اكتسب الخط العربي الخلود عندما كُتِبَ به كتاب الله الخالد، ولهذا الفضل توسَّع الخط إلى الكثير من اللغات، فإنَّ أكثر الأمم التي دخلت في الإسلام تركت ما كانت تعرف من خطوط وتحولت إلى هذا الخط، مثل الفرس والترك والهنود ومعظم أمم آسيا. فما هي قصة هذا الخط المبارك؟
تعددت الأقوال في أصل الخط العربي، وأرجح هذه الأقوال ما ذهب إليه المحققون من علماء تاريخ اللغة من أنه مأخوذ من الخط النبطي، وهو القول الذي تؤيده النقوش الأثرية(1).
الأنباط قومٌ من العرب يُسمَّون بالعرب البائدة، انتقلوا من جزيرةِ العرب إلى شمالها وإلى العراق والشام واختلطوا بالأمم الأخرى، وأخذوا من رطانتهم، فأخذ لسانهم يتغير مع الزَّمن إلى درجة أنَّ العرب من سكان الجزيرة لم يعودوا يفهمون لغتهم، وإن كان أصلها عربيًا فصيحًا، وكما فقدوا الإعراب فإنهم فقدوا عددًا من الأصوات العربية، وهي أصوات (ثخذ ضظغ) وتغيرت عندهم معاني المفردات.
أسَّسَ الأنباط دولة قوية امتدت من شمال الجزيرة إلى كل مساحة الشَّام، وهذه المساحة تعد ملتقى التجارة العالمية، ولهذا ازدهرت الحضارة في دولتهم من كافة النَّواحي، ومنها الكتابة التي كانت ضرورة لتنظيم المعاملات التجارية والإدارية.
استخدم الأنباط الخط الآرامي، ومع الزمن أحدثوا فيه تغييرات عديدة، كان آخرها يشبه تمامًا الخط العربي، وفيه دلالة واضحة على أنَّ خطهم هو أصل الخط العربي، ومنه استفاد عرب الشمال الأُمّيون مهارة الكتابة، وقد كانت قبل البعثة الشريفة تتداول في جزيرة العرب على نطاق محدود في المعاملات السياسية والتجارية ذات الأهمية.
وعلى هذا فإنَّ خط عرب الجنوب وهو الخط المسند يختلف عن الخط العربي الذي كُتِبَ به القرآن الكريم والسُّنة النبوية والحضارة الإسلامية عمومًا، وإن كان المشهور من روايات النَّاس أنَّ الخط العربي امتداد للخطِّ المسند، ولكن البحوث العلمية والأثرية لا تؤيد هذا الرأي وتذهب إلى الرأي السَّابق من أنه امتداد لخط النبط من العرب البائدة، لكن لا يستبعد أنَّ الخط المسند هو أصل الخطوط كلها كما ذهب إليه المستشرق الألماني مورتينز(2)، وهو يتوافق مع ما يذهب إليه علماء الآثار من أنَّ اليمن هي مصدر الهجرات إلى الشام والعراق والحبشة، وعلى هذا فالقول بأنَّ الخط العربي امتداد للخط المسند باعتبار الأصل القديم لا ينافي أن الأصل المباشر هو الخط النبطي.
عثر الباحثون على نقوش كثيرة من الخط النَّبطي تقارب ثلاثة آلاف نقش، ومنها استُنبطت خصائص هذا الخط في آخر عهده، وتتمثل في التالي(3):
1- الكتابة تبدأ من اليمين إلى اليسار.
2- عدد رموزه اثنان وعشرون صوتًا صامتا.
3- لا يشتمل على الصوائت، وإنما اشتمل على الواو والياء لأنهما يستعملان صامتين أيضا.
4- فيه الوصل والفصل.
5- تاء التأنيث تكتب بالتاء المبسوطة، مثل (أُمَّت) أي أُمَّة.
6- خُلوُّه من الإعجام.
7- دلالة الرمز الواحد على أكثر من صوت، فالجيم والحاء لهما رمز واحد، والسين والشين لهما رمز واحد، والقاف والفاء لهما رمز واحد، والباء والتاء لهما رمز واحد يشبه رمزي النون والياء.
الصفات السابقة للخط النبطي في آخر عهده هي نفس خصائص الخط العربي في أوائل عهده، وترتيب الأصوات في الدراسة العربية للخط هو نفس ترتيب دراسة النبط لخطهم (أبجد – هوز – حطي – كلمن – سعفص – قرشت) ولما كانت أصوات لغة النبط أقل من أصوات لغة العرب فقد أضاف العرب إليها (ثخذ ضظغ) ولكنهم لم يضيفوا رموزًا كتابية خاصة بها، بل أضافوا صوت الثاء إلى رمز التاء والباء، وأضافوا صوت الخاء إلى رمز الجيم والحاء، وأضافوا صوت الذال إلى رمز الدال، وأضافوا صوت الضاد إلى رمز الصاد، وأضافوا صوت الظاء إلى رمز الطاء، وأضافوا صوت الغين إلى رمز العين.
لم يستوعب الخط العربي الصوائت العربية، شأنه شأن الخط النبطي في عدم استيعابه الصوائت النبطية، باستثناء الواو والياء لأنهما يستخدمان صائتين وصامتين(4)، والصوائت التي لم يستوعبها الخط العربي من الأصوات العربية هي: الألف والفتحة والضمة والكسرة. واختلط في تصورهم صوت الهمزة بصوت الألف، مع ملاحظة أنَّ قريش ومضر لم تكن تهمز في كلامها. واعتبر الخط العربي تاء التأنيث تاء كما هو في الخط النبطي.
وعلى ما سبق: فإنَّ قراءة الخط العربي تتعدد، فعلي سبيل المثال فإن الكلمات (نبت، وبنت، وتبن، وبين) تكتب برسم واحد، و(ملك) يمكن أن تُقرأ (مَلَكَ ومَلِكَ ومُلِك، وملْك، ومالك).
الرسم العثماني هو الخط الذي كُتبَ به المصحف الشَّريف في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بأمر منه، وقد تولى كتابته لجنة مكونة من أربعة أعضاء يرأسهم زيد بن ثابت الأنصاري، وبقية أعضاء اللجنة هم: عبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام وجميعهم من قريش، وذلك لأن سبب كتابة المصحف العثماني هو اختلاف المسلمين في قراءة القرآن الكريم، فقرر ثالث الخلفاء الراشدين كتابته على حرف واحد، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن أولا، ولهذا كان أعضاء اللجنة من قريش باستثناء رئيسهم زيد بن ثابت الذي كان قد قام بجمع القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر بأمر منه وبمشورة الصحابة رضوان الله عنهم.
بطبيعة الحال لم تكتب اللجنة المصحف بخط جديد، بل كتبته بالخط العربي المعروف آنذاك بخصائصه التي سبق بيانها، وهو الخط نفسه الذي كتب به المصحف في حياة رسول الله ﷺ على الحجار والعظام وسعف النخل والجلود، والذي كتب به مصحف أبي بكر، ومصاحف عائشة وأبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهم جميعا، وراسل به رسول الله ﷺ الناس، وكان معروفا قبل البعثة الشريفة.
البعثة الشريفة كانت إيذانًا بعهد جديد في تاريخ الإنسانية، عنوانه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومحوره الكتاب والسُّنة، وهما وحيان عربيان غيَّرا مجرى التَّاريخ، فكان هذا الحدث العظيم سببًا في خلود اللغة العربية، وخلود الخط العربي تبعًا لها، وأول ما أنزل عليه من الوحي ذكر فيه القلم: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ {العلق: 4-5}
لما كان الخط العربي قبل البعثة قاصرًا عن اللغة المنطوقة، وتتعدد قراءته، فقد اهتم علماء المسلمين بتطويره حتى يصوِّر اللغة المنطوقة تصويرًا دقيقًا، وكل هذه الجهود -شأنها شأن باقي الدراسات اللغوية وغير اللغوية-كانت في ظلال القرآن الكريم، وتهدف إلى ضبط قراءة كتاب الله قبل كل شيء.
تطور الخط العربي في اتجاهين متوازيين: اتجاه ضبطه في تصوير اللغة المنطوقة، واتجاه جمالي فني، وسنقتصر هنا على بيان تطوير الخط العربي في اتجاه تصويره للغة المكتوبة، وقد مر بعدة مراحل، هي:
وهو أول محاولة لتطوير الخطِّ العربي، وقد قام بها أبو الأسود الدؤلي رائد الدراسات النَّحوية، وهدفها تدارك قصور الخط العربي في الدلالة على الصوائت، فاخترع النقاط الحمراء للدلالة على الضمة والفتحة والكسرة، فكانت الضمة نقطة فوق الحرف، والفتحة نقطة أمام الحرف، والكسرة نقطة تحت الحرف، وإذا لحق الحركةَ تنوينٌ فإنه يكرر النقطة.
وسُمِّي نقط الإعراب لأنه يهدف في الأساس إلى معالجة ظاهرة فقد الإعراب (اللحن) التي وصلت إلى قراءة القرآن الكريم، والتي وقع فيها العرب المُوَلَّدون في بيئات غير فصيحة، والناطقون بغير العربية ممن أقبلوا عليها، وهم العَجَم الذين تعلموها سواء بالمخالطة أو بالتعليم.
هذا النقط لم يقتصر على حركات الإعراب بل دلَّت الوثائق أن النقاط كانت تدل على الحركات الصرفية داخل الكلمة أيضا.
يعد هذا النقط أول خطوة في طريق النحو الطويل، وبهذا نعلم أن النحو قد بدأ واستمر في رحاب القرآن الكريم.
يرى بعض الباحثين أن النقط للدلالة على الحركات قد عرف قديما عند اليهود(5) والسريان(6) ووجد في نقوش قبل البعثة(7)، ولا يعلم يقينا ما إذا كان هذا صحيحا أو غير صحيح، وإن كان كان صحيحا فلا يعلم هل اطلع أبو الأسود عليها أو لم يطلع، وأغلب الظن أنه لم يطلع عليها إن وجدت.
وهو ثاني محاولة لتطوير الخط العربي، وقد قام بها نصر بن عاصم الليثي، بالتعاون مع يحيى بن يعمر العدواني(8)، وكلاهما نحويان من تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، وهدفا إلى تمييز الرموز المتشابهة التي تدل على أكثر من صوت عن بعضها البعض، وقد اختارا النقاط للدلالة على هذه التفرقة، فتركا بعض الرموز دون نقط، وسماها مهملة، ووضعا فوق بعضها نقطة وسمياها المعجمة الفوقية، وتحت بعضها نقطة وسمياها المعجمة التحتية، وفوق بعضها نقطتين وسمّياها المثناة الفوقية، وتحت بعضها نقطتين، وسمياها المعجمة التحتية، وفوق بعضها ثلاث نقاط وسمياها المثلثة.
وفي تعلم القراءة والكتابة غيَّرا الترتيب الأبجدي إلى ترتيب جديد يبتدئ بالهمزة وينتهي بالياء جمعا فيه المتشابهات في الرسم إلى بعضها(9).
يرى بعض الباحثين أن هذا النقط قد عرف قديما، ووجد في نقوش قبل البعثة(10)، ولا يعلم ما إذا كان نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر قد اطلعا عليها أم لم يطلعا، وأغلب الظن أنهما لم يطلعا عليها إن وجدت.
رأى الخليل بن أحمد الفراهيدي أن تشابه نقط الإعراب والإعجام يؤدي إلى اللبس بينهما، إذ كلاهما نُقَط، ففصل بينهما بالشكل، فأبقى نُقَط الإعجام على ما هي عليه، وغيَّر نُقَط الصوائت إلى الحركات المعروفة حاليا، وهي: الفتحة أو الألف القصيرة التي جعلها ألفا صغيرة مبطوحة فوق الصوت الصامت، والضمة التي جعلها واوا صغيرة فوق الصامت، والكسرة التي جعلها ألفا صغيرة مبطوحة تحت الصامت، وحيث يلحق هذه الحركات تنوين فإنه يكرر الشكلة كما كان أبو الأسود يكرر النقطة.
ولاحظ الخليل بعبقريته الفذة التَّداخل بين الألف والهمزة في الرسم، فوضع رأس العين (ء) رمزا للهمزة. كما لاحظ أيضا أن اللغة المكتوبة لا تعكس اللغة المنطوقة فابتكر عدة ابتكارات أخرى لتقريب اللغة المكتوبة من المنطوقة، فأضاف رموز الشدة وعلامتها رأس سين (سـ) والمدة وعلامتها (مد) والسكون وعلامته رأس حاء (حـ) والصلة وعلامتها رأس صاد (صـ) ووضع علامة مربع يقف على إحدى زواياه للروم والإشمام(11).
وهي ضوابط جديدة وضعت على مراحل زمنية طويلة، مثل التاء المربوطة، وقواعد كتابة الهمزة، والألف اللينة، وغيرها من مباحث فن الإملاء المعروفة.
في العصر الحاضر ومع انتشار الطباعة في القرن العشرين الميلادي وقف مجمع اللغة العربية أمام مشكلات الخط العربي ولا سيما مشكلة كون الحركات ملحقة بالأصوات الصامتة، وما يشكِّله هذا الفصل من لبس في الكتابة والقراءة ولا سيما عند ناشئة الطلاب ومتعلمي اللغة العربية من غير الناطقين بها، فأعلن عن جائزة كبيرة لأحسن مشروع لإصلاح الكتابة ولا سيما مسألة الصوائت، ولكن لم يفز أحد بالجائزة رغم المحاولات الكثيرة التي بلغت حوالي مائتي محاولة.
ثم ألغى المجمع الجائزة وبدأت مشاورات جماعية في هذا الشأن تبنتها اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية ممثلة فيها البلدان العربية، توجت بالقرارات التالية(12):
أولًا: يترك البحث في الكتابة اليـدوية فتبقى على ما هي عليه، إذ هي موجزة مختزلة، ويمكن تشكيلها عند الضرورة.
ثانيا: يقتصر البحث على تيسير حـروف الطباعة والآلات الكاتبة، وذلك باختصار صور الحروف والاستغناء عن المتداخل منها والمقنطر.
ثالثا: يلتزم الشكل في الطباعة وخاصة في كتب مراحل التعليم العام.
رابعا: يوضع النقط والشكل في المواضع الدقيقة من الحروف تحاشيا للاشتباه.
خامسا: يراعي في الشكل الفن الخطى بحيث لا يطول السطر أفقيا، ولا بأس أن يمتد في الطول قليلا.
سادسا: توضـع عـلامات للدلالة على أصوات الحروف التي لا يوجد لها مقابل في العربية.
سابعا: تبحث هذه القرارات في مؤتمر المجامع اللغوية الذي ينعقد في سوريا سـنة ١٩٥٦م.
وفي السنة المذكورة عرضت القرارات على مؤتمر المجامع في دمشق فاكتفى منها بقرار واحد، وهو “التزام الشكل في كتب المدرسة الابتدائية، ويتخفف منه في التعليم الثانوي بحيث يقتصر منه على ضبط ما يشكل”(13).
وفي مؤتمر المجمع سنة ١٩٥٨م تقرر اتخاذ قرارات اللجنة المشتركة آنفة الذكـر أساسا للبحث، ومضت لجنة تيسير الكتابة في عملها وانضم إليها بعض الخبراء والفنيين وممثلـون لوزارة التربية والتعليم، وانتهت في سنة ١٩٥٩م إلى قرارات مختلفة في قواعـد الشكل وفي اختصار صور الحروف لصندوق الطباعة.
نذكر منها هنا ما يختص بالشكل والتزامه في الطباعة، وبخاصة في كتب مراحل التعليم العام، فقد قررت اللجنة اتباع القواعد التالية(14):
أولا: في جميع مراحل التعليم العـام: تضبط الآيات القرآنية والأحاديث النبـوية بالشكل الكامل.
ثانيا: في المرحلة الابتدائية: لا يترك من الشكل إلا ما لا مجال لخطأ التلميذ فيه بحسب مستويات الصفوف أو السنوات.
ثالثا: في المرحلة الإعدادية يلتزم شكل أواخر الكلمات على قواعد اللغة، ويراعي ما يأتي:
أ ـ يهمل الشكل بالفتحة إلا حين تكون الفتحة حركة للواو أو الياء في مثل صوَر وحيَل.
ب ـ وفيما عدا الفتحة يلتزم بالشكل.
ج ـ وتعتبر حروف العـلة مـدّا ما لم تضبط بالشكل.
دـ ويلتزم وضع الشدة والمدة وهمـزة القطع.
هـ ــ وتضـبط الأعـلام غير الشـائعة بالشكل.
رابعا: في المرحلة الثانوية: يتخفف من شكل أواخر الكلمات متى كان الشكل واضحا ولا يتشكل من بقية الحروف إلا ما يتوقع خطأ التلميذ فيه، وتضبط الأعلام غير الشائعة بالشكل.
وافق المجمع عليها في مؤتمره سنة ١٩٦٠م، وأصبحت موضع التنفيذ في وزارات التربية والتعليم.