مقدمة
دخل الإسلام اليمن قبل فتح مكة، وفيهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية)، وأرسل الرسول عماله لتفقيه أهل اليمن في الإسلام، والقضاء بينهم. وبالرغم من حركة الردة التي قام بها عبهلة؛ فإن اليمنيين تكفلوا بالقضاء عليه وإنهاء تمرده، وبقيت اليمن مستظلة بظل الإسلام، وشاركت في الفتوحات، وأسهمت قبائلها في صناعة الأحداث المختلفة بدءا من خلافة أبي بكر الصديق.
وقد كان اليمنيون كغيرهم من المسلمين، شديدي التعطش للعلم والمعرفة، فأسهموا في الحركة العلمية بمختلف مجالاتها، ولم يتخلفوا عن غيرهم طوال القرون الأولى، فكان من عيون علمائهم ومحدثيهم وفقهائهم: طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس، وعبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني، ومعمر بن راشد، وأبو قرة موسى بن طارق الزبيدي اللحجي. وغيرهم؛ وكان العلماء يرحلون إلى اليمن للأخذ عن علمائها، حتى قيل عن عبد الرزاق: (ما رُحل إلى أحد بعد رسول الله كما رحل إلى عبد الرزاق)، ومصنفه يعد من أول المصنفات الحديثية تصنيفا في تاريخ الإسلام. أما صحيفة همام بن منبه (ت 102هـ) – وهو من اليمن، من الأبناء – فتعد أقدم تأليفاً في الحديث النبوي؛ إذ ألفت في القرن الأول الهجري.
وكذلك انتشر المذهبان الحنفي والمالكي في اليمن خلال القرن الثاني والثالث الهجري، كما انتشرا في غيرها من البلدان، وكان الانتشار الأوسع للفقه الحنفي. (1) أما الفقه الشافعي ففي طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة (2) أن أول من أشهر المذهب الشافعي في اليمن هو القاسم بن محمد القرشي (ت 437هـ) وأصحابه. أما قبل ذلك فلم يكن مشتهرا فيها. ومع مرور الوقت، وتبني الدول السنية في اليمن للمذهب الشافعي، فقد استطاع المذهب الشافعي أن يزيح المذاهب السنية الأخرى في اليمن.
أما في الأصول والاعتقاد، فقد انتشر المذهب الحنبلي – عقيدة لا فقها، ثم المذهب الأشعري في أواخر القرن السادس الهجري، دخل مع الأيوبيين. (3) وأما عند الزيدية فالمنتشر بينهم مذهب الاعتزال منذ دخوله مع يحيى بن الحسين. وأما الفكر الخارجي فلم ينتشر بل كان يظهر مع بعض الحركات التي تتبناه، كما في دولة ابن مهدي التي أسسها على أنقاض دولة بني نجاح في تهامة، عام 531هـ.
والخلاصة أن اليمن كلها كانت على مذهب السنة حتى أتى يحي بن الحسين فنشر المذهب الشيعي الزيدي في صعدة مع مذهب الاعتزال، ولم يتجاوزها، وأما المذهب الإسماعيلي فلم يكتب له الانتشار. وحتى صعدة ظل الأحناف فيها مسيطرين وكانت الجوامع بأيديهم، كما قال المقدسي (ت 380هـ)(4)، وهذا يفسر أخذ الزيدية في الفروع بالفقه الحنفي غالبا. ويذكر المقدسي أن صعدة وصنعاء كانت الغلبة فيها للأحناف. وفي تهامة كان المذهب المالكي منتشرا.
وسياسيا، كانت اليمن جزءا من دولة الخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية، ثم العباسية، وخاضت القبائل اليمنية مع غيرها في الحركات السياسية والثورية، سواء في العصر الأموي أو العباسي. وفي أواخر القرن الثاني الهجري كان أول دخول شيعي رسمي إلى اليمن من خلال إبراهيم بن موسى الشهير بالجزار؛ لشدة ما ارتكبه من قتل؛ حتى أرسل المأمون محمد بن إبراهيم بن زياد عام 204 هـ، مؤسس الدولة الزيادية، فقضى عليه. وكانت اليمن خلال القرن الثالث الهجري تتنازعها دويلات عديدة: اليعافرة في صنعاء والزياديون في تهامة، وفي أواخر القرن الثالث الهجري: العلويون في صعدة.
وعليه فاليمن كانت حاملة للفكر الإسلامي الصحيح، بعيدا عن الأفكار المنحرفة التي جاءت بها الشيعة، سواء القرامطة أو الزيدية، أو غيرهم من الفرق كالخوارج. ولا يعني وقوف بعض القبائل اليمنية في الصراعات الدائرة بين العلويين والعباسيين أنهم شيعة، بل كان ذلك جزءا من الصراع المعروف لدى مختلف القبائل في العالم العربي، ينظرون إلى الصراعات من منظور المصلحة التي يمكن تحققها لهم، حتى لو كانت ضد مصلحة الوطن. ولقد وقف مع إبراهيم الشهير بالجزار بنو فطيمة – من قبائل صعدة. وبعض قبائل نهم هم من دعوا يحيى بن الحسين، فكان دخوله الأول إلى اليمن عام 280 هـ، ثم دخوله الثاني إلى صعدة عام 284 هـ، بدعوة أهل خولان.
الثورة الأولى
ولم يكن نفوذ الإمام الزيدي يتعدى صعدة ومخاليفها وما حواليها. وقد سجل المتوكل أحمد بن سليمان شهادته في حقائق المعرفة (5) أن الهادي حين قدم اليمن “أجابه قوم من أهل اليمن وخالفه أكثرهم”.
