ما يزال حُبُّ المغاربة (وأعني بهم أهل المغرب العربي عُمومًا وليس أهل المملكة المغربيةِ حصرًا) لفلسطين وقضيَّتها، القضيَّة المركزيَّة للشُعُوب العربيَّة والإسلاميَّة، حُبًّا نقيًّا فطريًّا لا يقبل المُساومة، لم يقلَّ يومًا عن حُبِّهم وعدم مُساومتهم على قضاياهم المحليَّة من زمن الاستعمار وحتَّى اليوم. فهو لا يقلُّ قداسةً عند الجزائريّ من قداسةِ ثورة تحرير بلاده من الفرنسيين، ولا يقلُّ قداسةً عند المغربيّ من ثورة المولى مُحمَّد بن عبد الكريم الخطَّابي وجهاده، ولو أنَّ الغالبية في الوطن العربي والعالم الإسلامي تنتفض وتتألَّم حين ترى مجازر الصهاينة وعُنصريَّتهم، لكنَّ انتفاضة المغاربة خصوصًا ذات صدًى أعلى، يستشعر المرء أنها خالصة لفلسطين.
ممَّا لا شكَّ فيه أيضًا أنَّ الطبيعة الخاصَّة للمغرب العربي وأوضاع أهله وتاريخهم، أثَّرت في تمييز القضيَّة الفلسطينيَّة لديهم عن سائر العرب، فصار لهم موقفٌ أقرب للمُوحَّد من هذه القضيَّة مُقارنةً بالمشارقةِ الذين تجد فيهم الكثير ممن يتبرَّأ من هذه القضيَّة، بل رُبما يُنكر ثقافته الإسلاميَّة وهويَّته العربيَّة تمامًا، وذلك لا يكون في بلادنا إلَّا بالتملُّص من القضيَّة الفلسطينيَّة التي ما تزال تربط العرب والمُسلمين على الرُّغم من كُل المآسي والمُشكلات التي يعيشونها.
ومن الواضح أنَّ سبب حُب المغاربة تحديدًا لفلسطين وتمسُّكهم بقضيَّتها ليس مردُّه فقط إلى شعور الوحدة الإسلامي والعربي، بل البُعْد عن المشرق بما فيه من مُشكلاتٍ مُعقَّدة سببها تلك الفُسيفساء المذهبيَّة والطائفيَّة والعِرقيَّة والدينيَّة، والتعقيدات السياسيَّة والإستراتيجيَّة الضاربة في القِدم. فالمغاربة أكثر انسجامًا من المشارقة، فأغلبهم على دينٍ واحد، ويتبعون ذات الفرقة الإسلاميَّة، بل إن جملتهم تتبع المذهب ذاته، وكلهم عانَوا مُعاناة شبيهة على يد المُستعمر الفرنسي الذي سعى لإحلال قومه مكانهم وعمل على تدمير الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة وإحلال ثقافته النابذة للدِّين مكانها.
ولطالما كانت الدول الإسلاميَّة في المغرب لا تخشى جوارها الأعجمي، بل إنَّ أغلبها هو مَن هيمن على هذا الجوار، ونشَرَ الإسلام في رُبُوعه، عكس المشرق الذي كان لكثير من الأعاجم فيه تدخُّل مُدمِّر، وما زالوا، واستغلُّوا القضيَّة لتحقيق مطامعهم وأهدافهم التي لا تختلف عن أي مطامع غربيَّة.
وبهذا يُمكن القول إنَّ حُبَّ المغاربة لفلسطين وقضيَّتها ما زال عند أغلبهم حُبًّا فطريًّا، لم تُلوِّثه وتعبث به المُشكلات والأزَمات الطائفيَّة والسياسيَّة، كما في سورية ولُبنان والعراق، وما أحداث أمستردام في السابع من تشرين الثاني (نوڤـمبر) 2024م إلَّا صدًى لهذا الواقع.
واهتمام المغاربة بقضايا المشرق لطالما كان على النحو المذكور آنفًا، والظاهر أنَّ قدرهم، نتيجة جُغرافيَّتهم وأوضاعهم الاجتماعيَّة والجغرافية السياسيَّة، أن يكونوا مددًا للمشارقة، مُنذ القِدَم إلى يومنا، مع اختلاف الأساليب. فقد كانوا والأندلسيين (المشمولين قديمًا مع ما سُمِّي مغاربة) في مُقدِّمة الوافدين لقتال الصليبيين في عهد صلاح الدين وخُلفائه، ثُمَّ في عهود سلاطين المماليك والعُثمانيين. وقد طلب منهم السلاطين المددَ في عددٍ من الأحيان، من أبرزها حينما راسل صلاحُ الدين السُّلطانَ المُوحِّدي أبا يوسف يعقوبَ المنصور بالله، بدأها بقوله:
«بَلَاغ إِلَى مَحل التَّقْوَى الطَّاهِر ومستقرِّ حزب الله الظاهر من المَغرِب أَعلَى الله بِهِ كلمة الايمان وَرفع بِهِ منار البِرِّ والإحسان…»
وطلب قائلًا:
«كَانَ المتوقَّع من تِلْكَ الدولة العَالِيَة والعزمة الغادية مَعَ القُدرَة الوافية والهمَّة المهدية الهادية أَن يَمُدَّ غربُ الإِسْلَام المُسلمين بِأَكْثَرَ مِمَّا أمدَّ بِهِ غربُ الكفَّار الكَافرين فيملأها عَلَيْهِم جواريَ كالأعلام ومدنا فِي اللُّجَج سوائر كَأَنَّها اللَّيالِي مقلعة بِالأَيَّامِ تطلع علينا معشر الإِسْلَام آمالًا وتطلع على الكفَّار آجالًا وتردُّنا إِمَّا جملَة وإِمَّا أَرْسالًا مسوَّمة تمدُّها مَلائِكَة مسوَّمة ومعلَّمة تقدم حَيازيمها إقدامَ حَيْزُوم تحثُّ أَصْحابه الحَزَمة وإِنَّمَا هِيَ مِنْهُ عَزمَة كَانَت تعين أَصْحابَ المَيمَنة على أَصْحاب المَشأمَة وَكلمَة كَانَت تنفُخ الرُّوح في الكَلِمَة. ولمَّا استُبطِئَت ظُنَّ أَنَّهَا توقَّفَت على الاستدعاء فصَرَخنا بِهِ فِي هَذِه التَّحِيَّة فقد تحفِلُ السَّحَاب ولا تُمطِر إِلَى أَن تحرِّكها أَيدي الرِّيَاح، وَقد يُنزل الله النُّصْرَة فَلا تظهر إلى أَن تضرَعَ إِلَيْهَا أَلْسِنَة الصِّفاح…»(1).
ويُفهم أنَّ أعداد المغاربة الذين وفدوا إلى المشرق لقتال الصليبيين وصلت إلى الآلاف، ووقع كثيرٌ منهم في الأسر بطبيعةِ الحال. وقد حرَص السلاطين والأُمراء والتُجَّار المُسلمين الشوام على فكِّ أسرهم نظرًا لما يُقدِّمونه من تضحيات، ولقدومهم من بلادهم خصِّيصًا لغايةٍ نبيلة وشريفة. بل لم يتردَّد بعض المُسلمين من أن يوصوا وصايا ماليَّة تُخصَّص لهؤلاء الأسرى المغاربة (2). قال ابن جُبير (3):
«ومن جميل صُنع الله تعالىٰ لأسرى المغاربة بهذه البلاد الشاميَّة الإفرنجيَّة أن كُلَّ من يخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشاميَّة وسواها إنما يُعيِّنها في افتكاك المغاربة خاصَّةً لبُعدهم عن بلادهم، وأنَّهم لا مُخلِّص لهم سوى ذلك بعد الله عزَّ وجل. فهم الغُرباء المنقطعون عن بلادهم، فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين والخواتين من النساء وأهل اليَسار والثَّراء إنَّما يُنفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين رحمه الله نذرَ في مَرْضةٍ أصابته تفريقَ اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة فلمَّا استبلَّ من مرضه أرسل في فدائهم فسِيقَ فيهم نفرٌ ليسوا من المغاربة وكانوا من حماةَ من جُملة عمالته، فأمر بصرفهم وإخراج عِوَض منهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكُّهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غُرباء لا أهلَ لهم، فانظر إلى لطيف صُنع الله تعالىٰ لهذا الصِّنف المغربي».
