موضوعها، لكنها غريبة في طريقتها أو في ترتيبها الزمني.
اكتسب كثير من الطلاب العائدين براعة في لغات غير العربية، نتيجة دراستهم في مدارس بلغات أجنبية كالتركية أو الألمانية أو الإنجليزية. هذه اللغات أصبحت جزءًا من هويتهم المعرفية والتعبيرية، ما يخلق تحديًا حقيقيًا عند عودتهم إلى نظام تعليمي أحادي اللغة. وهنا لا بد من فهم أن اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل وعاء للفكر والحضارة، وأي انقطاع عنها يخلّ بجذور الهوية.
بينما اعتمدت بعض أنظمة التعليم في المنافي على أساليب تشجع التفكير النقدي والمبادرة الفردية، لا تزال بعض المدارس السورية تعاني من أساليب تلقينية لا تتيح للطالب التعبير عن ذاته أو بناء معرفته بتفاعل. وقد يؤدي هذا التناقض إلى شعور بالعزلة الفكرية أو الإحباط التربوي، وبخاصة لدى من اعتادوا حرية النقاش ومركزية الطالب في العملية التعليمية.
تحمل المناهج التعليمية، بشكل غير مباشر، منظومات قيمية وسياقات ثقافية. وبالتالي، فإن الطالب العائد يجد نفسه في بيئة تعليمية ذات رؤى ثقافية قد لا تتوافق بالكامل مع ما اعتاد عليه، وهو ما يستدعي توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على القيم التربوية الأصيلة والانفتاح على ما اختبره في الخارج من رؤى إنسانية وتعددية.
الفجوة التربوية لا تتوقف عند حدود المعرفة، بل تمتد إلى تشكيل المشاعر والسلوك والانتماء. الطلاب العائدون قد لا يشعرون بالانتماء الكامل إلى البيئة التعليمية المحلية، على الرغم من أنهم عادوا إلى “وطنهم”. هذا التناقض يترك آثارًا عميقة، تحتاج إلى قراءة تربوية دقيق فيما يلي:
قد يشعر الطالب العائد بأنه في بيئة لا تعترف بما يحمله من رصيد معرفي، ولا تتيح له أن يكون نفسه. هذا الشعور بالاغتراب قد يتحوّل إلى أزمة هوية تعليمية، يتخللها ضعف الحافز، وتدهور الأداء، والعزوف عن الانخراط الحقيقي في الحياة المدرسية أو الجامعية.
إن تجاهل الفروقات التربوية والمعرفية بين العائدين والمقيمين قد يؤدي إلى خلق شروخ اجتماعية، قائمة على التوتر أو سوء الفهم. فالتعليم هنا لا يؤدي فقط وظيفة معرفية، بل هو عامل تكوين اجتماعي وثقافي يجب أن يعزز التماسك لا أن يكرّس الانقسام.
الطلاب الذين لا يجدون في بيئة التعليم المحلية امتدادًا لما اكتسبوه، قد ينسحبون من فرص التعليم العالي أو يفشلون في التكيّف مع متطلبات السوق المحلي. وهذا يُضعف من قدراتهم على الإسهام في إعادة الإعمار المعرفي والبنيوي للمجتمع السوري.
على الرغم من عمق التحدي، فإن استثماره في الاتجاه الصحيح قد يخلق فرصة نادرة لإعادة تشكيل النظام التعليمي المحلي ليكون أكثر تنوعًا وشمولية. فنحن لا نرأب صدعًا فقط، بل نبني جسورًا معرفية وثقافية بين الداخل والخارج، بين الأصالة والتجديد؛ لذلك من المهم التنبه إلى العديد من الأمور:
ينبغي أن تبدأ عملية الإصلاح بتشخيص دقيق لمستوى الطلاب العائدين، عبر اختبارات مرنة تأخذ بعين الاعتبار خلفياتهم التعليمية. وهذا سيسمح بتفصيل مسارات تعليمية تراعي نقاط القوة والضعف بدلًا من إخضاعهم لقوالب جامدة.
يمكن بناء برامج تربوية انتقالية، قصيرة أو متوسطة الأجل، تدمج بين المواد المحلية ومهارات عالمية كاللغة، والتفكير النقدي، والتكنولوجيا، ما يُعيد بناء الثقة لدى الطالب ويؤهله للاندماج الكامل.
كما بيّن مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة:
“العلم إذا لم يتحول إلى ثقافة، والثقافة إلى فعل وحركة وعمل صالح، يبقى مجرد ترف لا مكان له في وطن ما زال فقيراً من الوسائل والأطر.”
فالمطلوب ليس مجرد زيادة المحتوى، بل تحديثه بروح تستوعب التجربة الإنسانية الحديثة، وتعزز في ذات الوقت الانتماء الثقافي والديني واللغوي.
على المعلم أن يتحول من ناقل للمعرفة إلى ميسّر لها، ومن مراقب إلى مرافق. ويتطلب ذلك تدريبًا خاصًا على استيعاب الخلفيات الثقافية المتنوعة، وتطوير أدوات تقييم غير نمطية، تشجع على التعبير الذاتي والتفكير التحليلي.
من الضروري إنشاء وحدات دعم نفسي تربوي، ترافق الطلاب العائدين، وتعينهم على تجاوز أي شعور بالصدمة أو الانفصال أو التردد. إن هؤلاء الشباب ليسوا مجرد طلاب، بل هم حاملو ذاكرة وتجارب، تستحق الفهم والاحتواء.
إن الفجوة التعليمية التي يعاني منها العائدون من المنافي ليست أزمة تعليمية فحسب، بل هي اختبار لقدرة المجتمع السوري على احتواء الاختلاف والتنوع. وكما قال مالك بن نبي أيضًا:
“بقي التعليم مجرد مواعظ من أعلى المنابر تُلقى على جمهور لم يخضع للبحث والدراسة التداولية والاجتماعية؛ فتشكل جمهور مستمعين يحسنون الإنصات لا غير.”
الطلاب العائدون من الشتات ليسوا ضيوفًا على النظام التربوي، بل هم جزء حيّ من مستقبله. ومن هنا، فإن استثمارنا في هؤلاء الطلاب لا يجب أن ينحصر في تعويض ما فاتهم، بل في تحويلهم إلى روافع معرفية ومشاركين فاعلين في إعادة بناء وطن يتسع لخبراتهم وتطلعاتهم؛ فهم جسرٌ محتملٌ بين عالمين، وإذا أُحسن إدماجهم، فقد يكونون مفتاحًا لبناء منظومة تعليمية أكثر إنصافًا، ورؤية تربوية أكثر نضجًا. فالعودة ليست فقط إلى الوطن، بل إلى الذات، إلى المعنى، وإلى الدور.