ولما توفي الهادي تولى ابنه محمد الملقب بالمرتضى، فما الذي حدث؟
لا تذكر كتب التاريخ والتراجم سوى معلومات يسيرة، مفادها أن المرتضى بعد عام أو أقل أو أكثر – على خلاف بينهم – اعتزل، وآثر التفرغ للعلم والزهد. ثم قدم أخوه الناصر أحمد من الحجاز فتولى الإمامة محله.
ومع فحصي ودراستي لرسائل المرتضى يتبين أن اعتزال المرتضى لم يكن وصفا دقيقا لما حصل. وأن ثمة ثورة أطاحت بالمرتضى، فما الذي يجعله وهو المتطلع للإمامة، وقد كان من المقاتلين مع أبيه ومن قادة الجيش، وكان قد أسر من قبل في إحدى مواجهات الهادي مع أهل صنعاء. فما الذي يجعل رجلا بطموحه وتطلعه السياسي والعسكري يقدم على الاعتزال؟!
الجواب واضح في كتاب المرتضى “الغفلة”(6)، والكتاب موجه للذين نفضوا أيديهم عن بيعته، وبايعوا سواه، ويتضح من خلال كتابه أن ثمة حركة بين الناس أسهمت في تقويض شرعية المرتضى؛ فلم يكتفوا بنقض بيعته، بل إنهم سعوا في إقناع عامة الناس بذلك، وهذا يبين أن المرتضى لم يعتزل من تلقاء نفسه، بل إذا صح التعبير أن الناس خلعوه، ولذلك كان مجيء أخيه أحمد الناصر حلا مقبولا لديه ولديهم؛ فعندئذ نزل المرتضى مكرها عند أمر الناس.
وتتضح من خلال هذا الكتاب مجموعة من الأمور:
– أولها: أن أهل صعدة ومن كانوا تحت نفوذ العلويين، ممن بايعوا المرتضى قد خلعوه، وشاعت حركة شعبية بين الناس تقوض شرعيته.
– توجهت تلك الانتفاضة أيضاً إلى الطعن في شرعية الهادي نفسه، كما يظهر من الرسالة دفاع المرتضى المستميت عن شرعية أبيه وعن فضائله ومآثره وما قدمه لأهل اليمن. كل ذلك يبين وجود صوت قوي ضد الهادي وشرعيته، وانتقاد علني لتصرفاته وأفعاله. وامتد ذلك إلى هز شرعية ابنه المرتضى، وخلع بيعته.
– هجوم المرتضى العنيف ضد أهل اليمن، وتوعده لهم بالخسران في الدنيا والآخرة، وتحذيره من النار والعذاب الشديد. واضح الدلالة على قوة تأثير الحركة ضده.
وأيا يكن الأمر؛ فإن لاعتزال المرتضى خلال أقل من سنة من حكمه، مع رسالة “الغفلة” التي وجهها لأهل اليمن، ودفاعه عن شرعيته وشرعية أبيه، وهجومه على اليمنيين – لدليلا واضحا على ما كان يعصف بأسرة الهادي الناشئة في عقر دارها من تهديدات مؤذنة بزوالها.
وفي الرسالة تظهر بوادر الخلاف الكبير بين المرتضى وبني عمه من أولاد القاسم؛ فكل منهم يرى أنه أحق بالأمر. ويبدو أن هذا الخلاف بين أولاد العمومة قد طعن في شرعية دعوة الهادي لدى اليمنيين، الذين رأوا بأعينهم كيف دب الخلاف بين أسرة القاسم بمجرد وفاة الهادي، وأدركوا أنهم طلاب سلطة، مثلهم مثل غيرهم.
إضافة إلى ما سبق، فمن الواضح أنه تعالت أصوات في تلك الفترة تدعو إلى إخراج أولاد الهادي ومن معه من العلويين من اليمن، فضلا عن الطبريين القادمين من فارس، كما يتضح ذلك من دفاع أحمد الطبري، عن الهادي وأولاده ضد هذه الدعوى، التي نسبها إلى القرامطة وآل طريف أنهم كانوا يطلبون من أتباعهم النصرة لإخراج الهادي بوصفه غريبا (7) (نخرجه من وطننا وبلداننا إلى جبل الرس). ثم يناقش مناقشة مطولة هذه الدعوى، ويحاول الرد عليهم مستدلا بالقرآن الكريم.
كما أن هذا قد يفسر لنا سبب عودة الطبريين من اليمن بعد وفاة الهادي، وأثناء فترة اضطراب الحكم على المرتضى (8) ، ونحن لا نجد في المراجع التاريخية ما يبين لنا سبب خروج الطبريين وعودتهم إلى فارس. بالرغم من غرابة الأمر؛ لا سيما لو أنهم قد وجدوا ما يصبون إليه من الاستقرار، وإقامة الدولة التي يحلمون بها: دولة الإمامة الشيعية الزيدية. ولكن قراءة كتاب المرتضى لليمن، ودفاع الطبري عن بقاء الهادي وأولاده في اليمن يفسر لنا سبب خروج الطبريين من اليمن، فلعل ذلك ارتبط بالحملات التي شنها اليمنيون على الفرس تدعو إلى إخراجهم من اليمن، كما شنوها على الهادي وأولاده أيضاً.
هذا الدفاع عن شرعية الانتماء يبين أنها تعرضت لتهديد كبير وهجوم عنيف، كما تعرضت شرعية الإمامة لمثل ذلك التهديد. ولا ندري كيف توصل اليمنيون إلى حل وسط مع الشيعة الزيدية بتولية الناصر أحمد، بالرغم من أنه كان في جبال الرس، ولم يكن مع والده أثناء حروبه في اليمن، ووافق اليمنيون على أن يأتي هذا الذي لا يعرفونه إلا أنه ابن الهادي، فوافقوا على أن يحكمهم، وفضلوه على أن يحكمهم من كان معهم.