وعن دور التُجَّار تحديدًا قال ابن جُبير:
«وقيَّض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التُجَّار وكُبرائهم وأغنيائهم المُنغمسين في الثراء، أحدهما يُعرَف بنصر بن قوَّام، والثاني بأبي الدُّرِّ ياقوت مولى العطَّافي، وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي، ولا ذِكرَ فيه لسواهما، ولهما الأمناء من المقارضين فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما، وشأنها في الغنى كبير، وقدرهما عند أُمراء المُسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصَّبهما الله عزَّ وجلَّ لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا؛ لأنهما المقصودان بها لِما قد اشتَهَر من أمانتهما وثقتهما، وبذلهما أموالهما في هذه السبيل، فلا يكاد مغربي يخلُص من الأسر إلا على أيديهما، فهما طولَ الدهر بهذه السبيل ينفقان أموالهما، ويبذلان اجتهادها في تخليص عباد الله المُسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين، والله تعالىٰ لا يُضيع أجرَ المُحسنين»(4) .
والمغاربة كانوا في مُقدِّمة الجماعات المُسلمة التي استعان بها السَّلاطين لإعادة استيطان البلاد التي أفنى الصليبيُّون أهلها قديمًا، أو أنزحوهم عنها لمكانٍ آخر، أو وطَّنوهم في مناطقَ غير مأهولة في سبيلِ مُراقبة تحرُّكات جُيُوش الأعداء وأساطيلهم. ثُمَّ ذابوا مع الوقت وسطَ النسيج الاجتماعي لتلك البلاد. من أبرز تلك البلاد الشاميَّة مدينة بيروت، فإنَّ الكثير من عائلاتها الكُبرى من أصولٍ مغربيَّة، مثل آل العيتاني وآل سنُّو وآل طبَّارة وآل الداعوق، وبعض أجداد هذه الأُسَر وَفَدَ لقتال الصليبيين والرِّباط، ومنهم من وَفَدَ طلبًا للعلم أو التجارة في زمن السِّلم(5) .
وإنَّ المرء ليفرح ويُسَر حينما يرى دوامَ وحدة العرب والمُسلمين عبرَ تاريخهم برُغم ما قد تُثيره الحكومات والأنظمة من فِتَن، ندعوه تعالىٰ أن يُديمَ أُخوَّة المشرق والمغرب، وأن يُوحِّد صفوفنا ويجمعَ شملنا، إنَّهٌ سميعٌ مُجيب.
الهوامش:
- أبو شامة المقدسي (1418هـ = 1997م) الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، الجزء الرابع. تحقيق إبراهيم الزيبق (الطبعة الأولى). بيروت: مؤسسة الرسالة، ص 196 و203.
- حسَّان حلَّاق (2010) موسوعة العائلات البيروتيَّة، الجُزء الأوَّل (الطبعة الأولى). بيروت: دار النهضة العربيَّة. ص 13. ردمك 9786144021415.
- ابن جُبير (1959) رحلة ابن جُبير (الطبعة الأولى). بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر. ص 280 .
- ابن جُبير (1959) رحلة ابن جُبير (الطبعة الأولى). بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر. ص 281
- حسَّان حلَّاق (2010) موسوعة العائلات البيروتيَّة، الجُزء الأوَّل (الطبعة الأولى). بيروت: دار النهضة العربيَّة. ص 13 – 14. ردمك 9786144021415