من بين الركام والدمار، ومع كل صرخة ألم ناتجة عن سنوات من الحرب والاستبداد في سوريا، يبرز سؤالٌ محوري: كيف نبني مستقبل سوريا على أسس قوية مستدامة؟ وكيف نعيد للأجيال القادمة النظام التعليمي الذي فقدوه خلال فترة حكم الطاغية؟ وهو سؤال – بلا شك – يتطلب إجابة شاملة تتناغم مع تحدياتنا المستمرة. في هذا السياق، يأتي التعليم كأداة رئيسية في بناء سوريا الجديدة، ويكتسب أهمية غير مسبوقة في رسم ملامح المجتمع المستقبلي المنشود. إنّ إصلاح النظام التعليمي بعد سنوات من الإهمال والتهميش ليس مجرد خطوة عادية، بل هو مسار طويل يحتاج إلى رؤية واضحة ومؤسسات قوية. ذاك أنّ التعليم هو أداة الإنسان في بناء قدراته، وهو المدخل الرئيس لأي نهضة اقتصادية واجتماعية. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”المجادلة:11. هذه الآية الكريمة تلخص جوهر العلم وأهمّيته في الإسلام، حيث يعتبر العلم هو الأساس في بناء الأفراد والمجتمعات، وأداة للارتقاء بالمجتمع كله. وقد قال شوقي أنّ: ترك النفوس بلا علم ولا أدبٍ … تركُ المريض بلا طبٍّ ولا آسِ.
إصلاح النظام التعليمي: التحديث والتكيف مع المستقبل
في العصر المملوكي، كان الناس في مصر والشام يتسابقون لبناء المدارس والخوانق، وهو ما يظهر بوضوح في ملاحظة العلامة ابن خلدون: “أهل هذه الدولة التركية (المملوكية) بمصر والشام معنيون -على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب- بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفية السنية في مطارحة الأذكار ونوافل الصلاة”. هذا المظهر الحضاري يعكس كيف أن التعليم كان جزءًا من ثقافة مجتمعية شاملة تهدف إلى تمكين الأفراد وبناء مجتمع قوي يعتمد على العلم والتزكية معًا. اليوم، يمكننا في سوريا الجديدة أن نعيد هذه الأمجاد عبر تحديث نظامنا التعليمي بما يتماشى مع المتغيرات العالمية والتطورات التكنولوجية، مع التركيز على تطوير المعرفة التربوية والفكر النقدي والمهارات المختلفة بدلاً من الاعتماد على التلقين والحفظ والقوالب الجاهزة.
يجب أن يتم إعادة صياغة التعليم ليزود الأجيال القادمة بالأدوات اللازمة لمواجهة التحديات المستقبلية. وفي هذا السياق، لا يمكن بناء نظام تعليمي قوي دون الاهتمام بالمعلم، فهو العنصر الأساسي في العملية التعليمية، وهو حجر الزاوية في أي تحول تعليمي، ومن خلاله يُزرع الإبداع والتفكير النقدي وتأسيس نموذج القدوة في نفوس الطلاب. من هنا، ينبغي أن نولي المعلمين اهتمامًا استثنائيًا من خلال اختيارهم بعناية وتدريبهم على الأساليب التعليمية الحديثة ورفدهم بمنظومة قيمية متميزة، مع دعمهم بكل الوسائل والموارد اللازمة. كما يجب رفع مكانة المعلم اجتماعيًا واقتصاديًا ليشعر بأهمية دوره ويحظى بالاحترام الذي يستحقه، لأنّ المعلم الذي يتمتع بالتقدير ويُميز من قبل المجتمع هو الذي سيكون نبراسًا للأجيال القادمة، ومن خلاله يمكننا بناء وطن قوي وعزيز.