وهذا يفسر نزوع تلك القبائل اليمنية حينذاك لأن يبحثوا عن البعيد فيولوه أمرهم، ويرضوا بحكمه فيهم. كما فعلوا حين استدعوا يحيى بن الحسين من جبال الرس.
وثمة احتمال آخر، وهو أن المقاومة الشعبية تكون توصلت إلى حل وسط، وهو: عزل المرتضى وإخراج الطبريين من اليمن، مقابل تولي الناصر أحمد محل أخيه.
ولكن ما أن توفي الناصر أحمد حتى دخلت الأسرة العلوية في صراع مرير، وأصبح الإخوة وبنو العم يتحاربون ويتنازعون، وكل يدعي أنه أولى بالأمر من أخيه! ولذلك كان النزاع بين ولدي الناصر: القاسم بن الناصر الذي تلقب بالمختار لدين الله (وهو جد بني المختار الذين تنازعوا مع القاسم العياني)، وأخيه يحيى بن الناصر الذي تلقب بالمنصور بالله، وانقسام القبائل بينهما، كان ذلك النزاع سببا في دمار صعدة وخرابها، وضعف حكم الأسرة لمدة طويلة من الزمن.
ومهددات شرعية الهادي وأولاده لم تتوقف مع مجيء الناصر، بل استمرت في عصره، كما ألمحنا إلى ما ذكره أحمد الطبري عن دعوات إخراج الهادي وأولاده من اليمن، وعن خروج الطبريين.
كما أننا نجد في قصة الحسن الهمداني فصولا أخرى من هذا الصراع، فيذكر الخزرجي أن الهمداني حين كان في صعدة نشأت بينه وبين شعراء عصره المتعصبين ضد اليمن مهاجاة هاجم فيها الوجود الفارسي في اليمن، كما هاجم الوجود العدناني أيضا، فلما غلبهم اشتكوه إلى الناصر، واتهموا الهمداني أنه هجا النبي، فخرج الهمداني إلى صنعاء، فكاتب الناصر الأمير أسعد بن أبي يعفر فسجنه في صنعاء. فقال في سجنه كثيرا من شعر التحريض والتوبيخ لأهل اليمن. قال الخزرجي: (وكان سجنه سببا لزوال ملك الناصر وقتل أخيه الحسن بن الهادي)، وقصة ذلك أن حسان بن عثمان أحد بني يعفر قصد الناصر وقاتله حتى قُتل أخوه الحسن، فمات الناصر عليه غما. فملك حسان صعدة واستولى عليها . (9)
الحسن الهمداني
هو الحسن بن أحمد الهمداني البكيلي الأرحبي الصنعاني المولد والنشأة، الريدي إقامة ووفاة، وريدة كانت مقر سيد همدان آنذاك أبو جعفر الضحاك (10) . ومن المرجح أنه ولد في العقد السابع من القرن الثالث الهجري، ووفاته أيضا فيها لبس واختلاف، ورجح الأكوع أنه توفي بعد 356 هـ.
وقد تعلم على مجموعة من مشايخ اليمن، ثم رحل إلى مكة وغيرها من البلدان. وخلال حياته بلغت مدة إقامته بصعدة نحو 20 سنة. وكثير من كتب التاريخ أن استقراره بصعدة بدأ عام 307هـ.
لم يكن الهمداني بالشخص المستكين إزاء ما يراه من مفاسد ومظالم، وكان معروفا بصلاته الواسعة مع رجال القبائل وشيوخها، ومع شيوخ العلم والأدباء والشعراء، ولذلك كان صريحا بانتقاد ما يراه من أخطاء أو خطايا. ونتيجة لذلك دخل في صراع ثقافي وفكري وعلمي وأدبي مع حاملي الأفكار المنحرفة، ولا سيما أفكار الإمامة وما تقوم عليه من التفضيل العرقي ومزاعم الاصطفاء الإلهي المتحيز لقبيلة على أخرى.
وقد كُذب عليه واتهم أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا نجد ضعيف الحجة حين ينهزم أمام خصمه يذهب لتلفيق الاتهامات عليه. ففر الحسن الهمداني من صعدة التي كانت تحت حكم الناصر أحمد بن الهادي إلى صنعاء؛ معتقدا أنه سيكون بمأمن تحت حكم أسعد بن أبي يعفر الحميري الحوالي. لكن الناصر راسله بشأن الحسن، فسجنه في صنعاء.
وكان الهمداني سُجن في صعدة لمدة محدودة، فضغطت القبائل على الناصر حتى أطلقه، ففر إلى صنعاء، وهناك سجنه الأمير أسعد، وحين طلبت القبائل منه إطلاق الحسن تعذر بالناصر وطلب منهم كتابا منه حتى يطلقه، ولكن الناصر رفض ذلك. وحينئذ قادت بعض القبائل حملة على الناصر واقتتلوا، فأذعن الناصر لهم وأرسل بإطلاقه. وقيل بل الذي توسط أمير تهامة ابن زياد، ويبدو أن هذا هو الراجح؛ فبعد خروج الحسن الهمداني حرض حسان بن عثمان ابن عم الأمير أسعد.
وقد كتب قصيدة الجار (11) يذم أسعد على موقفه معه، وخفر ذمته، وتخليه عن مسؤوليته. وأولها:
خليلي إني مخبر فتخبرا
بذلة كهلان وجيرة حميرا
ويقول عن أسعد:
أنخت به خوف العداة وغدرهم
فألفيته فيهم – على الأمن – أغدرا
فملكهم مني مناط قلادتي
وأسلمني فيهم بأذني وأدبرا
ويهجوه في أبيات كثيرة على خفر ذمته وعدم حماية جاره، ويروي قصص كثير من الملوك والأمراء الذين حفظوا الجوار ولم يغدروا بمن استجار بهم.
