أشتات

الهوية الوطنية في سوريا الجديدة: كيف نبني وطنًا للجميع؟

بينما كانت الجراح تدمى الأرض السورية، وتتناثر أشلاء الوطن تحت وطأة الظلم، يظل السؤال الأهم: كيف نعيد بناء هذا الوطن الذي حلمنا به؟ بعد سنوات من الصراع والمقاومة، انتصرنا، ولكن ما الذي يوحدنا اليوم بعد كل هذا الشتات؟ سؤال الهوية الوطنية يعيدنا إلى جوهر سوريا الحقيقية التي تجمعنا رغم اختلافاتنا. في قلب الثورة كان الشعار الأبرز: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، وها نحن اليوم أمام فرصة لبناء وطن يحتضن الجميع ويتناغم فيه كل صوت وكل ثقافة.

التنوع الثقافي والديني: منبع قوة وجسر تواصل

إن سوريا، بموقعها الاستراتيجي وماضيها العريق، هي لوحة فسيفسائية تضم بين أطيافها تداخلًا مدهشًا من الثقافات والديانات والأعراق، كل منها يروي حكايةً تخصّه، لكنها في النهاية جميعًا تنسجم في نغم واحد يعزف لحناً وطنياً فريداً. هذا التنوع الذي يميز المجتمع السوري لا يجب أن يُنظر إليه على أنه عبء ثقيل أو تهديد لهوية ما، بل هو سر غناها وثرائها، وهو ما يجعل من سوريا نقطة تلاقي ثقافات وحضارات كانت متجذرة على مر العصور.

وعندما نتحدث عن التنوع السوري، تبرز أمامنا مقولة مشهور للإمام الشافعي رحمه الله: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”. هذه الكلمات تضع في جوهرها سرًّا من أسرار تماسك المجتمع السوري؛ فالتنوع لا يعني التنافر، بل هو فرصة لبناء جسرٍ من الفهم والتعاون، أساسه الاحترام المتبادل. نحن لا نبحث عن وحدة ظاهرة تذيب كل اختلاف، بل عن وحدة عميقة تقوم على الاعتراف بحقوق الآخر وخصوصيته، وعلى إيجاد أرضية مشتركة تعزز من قوتنا الجماعية وتكاملنا. وعاء حضاري مُنتظم وعلاقة كائنة بين الأنا والآخر بما تختزنه في داخلها من قيم ولغة وعادات وتقاليد وأمزجة وتصورات مشتركة منبثقة من معين منظومة تاريخية تحمل مجموعة من الثوابت. التمسّك بهذه الثوابت هي الهوية التي نبحث عنها في سوريا اليوم، وهي الرابط الذي يعزز من هذه الوحدة. ولا ريب أنّ الهوية الإسلامية التي تظهر جليةً في كل مناسبة وكل شاردة وكلّ واردة وتمظهرت بشكل أكثر وضوحاً بعد التخلّص من الاستبداد والوصول لحالة النصر التي أسعدت كل سوري, هي المساحة المشتركة التي حفظت تماسك هذا الوطن على مر العصور، وجعلت منه نموذجًا للتعايش والتكامل بين مختلف الطوائف والمذاهب، وهي الهوية التي تُعزّز من العدل التي أجمعت الأمّة على وجوبها، والتي صارت شعاراً إبّان خطبة الخليفة الأول للمسلمين, أبي بكر الصديق: “الضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أُرجع عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ حتى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله”.