إنّ تجارب الدول التي أعادت بناء أنظمتها التعليمية بعد الحروب تدل على أن التغيير يجب أن يكون جذريًا ليتواكب مع احتياجات العصر. ففي اليابان، على سبيل المثال، كانت إعادة بناء النظام التعليمي أحد العوامل الأساسية في النهوض بعد الحرب العالمية الثانية، ما ساعدها على التحول إلى واحدة من أقوى اقتصادات العالم. وكذلك الأمر في سوريا الجديدة، نحتاج إلى إحداث نقلة نوعية في التعليم، وهذا يتطلب تغييرًا جوهريًا في طرق التدريس بحيث يصبح الطالب محور العملية التعليمية، ويُمنح الفرصة للتعبير عن ذاته وتنمية مهاراته الابتكارية. كما قال الشاعر: العلمُ يرفعُ بيتاً لا عمادَ له والجهلُ يهدمُ بيت العزِّ والشرفِ. والحقيقة أنّه لا يمكن لسوريا أن تبني مستقبلًا مشرقًا وعزيزاً دون تعليم يمكّن الشباب السوري من استيعاب التقنيات الحديثة والابتكار ويُقرّبه من هويته، ما يتيح لهم القدرة على دفع عجلة التقدم والنهوض بالوطن على مبادئ وأصول ثابتة.
التعليم للجميع: تحقيق العدالة التعليمية
ومن أهم ما يجب الانتباه له بعد سنوات من التمييز، إتاحة التعليم لجميع فئات المجتمع السوري دون استثناء. ففي سوريا الجديدة، ينبغي ضمان أن تكون الفرص التعليمية متاحة لكل فرد إذ لا يُمكننا الحديث عن دولة جديدة أو نهضة حقيقية إذا استمرت الفجوة التعليمية بين طبقات المجتمع أو بين مختلف المناطق السورية. فالتعليم لا يجب أن يكون مقتصرًا على فئة معينة أو منطقة دون أخرى. وقد اشتهر عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: ما الفَخرُ إلّا لأهلِ العِلْمِ إنّهم … على الهُدَى لمن اسْتَهدى أدِلَّاءُ // وَوَزْنُ كُلِّ امرئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُه … والجَاهِلُون لأهلِ العِلْمِ أعداء.
إن هذا التوجيه يدعونا إلى أن نولي التعليم الأهمية القصوى باعتباره الثروة الحقيقية التي لا يمكن الاستغناء عنها في بناء الوطن. فالتعليم يجب أن يكون الأداة الأساسية للارتقاء بكل أفراد المجتمع السوري، وجزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان في سوريا الجديدة. وقد تطرقت الأستاذة والناشطة ميشيل فاين لأهمية العدالة التعليمية في أكثر من سياق قائلة في إحدى المقابلات المهمة: أنّ التعليم هو أداة مهمة من أدوات الحرية والعدالة، ولكن فقط عندما يتم تكييفه ليخدم جميع الطلاب بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية. لا يمكننا التحدث عن العدالة التعليمية في مجتمع مُجزّأ يعامل فيه الطلاب من خلفيات معينة كأقلية، بل كجسد واحد يسعى للتنمية والتطوير.
الابتكار والتعليم المهني: تعزيز قدرة الشباب على مواجهة التحديات المستقبلية
إنّ التعليم في سوريا الجديدة لا يجب أن يتوقف عند حدود المدارس والجامعات التقليدية، بل يجب أن يتجه إلى تعليم مهارات الحياة والابتكار، والعالم اليوم يتّجه نحو مزيد من التركيز على هذه المهارات التي تلعب دوراً ريادياً في تحويل الأوطان التي دمّرتها الحروب إلى بيئات داعمة للإبداع والتغيير والتطوير. سوريا اليوم تحتاج إلى جيل قادر على التفكير خارج الصندوق، جيل يمتلك القدرة على التعامل مع الثورة التكنولوجية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العالم. من أجل ذلك ينبغي تعزيز الابتكار والتعليم المهني وتعزيز المهارات الناعمة بما يتماشى مع استراتيجيات بناء وطن من لا شيء تقريباً سوى قدرات أفرادها وشعبها المتّقد همة وذكاء وتماسكاً. وممّا ينقل عن ألبيرت آينشتاين في هذا الإطار قولته المشهورة: التعليم هو ما يتبقى بعد أنْ ينسى أحدهم ما الذي اكتسبه في المدرسة.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نستفيد من تجربة فنلندا التي جعلت من التعليم المهني والابتكاري أحد أهم عوامل نجاحها. فنلندا استطاعت أن تبني نظامًا تعليميًا يدمج بين النظرية والتطبيق بشكل متوازن، ويركز على تطوير مهارات العمل والحياة الحقيقية لدى الطلاب، ما أسهم في تحقيق نهضة اقتصادية قوية في غضون عقود قليلة. فإذا ما أردنا التجهّز للمستقبل فعلينا حتماً أن نعمل بجهود مضاعفة لبناء منظومة تعليمية قوية، فإن الغد ينتمي لأولئك الذين يعدون له اليوم كما قال الحاج مالك شاباز.
القيم الإسلامية في التعليم: الأساس لبناء الإنسان والمجتمع
منذ أن نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان العلم في طليعة أولوياته، فقد كان وسيلة لبناء الفرد والمجتمع على أسس من الفضيلة والعدالة. العلم في الإسلام ليس مجرد تحصيل معرفة، بل هو فريضة ينبغي أن تُسهم في تقدم الأمة ورفعتها، مصداقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وهذا يعني أن العلم ليس حقًا شخصيًا فقط، بل هو مسؤولية جماعية تهدف إلى تقدم الأمة وتطورها.
في سوريا الجديدة، يجب أن يُصبح العلم حجر الزاوية في بناء التربية الوطنية، ومن خلال المناهج التعليمية، علينا أن نغرس القيم الإنسانية والاجتماعية في نفوس أطفالنا وشبابنا، وأن تكون هذه المناهج متوافقة مع المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى التسامح، والعدالة، والمساواة، والكفاءة. لقد حان الوقت لأن نعيد الاعتبار للمفكرين وأصحاب العلم في مجتمعنا، وأن يُمنحوا الأدوار القيادية في الدولة والمجتمع. من خلال التعليم، يمكننا أن نُعدَّ قادة قادرين على تقديم المبادرات والمشاريع التي ترفع سوريا إلى مكانتها بين الدول المتقدمة. وفي هذا السياق، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “تَفقَّه قبل أنْ تَرأس، فإذا رأستَ فلا سبيل إلى التَّفَقُّه”، وهذا التوجيه يدل على أن العلم هو الأساس الذي يبني القادة، وأن من لا يتعلم جيدًا ويكتسب العلم قبل تولي المسؤولية سيجد نفسه عاجزًا عن القيادة الفعّالة.
إنّ المناهج المقررة تلعب دورًا محوريًا في تنشئة الطلاب على القيم الإسلامية السمحة، حيث يجب أن تكون هذه المناهج مصممة بما يتماشى مع أهدافنا الوطنية والإسلامية ويُعزّز الأجيال القادمة بالمناعة المعرفية والفكرية أمام أمواج الشبهات على كلّ الأصعدة. إنّ المؤسسة التعليمية التي تسعى لبناء جيل صالح يجب أن تعكس هذه القيم في مقرراتها الدراسية، بحيث يدرس الطلاب عن الخالق وحقوقه، وعن حقوق المخلوق، ويتعلمون الإيمان والعقيدة، والأمانة، والحلال والحرام، والأخلاق الحسنة. هذا النوع من التعليم يساهم في تربية جيل يافع على القيم الصالحة التي تجعلهم نفعًا لأنفسهم، ولأسرهم، وللمجتمع، ولبلادهم.
الخاتمة:
إن منهجية التخصصية في بناء الدولة السورية الجديدة هي خطوة جوهرية لتحقيق دولة قوية وفعّالة. التخصصية لا تقتصر فقط على توزيع الأدوار داخل المؤسسات، بل تشمل أيضًا تطوير الأنظمة التعليمية، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، واستثمار رأس المال البشري. ومن خلال الالتزام بالتخصص وتوزيع المهام بناءً على الخبرة والكفاءة، ستكون سوريا قادرة على بناء مؤسسات تحقق التنمية المستدامة وتحترم التنوع في المجتمع السوري.
وفي المقال القادم، سنتناول “منهجية التخصصية في بناء الدولة السورية الجديدة: كيف نعيد بناء المؤسسات”، حيث سنبحث كيف يمكن بناء مؤسسات الدولة على أسس تخصصية تُعزّز من فاعليتها وكفاءتها في خدمة المجتمع السوري.