ويشير فيها إلى المكانة التي احتلها الطبريون القادمون من فارس في اليمن. فيقول:
ظننت بأن لو كنت من حي فارس
على بعدها، أو كنت ممن تنصرا
لما أسلموني عنوة دون صيلم
ولا نفضوا عني الأكف تنكرا.
وقال أبياتا يحرض فيها الحميريين على ما فعله أسعد، وتهاونه مع العلويين، ويعيرهم أنه لو احتمى بغيرهم لحموه، فقال:
ولكنني أصبحت في دار غربة
أجاور من بين البرية حميرا
خطاب الهمداني المقاوم
تقوم دعوى الإمامة الزيدية على عنصرين أساسيين، الأول: حصر الحكم في ذرية الحسنين؛ على أنه استحقاق إلهي لهم من الله، لا يقوم على اختيار الناس أو رضاهم. والثاني: أفضلية هذه الذرية التي يزعمون أن الله اصطفاها وفضلها على العالمين.
ولقد واجه أحرار اليمن هذه الدعاوى منذ وطئت أرض صعدة، وتمثلت المواجهات في حروب مستمرة مع يحيى بن الحسين العلوي، ولولا وجود سند لهم من بعض القبائل اليمنية التي كانت مستفيدة في أرزاقها ومصالحها من هذا الوضع، لما قامت لهم في اليمن قائمة. ولكن تمدد الشيعة لم يتحقق إلا بقبائل اليمن أنفسهم، وإلى الآن أيضا.
فمواجهة الدعوى الأولى تمثلت في خنق الحركة العلوية في صعدة، وعدم تمكنها من التمدد خارجها كثيرا، سوى في فترات محدودة جدا، سرعان ما تنكمش. وبقيت سائر اليمن خاضعة لنفوذ حكام ليسوا من البطنين. ومواجهة الدعوى الثانية تمثلت في رفض الوجود العلوي المتشيع بهذه العنصرية على أرض اليمن، ولذلك أخرجوا الطبريين أول القرن الثالث الهجري.
وحتى صعدة نفسها، كما رأينا فقد ثارت على الحكم العلوي الإمامي، وأطاحوا بالمرتضى، ثم قام حسان بن عثمان أحد بني يعفر بالاستيلاء على صعدة وإنهاء حكم العلويين. لولا قيام القبائل التي لها مصالح مع العلويين بإعادتهم إلى الحكم.
وفي هذا السياق تأتي حركة الحسن الهمداني، ومن مظاهر ثورته الفكرية على الحكم الإمامي العلوي:
1- عدم تسليمه للحركة العلوية بدعاواهم، ولذلك لا يذكر الهادي أو أحد أولاده إلا بلقب العلوي، فيقول: (العلوي يحيى بن الحسين). وفي هذا دلالة واضحة أنه ينكر استحقاقهم للإمامة، فضلا عن حصرها فيهم. ويقول عن خولان مبينا أنها ملكت أمرها لمن لا يستحق : (12)
تملكها بمخرقة رجال
بلا حق أقيم ولا بحد
وقد كانت على الإسلام قدمًا
ولم تسمع لهادٍ قبل مهدي
أي تملك خولانَ رجالٌ بالمخرقة والادعاء، ولم ينالوا ملكهم بالحق والبأس. وكانت خولان من قديم على الإسلام وعلى شريعة الإسلام، يملكها أبناؤها ومن يستحق ذلك؛ حتى قدم عليهم الهادي!
ويعبر بوضوح شديد عن رفضه لدعوى وراثة النبوة، وذلك في قصيدة له يخاطب شاعرا علويا اسمه: أبو العساف، من ذرية القاسم، فيقول له : (13)
أبا العساف غرك فضلُ حلمي
وأنك من رؤوس الهاشمينا؟!
وأنك لا تخاف ولا تُجارى
ولا تَلقى بما قدمتَ هونا
.. ويقول مبينا أنه يراعي حقوق قرابة النبي في عدم هجوه:
وأقسم إن رملت إليك بيتا
ليَغتمزَنْ قناتَك أو تلينا
ولكني رعيت حقوق قوم
يكون ودادهم في الله دِينا
ثم يبين أنه أحق برسول الله من العلوي الذي ينتسب إليه؛ فالانتساب الحقيقي للنبي ليس انتساب الدم بل انتساب الدين والإيمان:
فخرتم بالنبي ونحن أولى
به للنصر من بعض البنينا
وما كان ابنُ نوح قبل أولى
به من تابعيه المؤمنينا
ويذكرنا هذا بقول نشوان الحميري:
آل الرسول هم أتباع ملته
من الاعاجم والسودان والعرب
ثم يبين أن الملك في الجاهلية كان لقحطان، وأن الإسلام لن يحرمهم من الملك ولا يصح أن يستخدمه أحد في الدعاوى السياسية، فيقول:
أليس الملكُ لنا قديما
وفي الإسلام نحن العابدونا؟
فحزنا الخَلّتين: هدىً ومُلكا
وما حزتم سوى ما تَرَّكونا
ثم يختم قصيدته معلنا بصراحة أن النبوة لا يرثها الأقربون، وأنه لا يحق لأحد أن ينتحل فضل النبي لنفسه لمجرد انتسابه إليه، أو أنه من قبيلته أو قومه، فيقول:
ولن يرث النبوةَ أقربوها
وفضل ثوابها للمسلمينا
وما فضل النبي لغير قوم
كفَوه الهمَّ دون الأقربينا
2- كان الهمداني في الإكليل بمنزلة وكالة الأنباء التي تهتم برصد أي تحركات شعبية ضد حركة العلويين، يسجلها ويذكر تفاصيلها، ثم يعقب بمدح قادتها وتدبيج الأشعار فيهم، ويشيد بمقاومتهم أو حروبهم .(14) ومن أمثلة ذلك:
أ- مدح أبي جعفر الضحاك بن محمد، وقال عنه (سيد همدان في عصرنا)، وقال عنه في الإكليل: (شهد مائة وقعة وستًا، كان أكثرها بين حزبه وبين يحيى بن الحسين العلوي، وأسر ابنه محمد بن يحيى يوم إتوة).
ب- رصد الهمداني في كتابه استعانة الأكيليين بالخليفة العباسي (المكتفي بالله) على يحيى بن الحسين، حين دخل صنعاء ، (15) ولكن سرعان ما خرج منها ففتر السلطان عن ذلك، ولم يعر نفوذه في صعدة أهمية. ويشيد الهمداني بنبوءة الخليفة العباسي حين أتاه الأكيلي فقال له الخليفة: (إن لأهل اليمن وثبات كوثبات السباع النهمة) ، (16) فلما جاء الخبر أنهم أخرجوا الهادي من صنعاء قال له الوزير: كيف رأيت قول أمير المؤمنين!
ت- وقال عن عباد بن عبدالله: (وهو رجل خولان وصاحب الفتكات والمناصب للعلويين وقاتل عمالهم ، وشاق عصاهم) (17) .. ثم يمدحه بقصيدة طويلة، ويثني فيه على ما فعله بالعلويين.
ث- وممن مدحهم لوقفتهم معه أثناء سجنه: زكريا بن عبد الله سيد أكيل، ولسان خولان ورأسها – بتعبير الحسن الهمداني، وهو أحد من قام في فك الحسن الهمداني لما سجن في صعدة . (18) وبنو كليب (من قبائل الربيعة)، قال عنهم (19) : (هم ممن ناصب العلوي في سجن الهمداني وحالف عليه).
ج- أشاد بموقف حسان بن عثمان بن أحمد بن يعفر في مهاجمة الناصر أحمد بسبب سجنه للهمداني، وكان مضمرا له العداوة . (20) وقد تحدث الهمداني عن يوم الباطن ودور حسان في هزيمة العلويين بصعدة، ويوم الباطن حدث بعد خروج الهمداني من سجن صنعاء. فقال (21) : (ثم ساقوا حسان [ بن عثمان بن أحمد ] بن يعفر إلى نجران ، فكان بينهم يوم الباطن ، وكان من أعظم أيام العرب ، قتل فيه الحسن بن يحيى بن الحسين أخو الناصر في خلق كثير ، فانفلق قلب الناصر ، فأقام أيامًا يسيرة عليلًا ثم توفي ، وساروا بحسان إلى صعدة فملكها ، ثم قامت عليه الربيعة فقاتلها زيد ، فأصيب في تلك الحروب بعد مواقف منه ، لم تكن لأحد من فرسان العرب ، وفيه مرثية الهمداني المشهورة:
لا رمَتْ يعرب بسهم شديد
بعد زيد أخي الفعال الحميد
خير خولان بل قضاعة بل حمير
بل قحطان الشريف بن هود
خ- وقد أثنى على زيد بن أبي العباس وما فعله مع العلويين في قتاله إياهم بـ(حَمومة)، وكسرهم لشوكة العلويين . (22)
3- وكما كان يثني على من واجه الحركة العلوية، فقد كان يرصد أيضا ويذكر من أعانهم من قبائل اليمن، وفي ذلك إدانة لمواقفهم.
فقد ذكر مثلاً: آل فطيمة، (الذين قاموا مع إبراهيم بن موسى) المعروف بالجزار، وقال عنهم (وهم الذين خرجوا ليحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرّس ، فملكوه بلد خولان وساروا معه إلى اليمن حتى ملكها) (23) . وإن كان مدحهم لاحقا لموقفهم في استنقاذ الهمداني من السجن، وقتالهم للناصر أحمد من أجل ذلك. حتى مدحهم فقال فيهم:
همُ قحطان لا قحطان إلا
فُطيميّ نما في عرق سعد
أ- وذكر عمرو بن يزيد (من ولد الفياض بن حرب من خولان) الذي قام مع إبراهيم بن موسى العلوي . (24)
ب- وفي موقعة حمومة التي نصرت فيها قبائل من همدان الناصر أحمد ضد زيد بن أبي العباس، ومن معه من آل فطيمة من قبائل خولان. وكانت الوقعة انتقاما من الناصر ضدهم حين هاجموه في كتفي بشأن سجن الهمداني. فقال يهجوهم : (25)
ألا أبلغ بني سعد بن سعد
مقالة ناصح للقوم ودّ
بأن قبحت لحّى قاتلن زيدًا
ومحبي مجدها حسبًا بحد
وقُبحَ من ربيعة حيث كانت
كليب والقماقم من كلعد
سعى في فك رقتهم فقاموا
عليه دون نصرته لضد
ولا مدّت لهمدان بن زيدٍ
بنانًا تقتدحن شهاب زند
جزوًا حسنًا وزيدًا عن أخيهم
جزاءً غير مرسوم برشد
هما غضبا لهمدان وقاما
لها من دون ذمتها بحشد
ويقول لحاشد محذرا لها مصير آل ابي فطيمة، بالرغم مما قدموه في نصرة العلويين، ولكنهم هاجموهم وغدروا بهم، فقال:
أحاشد لست عند بني علي
كآل أبي فطيمة فاستعدي
ليوم مثل يومك في حماهم
فأوكى أنها سعد بن سعد
أو انتظري وشيكًا غير ريث
تواصي خيلهم للنقع تردى
الهمداني والدامغة
ألف الهمداني قصيدته الدامغة ، (26) وذلك ليثبت مفاخر قحطان في الجاهلية والإسلام، وجاءت في سياق التفاخر الذي أقامه العلويون في اليمن، واحتكار الأفضلية المطلقة لهم، فدخل الهمداني في مهاجاة مع الشعراء، وكتب دامغته ردا على نونية الكميت بن زيد التي يفخر فيها بالعدنانيين على القحطانيين.
ولا شك أن نزعة التفاخر هي نزعة جاهلية، تثير النعرات، وتعلي من شأن العنصرية، وفيها كثير من البهتان والزور.
والدامغة للهمداني تأتي في هذا السياق، فهي من ناحية التفاخر المجرد مذمومة؛ وسنعرض عما فيها من ذلك، ونشير إلى بعض الجوانب الإيجابية التي يؤكدها الهمداني، منها:
– أن الناس جميعا خلقوا من تراب، وبذلك فلماذا يتفاخر بعضهم على بعض؟!
٨٧- أَلاَ إِنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ
ونَحْنُ مَعًا إِلَيْهِ عَائِدُونَا
وهو يؤكد هذا المعنى أيضا في ديوانه، فيخاطب العدنانيين داعيا لهم إلى اجتناب الظلم، وترك العنصرية، فيقول : (27)
ونحن نراكم بعضنا، بل نراكم
لقرباكمُ منا أشقاء وابنما
فلا تصدعوا الشعب الذي كان بيننا
فيصبحَ ذا فصلين في القوم أثلما
– أن فخر المسلمين لا ينبغي أن يكون إلا بدينهم، وبذلك هو يثني على أهل اليمن من هذه الناحية، مبينا أنهم هم من نصروا الرسول وآزروه، وهم من وقفوا مع الخلفاء الراشدين.
89- ومَا افْتَخَرَ الأَنَامُ بِغَيْرِ مُلْكٍ
قَدِيْم،ٍ أَوْ بِدِيْنٍ مُسْلِمِيْنَا
90- ومَا بِسِوَاهُمَا فَخْرٌ، وإِنَّا
لِذَلِكَ، دُونَ كُلٍّ، جَامِعُونَا
ويقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
٣٠١ – وسَارَ خِيَارُنَا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ
إِلَيْهِ مُؤْمِنِينَ مُوَحِّدِيْنَا
٣٠٢ – فَآسَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وأَصْفَوا
لَهُ مَا مُلِّكُوْهُ طَائِعِيْنَا
٣٠٣ – وكُنْتُمْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ رَبِّيْ
مَتَى تُحْفَوا تَكُونُوا بَاخِلِيْنَا
٣٠٤ – وكَانَ المُصْطَفَى، بِأَبِيْ وأُمِّيْ،
بِأَفْخَرِ مَفْخَرٍ لِلآدَمِيْنَا
٣٠٥ – ولَمْ يَكُ في مَعَدَّ لَهُ نَظِيْرٌ
ولا قَحْطَانَ، غَيْرَ مُجَمْجِمِيْنَا
٣٠٨ – فَأَحْرَزْنَاهُ دُوْنَكُمُ، وأَنْتُمْ
قِيَامٌ، كَالبَهَائِمِ تَنْظُرُونَا
ويؤكد التزامهم بالإسلام وفروضه، ومنها أداء الزكاة، وهو يشير إلى أنهم لم يرتدوا مع من ارتد من العرب:
٣٤٠ – وآتَيْنَا الزَّكَاةَ وكُلَّ فَرْضٍ
وأَنْتُمْ، إِذْ بَخِلْتُمْ، مَانِعُونَا
– يفتخر بنصرتهم للخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب، وهو بذلك يميز بوضوح بين دعوى العنصرية الجاهلية التي تطال الآخر إيجابا أو سلبا، وبين الموقف المسؤول في تقييم الآخرين، فبالرغم من تفاخره على العدنانيين، فإنه احترم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، واحترم مقام الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وهو بذلك يفوت الفرصة على خصومه في دعواهم أنه عنصري! وهو يعلن بوضوح أن كراهيته للحركة العلوية في اليمن وما جرته من ويلات، ومقاومته لها، لا يعني أنه يسيء إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه – وموقف اليمنيين معه في خلافته الراشدة. فيقول:
٣٩٣ – وآزَرْنَا أَبَا حَسَنٍ عَلِيًّا
عَلَى المُرَّاقِ بَعْدَ النَّاكِثِيْنَا
٣٩٤ – وصَارَ إِلَى العِرَاقِ بِنَا، فَسِرْنَا
كَمِثْلِ السَّيْلِ نَحْطِمُ مَا لَقِيْنَا
– ويؤكد افتخار اليمنيين بانتمائهم إلى الإسلام، وأنهم أحق به وبرسوله وبصحابته من غيرهم:
٤٦٦ – وقَالَ اللهُ لَمَّا أَنْ كَفَرْتُمْ
وكُنْتُمْ عَنْ كِتَابِهِ تَنْفرُونَا
٤٦٧ – لَقَدْ وَكَّلْتُ بِالإِيْمَانِ قَوْمًا،
فَكُنَّاهُمْ، ولَيْسَ بِكَافِرِيْنَا
٤٦٨ – فَخَلُّوا الفَخْرَ، يَا عَدْنَانُ، لَسْتُمْ
ـ وقَدْ رُحْنَا بِأَحْمَدَ ـ تَحْسُنُونَا
خطر الصورة المثالية:
تظل الصورة المثالية فخا مخيفا يجر إليه الباحث حين يتحدث عن موقف ما، فيحاول أن يتتبع المواقف والجمل التي تؤيده وتعزز اتجاهه – إيجابا أو سلبا – ولذلك من المهم أن يجتنب الباحث وهم الصورة المثالية.