الوحدة الوطنية: الإيمان بالهوية المشتركة

إذن, الوحدة الوطنية ليست مجرد شعار عابر، بل هي ضرورة حتمية لبناء سوريا الجديدة، بعد سنوات من الانقسامات والشرخ الاجتماعي العميق. فهي ليست خيارًا سياسيًا فحسب، بل هي عملية توحيد للقلوب والعقول، تلتقي فيها الإرادات على هدف واحد: بناء وطن للجميع. ولقد دُعينا في ديننا الحنيف إلى الوحدة والتآخي، فأولى الآيات التي يسطع فيها هذا المعنى، قول الله تعالى ” إنما المؤمن إخوة” (الحجرات: 10). تلك الأخوة التي لا تستثني أحدًا، بل تدعو إلى التساوي في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين أو العرق. ومن هذا المنطلق، فإن أساس الوحدة الوطنية في سوريا لا يتوقف عند مجرد تجميع فئات الشعب المختلفة في دولة واحدة، بل يتعداه إلى تكريس مبدأ العيش المشترك على أسس من العدالة والمساواة، التي تضمن لكل فرد حقه في العيش بحرية وكرامة. ومن أكثر من رافع من أجل تعزيز مبدأ العيش المشترك والوحدة الوطنية الدكتور يوسف القرضاوي إذ كتب الدكتور يوسف في العديد من مؤلفاته عن المقاصد الاجتماعية، مشيرًا إلى أن المقاصد الشرعية تُعتبر من الأسس التي تبني المجتمعات على أسس عادلة ومتكافئة. وقد ذكر ذلك في كتابه الوطن والمواطنة، فقال في نص بديع يحتاج إلى مزيد تأمّل: “إن الاشتراك في الوطن يفرض نوعا من الترابط بين المواطنين بعضهم وبعض، يمكن أن نسميه الأخوة الوطنية، وهذه الأخوة توجب له من حقوق المعاونة والمناصرة والتكافل ما يستلزمه معنى الأخوة، أي الانتماء إلى أسرة واحدة”, ومن بين ما ذكره في هذا السياق، تحديده لمقاصد القرآن الكريم التي تشمل سبعة أهداف أساسية، أبرزها بناء الأمة على أسس من البر والتعاون. هذه المبادئ تتناغم تمامًا مع الحاجة إلى بناء هوية وطنية سورية تقوم على التكافل والتعاون بين جميع مكونات المجتمع السوري، وهذه المعاني الراقية تشدّد على ضرورة التأكيد على الوحدة الوطنية، دون تمييز أو استثناء، بحيث يصبح التعايش هو القاعدة التي تُبنى عليها الأفكار والآليات والخطط والمعاني.

التعليم: المفتاح لبناء الهوية الوطنية

ثمّ إنّه لا يمكن بناء هوية وطنية حقيقية دون أن يكون هناك أساس تعليمي راسخ يُمكّن هذه الهوية من النمو والازدهار. فالتعليم هو المفتاح الذي يفتح أبواب المستقبل، ويتيح للأجيال الجديدة أن ترى بوضوح ما كانت عليه أمتهم، وما أصبحت عليه، وكيف يجب أن يكون لها في المستقبل مكانٌ مشرف في عالم تسوده القيم الإنسانية. وفي هذا السياق، تصبح المشاريع التعليمية التي تعزز من فهم الهوية الوطنية وتجسد قيم الوحدة الوطنية أمرًا لا غنى عنه. إن المجتمعات التي استطاعت أن تبني هوية قوية ومتماسكة هي تلك التي أولت اهتمامًا بالغًا بالتعليم كأداة أساسية لنشر ثقافة الانتماء، وتعزيز روح التعاون والتضامن بين مكوناتها المختلفة.

فالتعليم هو الذي يشكل الوعي الجماعي ويمنح الأفراد القدرة على التفاعل مع المجتمع في إطار من التناغم، ومن هذا المنطلق، يظهر التعليم السوري الجديد باعتباره حجر الزاوية في بناء هوية وطنية موحدة. إنّ التعليم يجب أن يكون محركًا لهذا التحول، يرتكز على القيم التي تعزز الاحترام المتبادل بين كافة شرائح المجتمع، ويفتح أفقًا نحو المستقبل، في آنٍ واحدٍ. وفي هذا السياق، يمكننا أن نتأمل في تجربة كوريا الجنوبية، التي استطاعت بفضل استثمارها الكبير في التعليم أن تصبح واحدة من أعظم الاقتصادات في العالم. بعد حربٍ مدمرة في الخمسينات، بدأ الكوريون الجنوبيون ببناء مستقبلهم على أساس من التعليم المستدام، حيث عملت الحكومة على تحسين نظام التعليم بشكلٍ شامل، ليصبح التعليم هو الوسيلة الرئيسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد أسهم هذا النموذج في بناء هوية وطنية قوية وموحدة لدى الشعب الكوري، حيث تجاوزت البلاد ماضيها الصعب، وتقدمت لتصبح رائدة في التكنولوجيا والابتكار.