ما سبق بيانه هو محاولة لرسم بعض الخطوط التي تدعم الاتجاه الثوري ضد الحركة العلوية الإمامية في اليمن. ولكن مما ينبغي أن يقال هنا أيضا، أن القبائل اليمنية لم تكن تنظر إلى الحركة العلوية بمنظور عقدي، بقدر ما تنظر إليها بمنظور المصلحة؛ فإن اتفقت المصالح أيد بعضهم بعضا، وإن اختلفت المصالح عادى بعضهم بعضا. وكتاب الإكليل شاهد على ذلك. بل إن القبائل اليمنية كانت فيما بينها في نزاع دائم، فلا توجد كتلة موحدة تعبر عنها.. وفي المقابل أيضا نجد أن الحركة العلوية كانت في خلاف مستمر، فلم تتحد إلا في أيام الهادي، ومع موته بدأ الشقاق والنزاع يدب بين العلويين، واشتعلت الحروب بينهم، وكان لكل من أطراف النزاع قبائل تؤيده وتستفيد من ذلك.
وفي السياق نفسه، بالرغم من محاربة الهمداني لمثل تلك الدعاوى الباطلة؛ فإنه كان يقع في موقف متطرف يدفعه أحيانا إلى عنصرية متطرفة، ومن قرأ قصيدته الدامغة يلمس ذلك. كقوله مثلا:
29- سوانا يالَ (قحطان بن هودٍ)
لأنا للخلائق قاهرونا
والقصيدة تذكرنا بقصيدة عمرو بن كلثوم الفخرية في الجاهلية، وفيها نعرات عنصرية تفرق بين العرب، وتمزق الممزق منهم.
ومما أكتفي بإيراده تأكيده أن اليمنيين غضبوا على الأمويين وأسهموا في إسقاطهم، ليس بظلمهم مثلا أو باحتكارهم السلطة أو نحو ذلك، بل بسبب أنهم قدموا مضر عليهم. ولذلك يبين أنهم أسقطوا الأمويين ونصروا الهاشميين وقالوا: الهاشميون أحق بالملك من الأمويين.
يقول في الدامغة:
٤١١ – وقَوَّمْنَا أُمَيَّةَ فاسْتَقَامَتْ
وكَانُوا قَبْلَهَا مُتَأَوِّدِيْنَا
٤١٢ – فَلَمَّا رَفَّعُوا مُضَرًا عَلَيْنَا
جَعَلْنَا كُلَّهُمْ في الأسْفَلِيْنَا
٤١٣ – وقُلْنَا: الهَاشِمُونَ أَحَقُّ مِنْكُمْ،
ونَحْنُ لَهُمْ عَلَيْكُمٍ مائِلُونَا
٤١٤ – فَقَامَ بِنَصْرِهِمْ مِنَّا جُدَيْعٌ
وكَانَ لِحَرْبِهِمُ حِصْنًا حَصِيْنَا
ولكن الهمداني يؤكد في قصيدته مرارا أنه إنما كتب الدامغة ردا على ظلم العدنانيين، وابتدائهم الهجو، معتبرا أن الكميت هو المبتدي وهو الظالم، وأن العدنانيين لم يراعوا القرابة ولا الحقوق المشتركة ولا المواقف التي وقفها القحطانيون معهم؛ وهذا ما جعله يكتب دامغته ليرد عليهم، مؤكدا أن رد من سبقوه لم يشف الغليل، ولم يصب الخصوم بمقتل.
خاتمة
وأخيرا فإن مثل هذه القراءة أذكر من ورائها أربعة دروس:
الأول: استلهام التاريخ، ومعرفة الخط الفكري والنضالي لليمنيين – أفرادا وقبائل – عبر التاريخ، وهذا ما يحفزنا لأن نكون كما كانوا، وألا نستسلم..
الثاني: أهمية توحيد الصف، فعبر التاريخ لم تقو الإمامة إلا بسبب دعم القبائل اليمنية لها. فينبغي أن نتعالى على مصالحنا الضيقة، وأن ننظر لمصلحة وطننا.
والدرس الثالث: أن الإماميين ليسوا على قلب رجل واحد، بل داخلهم أودية من التفرق والنزاع والشقاق. تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
والدراس الرابع والأخير، أن حركة الهمداني الفكرية الثورية تمثل نبراسا لنا، لما سبق أن بينته، وأيضا لم تكن حركته عنصرية ضد عرق بعينه، بل وجهها ضد الفكرة الإمامية، وهاجم من يحملها، ولذلك أكد في دامغته ما ذكرته من قبل من افتخار أهلا ليمن بدينهم، وبنصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ولخلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
الهوامش:
- طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة، 80.
- ص 80.
- انظر: تاريخ المذاهب الدينية في اليمن، 73.
- انظر: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، 96.
- ص487.
- مجموع كتب ورسائل الإمام المرتضى، ج2/ 673 – 702.
- المنير على مذهب الهادي، 284.
- غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، 202.
- العقد الفاخر الحسن في طبقات أكابر أهل اليمن، ج2/ 678 – وما بعدها.
- التعريف مقتبس من مقدمة محمد بن علي الأكوع لكتاب الإكليل، الجزء الأول.
- انظر القصيدة كاملة في مقدمة الإكليل، ج1/ 45.
- الإكليل، ج1/ 294. وانظر ديوانه، ص85.
- انظر القصيدة في ترجمة الحسن الهمداني، في: طبقات أكابر أهل اليمن للخزرجي، ج2/ 679. وانظر ديوان الهمداني، 170.
- انظر مثلا: الإكليل، ج1/ 240.
- الإكليل، ج1/ 231.
- الإكليل، ج1/ 240.
- الإكليل، ج1/ 240.
- الإكليل، ج1/ 218.
- الإكليل، ج1/ 258.
- الإكليل، ج1/ 290.
- الإكليل، ج1/ 294.
- الإكليل، ج1/ 291.
- الإكليل، ج1/ 288. يقول عنهم: (وآل أبي فطيمة الذي قاموا مع إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الرضي ، وأخربوا صعدة معه ، وقاموا مع من قام من خولان على محمد بن عباده فقتلوه ، وهم الذين خرجوا ليحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرّس ، فملكوه بلد خولان وساروا معه إلى اليمن حتى ملكها . وكانوا عمود أمره ووكر عزّه ، ونظام دولته ، فأقاموا على ذلك حياة يحيى بن الحسين ، وحياة ابنه محمد بن يحيى، وحياة ابنه الناصر ، حتى سجن الهمداني بيد أسعد بن أبي يعفر ، فطلبوا فيه ، فأعلمهم أنه لم يسجنه ، وأنّ أسعد سجنه في جرم أجرمه إليه ، فركب منهم الحسن بن محمد بن أبي العباس إلى أبي حسان ، طالبًا فيه فاعتذر ، وقال : إنما كتب إليّ فيه الناصر أن أسجنه له فهو في سجنه عندي ، فاطلبوا إليه ، فإذا أنعم ، فيكتب إليَّ حتى أطلقه ، فانصرف. وعادوا جماعة العشيين الناصر في الطلب، وأعلموه بما قال أسعد ، فأبعدهم وأغلظ لهم ، فأغلظوا له وتباعدوا أمرهم ، وأظهروا له الخلاف ، وقاد له الحسن بن أبي العباس بني جماعة وقاتله بمصنعُه كَتفي ، فسأل الناصر وجوه خولان أن يصرفوه ويعلموه أنه قد فتح له الهمداني ، فرضي وصرف تلك الجموع ، ووادعه حتى صحّ له أن إطلاق الهمداني كان من جهة ابن زياد صاحب زَبيد).
- الإكليل، ج1/ 274.
- الإكليل، ج1/ 292.
- انظر القصيدة في مجلة التراث العربي، تحقيق: مقبل التام، عدد 95، أيلول 2004م، ص 200 – 238.
- ديوان الهمداني، 167.
مقال جيد مسهب.. بورك قلمك يا دكتور.
لكنني استغربت قولك: “وحتى صعدة ظل الأحناف فيها مسيطرين وكانت الجوامع بأيديهم، كما قال المقدسي (ت 380هـ) ، وهذا يفسر أخذ الزيدية في الفروع بالفقه الحنفي غالبا. ويذكر المقدسي أن صعدة وصنعاء كانت الغلبة فيها للأحناف”.
المقدسي غير معتمد في مثل هذه الأمور، فإننا أعرف بتاريخنا منه، وقد أغرب كثير من المؤرخين في ذكرهم اليمن، وذكروا أخبارا خيالية عن أحداث مؤرخة في كتب التاريخ اليمنية.
والسؤال.. متى دخل المذهب الحنفي صعدة؟
أما مسألة أخذ الزيدية في الفروع بالفقه الحنفي اعتمادا على أن صعدة كانت موئل الأحناف، فغير مسلّم، لأن الأصل غير صحيح.
لقد نشأ الإمام زيد في البيئة التي نشأ فيها المذهب الحنفي، واتحدت أو توافقت أصول الزيدية والحنفية في الفقه، وثبت لقاء زيد بأبي حنيفة.
رعاك الله على ملحوظتك، وللتوضيح:
هذا ابن سمرة الجعدي، في كتابه “طبقات فقهاء اليمن”. قال وهو يتحدث عن المذاهب المنتشرة في اليمن قبل مجيء الهادي: (إما حنفي، وهو الغالب، وإما مالكي) [ص 79].
وابن سمرة من علماء اليمن في القرن السادس الهجري.
**
وأما المذهب الزيدي، فمن المعلوم أن زيد بن علي لم يترك مذهبا فقهيا، ومجموعه لم يعرف إلا في قرون متأخرة، وبرغم ذلك فهو أقرب ما يكون إلى الآثار التي تشبه آثار المحدثين، ولذلك سواء اتصل بأبي حنيفة أو لم يتصل فلا تأثير مباشر لذلك. وانتساب الزيدية إليه هو انتساب سياسي لا فقهي.
لكن الفقه الزيدي قام على فقه القاسم والهادي في المقام الأول، وكذلك على فقه الناصر الأطروش في الديلم، وهم بوابة التأثر بالأحناف.
وأنا لا أفسر التأثر الزيدي بالفقه الحنفي كون صعدة موئلا للأحناف فقط، بل هو أحد أوجه التفسير؛ وإلا فإن الفقه الزيدي تأثر أيضا بزيدية الديلم وهم متأثرون بالفقه الحنفي، وكان لزيدية الديلم تأثير كبير في المذهب الزيدي.
ما ورد في المقال إشارة إلى أحد أوجه التأثر؛ لأن المقال لم يهدف لبحث هذه القضية، بل كانت مجرد مدخل يبين مدى تمسك اليمنيين بما كانوا عليه من فقه، بالرغم من مجيء الهادي، بل أثروا في الفقه الزيدي بدون شك.
والله أعلم.
شكرا جزيلا على قراءتك تعليقي.. وشكرا على الرد.