التراث الثقافي: الإبداع في الاحتفاظ بالذاكرة الجماعية

ومن أهم الخطوات المحورية لتمكين هذه الهوية الوطنية وتقوية عودها وجعلها صلبة مُتماسكة, وعصية على حملة لواء التفكيك والتفتيت والتشتيت هو دمج الماضي بالحاضر، واستدعاء تراثنا الثقافي الغني والذي يؤسّس لحالة توافقية من الفهم والعمل ويصنع ذاكرة جماعية لأبناء الأمّة تكون رافعة للعلاقات المجتمعية التشاركية، إذ يستطيع كلّ عاقل أن يرى كيف أنّ التاريخ السوري كان وما زال غنياً بالحضارات التي تمازجت فوق تراب هذه الأرض المباركة، وهذا التراث ليس فقط ماضيًا يجب أن نتغنى به في المناسبات، بل هو عنصر حيوي في بناء المستقبل. إن الحفاظ على التراث الثقافي هو جزء من الحفاظ على الهوية، ولكن دون الانغلاق على الذات أو رفض التغيير.

وقد ذهب الفيلسوف والمستعرب الفرنسي جورج مارسيه إلى أنّ الهوية الواحدة هي بالأحرى القوة التي تدفع الناس للبحث عن الماضي كي تعيش الحاضر وتبني المستقبل, من أجل ذلك كان بناء الهوية الوطنية عملية تراكمية، تتفاعل مع التراث وتُدخله في معترك الحياة المعاصرة، دون التفريط أو التقوقع, ودون أن تُعاديه أو تنفكّ عنه كما يحاول البعض أن يفعل ظنّا منهم أنّ ذلك سيُساهم في تعجيل عملية التحديث, بينما الحقيقة – في ظنّي – أنّ الهوية السورية القديمة الجديدة والتي هي جزء من هوية المنطقة لا تتطلب أن نعود إلى الوراء، بل أن ندمج قيم الماضي مع تحديات الحاضر لبناء هوية تواكب المستقبل. فالخطر كل الخطر أن نفكك الهوية الوطنية عن جذورها التاريخية فنعيش في الحاضر أو المستقبل دون أن نستفيد من دروس الماضي، مما يجعلنا عرضة للتيه وعدم الاستقرار. وفي المقابل، عندما نتمسك بالماضي فقط، دون الانفتاح على التحديات والفرص التي يقدمها الحاضر والمستقبل، فإننا نغلق أنفسنا في دائرة مفرغة من الميراث القديم دون إبداع أو تطور. المطلوب هو التوازن: أن نبني هوية وطنية تنبض بالحياة، وتوازن بين تمسكنا بماض يزخر بالقيم والمبادئ، وبين قدرتنا على التفاعل مع واقعنا المعاصر لبناء مستقبل مشرق يتناغم مع تطلعاتنا, والإسلام، بمبادئه السامية، يشكل مرجعية فكرية تجمع كلّ السوريين، حتى غير المسلمين منهم حول هذا التوازن الفذّ, ومن خلاله يمكننا بناء هوية وطنية شاملة تجمع بين مختلف المكونات. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”  (الحجرات: 13). من خلال هذه الرؤية، يعزز الإسلام فينا التفاهم والتعايش بين مختلف الهويات، ويؤكد على وحدة الأمة تحت راية العدالة والمساواة.

خاتمة

إن بناء سوريا الجديدة يتطلب منا أن نتعامل مع الهوية الوطنية كعملية مستمرة ضمن الوعاء المتمثّل بقيم الإسلام الكبرى، تتفاعل بإيجابية مع التغيّرات والتحديات والتطوّرات في أبعادها الزمانية والمكانية وتضمن أنّ الجميع يملكون القدرة على الإدلاء بدلوهم من خلال تثبيت مفهوم الشراكة. عملية البناء هذه هي مشروع سوريا الأكبر، والذي يستلزم منا جميعًا العمل معًا بروح من التعاون والمساواة وقدر كبير من الفهم، بعيدًا عن الانقسامات والشخصنة. ما نحتاجه اليوم هو تعزيز القيم المشتركة التي تربطنا كأبناء وطن واحد، وتنمية الشعور بالانتماء والتضامن الوطني. والله الموفق!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى