يُردِّدُ كثيرٌ من المُتحدِّثينَ أثرًا نَصُّهُ: «إِنْ كَانَ الكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ السُّكُوتَ مِنْ ذَهَبٍ»، وهو منسوبٌ في كثيرٍ من كتبِ التُّراثِ إلى سليمانَ بنِ دَاودَ، عليهما السَّلامُ، تَارةً، وإلى لقمانَ الحكيمِ تارةً أخرى، دونَ أسانيدَ يُعوَّلُ عليها، وعادةً ما يَشفَعُهُ الخُطباءُ بجملةٍ من الآثارِ والأشعارِ والحِكَمِ المُرغِّبَةِ في طولِ الصَّمْتِ، والمُرَهِّبَةِ من الإفراطِ في الكلامِ، بل إنَّ نفرًا من العُلماءِ والفُقهاءِ لَيُردِّدونَ بيتَيْ أبي نُواسٍ (ت198هـ) على ما يَعرفونَ مِنْ فِسْقِه وانحِلالِه:
مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ، خَيْرٌ
لَكَ مِنْ دَاءِ الكَلَامِ
إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ أَلْـ
ـجَمَ فَاهُ بِلِجَامِ
والحقُّ أنَّ الأمرَ ليسَ على إطلاقِهِ، فإنَّ الكلامَ إنَّما يكونُ مَذمومًا إذا كانَ لغوًا باطلًا، أو خوضًا في أعراضِ النَّاسِ، أو تزيينًا لمنكرٍ، أو إشعالًا لنارِ فِتنةٍ… أو غيرِها من الأبوابِ التي يُذَمُّ فيها الكلامُ لا لِذاتِه، وإنَّما لِمَا يترتَّبُ عليه من مَفاسدَ، أمَّا في غيرِها من وجوهِ النَّفعِ؛ صدعًا بالحقِّ، أو أمرًا بمعروفٍ، أو تعليمًا لجاهلٍ، أو إصلاحًا بين الناسِ، فهو أغلى من الذَّهبِ والفضَّةِ جميعًا، بل إنَّ الكلمةَ الصَّادقةَ في مقامِ الفزعِ الذي يَفْرَقُ منه عامَّةُ الناسِ لَترقَى بصاحبِها إلى أعلى مراتبِ الجهادِ، مِصداقًا لقولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وفي المقابلِ، فإنَّ الصَّمتَ إنَّما يُحمدُ إذا كان كفًّا للَّسانِ عن لَغوِ الحديثِ، أو نَأْيًا عن المُجادلةِ بالباطل، أو وأدًا لِنارِ فتنةٍ تـُشعِلُها ألسنةٌ خبيثةٌ، أو غيرها ممَّا قد يكونُ فيه إثمُ الكلمةِ أكبرَ منْ نفعِها، ولكنَّه في مواطنَ أخرى يكونُ جريمةً متكاملةَ الأركانِ، وبخاصَّةٍ إذا ترتَّبَ على ذلك الصَّمتِ المقيتِ ضررٌ مُحقَّقٌ، كضياعِ الحقوقِ، أو خِذلانِ المظلومِ، أو استفحالِ الباطلِ، ونحوِها ممَّا سأُبيِّنُ بعضَ وُجوهِهِ إنْ شاءَ الله تعالى.
وقد تعقَّبَ دَعوى فضلِ الصَّمْتِ مُطلقًا نفرٌ من العلماءِ قديمًا، منهم الفقيهُ المالكيُّ القاضي أبو بكر بنُ العربيّ (ت543هـ) حيث يقولُ: «وكانَ الناسُ قد اختلفوا قديمًا: أيُّهما أفضلُ: الصَّمتُ أم الكلامُ؟ حتَّى كادوا يقولونَ: لو كانَ الكلامُ من فضةٍ، لكانَ الصَّمتُ من ذهبٍ، فتكلَّمْنا عن ذلك مع شَيخنا أبي بكرٍ الفِهريِّ، رَحِمَه الله تعالى، بالمسجدِ الأقصى، طَهَّره الله تَعالى، وذكرنا ما وَقعَ من الكلامِ فيه، فقال: هذا كلُّهُ خَطأٌ، الكلامُ أفضلُ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ الكلامَ من صفاتِ الله تعالىَ، عزَّ وجلَّ، وما كانَ لله مِنْ صفاتٍ للعَبدِ منها أُنموذجٌ، فإنَّها أشرفُ من صفةٍ يَتعالى الله تعالى عنها عزَّ وجلَّ، وما ذلكَ في الغَباوةِ إلَّا بمنزلةِ مَنْ يقولُ: الجهلُ أشرفُ من العلمِ، بيدَ أنَّهُ لِشَرَفِ اللِّسانِ حُفَّ بالآفاتِ، وَلِقِلَّةِ احترازِ الناسِ في المنطقِ، هَرَبوا إلى الصَّمتِ، وذلكَ بمنزلةِ مَنْ يَفِرُّ مِنَ العلمِ إلى الجَهلِ؛ لِتَعَبِ الطَّلَبِ».
ونتوقَّفُ في هذا النصِّ النَّفيسِ أمامَ أربعِ نقاطٍ:
الأولى: أنَّ ابنَ العربيّ كان مُقيمًا بإشبيليَّةَ في الأندلُسِ، ولكنَّه لم يَنْسَ المَسْجدَ الأقصى، الذي كان آنذاكَ مُغتصبًا بأيدِي الصَّليبيِّينَ المُجرمينَ، وقد توفِّي الرَّجُلُ قبلَ تحريرِهِ على يدِ صلاحِ الدَّينِ الأيوبيّ عام 583هـ، ودعوَتُهُ بأنْ يُطهِّرَهُ الله تعالى مِنْ رِجْسِ الصَّليبيِّينَ إعذارٌ إلى الله تعالى، ولعلَّها كانتْ من جملةِ أسبابِ النَّصر.
الثانية: أنَّ الرَّجُلَ سلكَ مَسْلكًا عَقَديًّا لَطيفًا في إثباتِ فضيلةِ الكلامِ، وهو أنَّه من صفاتِ الله تعالى، وكلُّ صفةٍ لله عزَّ وجلَّ يُمكنُ أنْ يتَّصِفَ بها العبدُ، مع بُعْدِ الفارقِ بينَ المَخلوقِ والخالقِ، فهي صفةٌ مَحمودةٌ مُطلقًا، مثلَ الحلمِ والعلمِ والرَّحمةِ ونحوِها، وكلُّ صفةٍ تنزَّهَ اللهُ عنْها، مثلَ العجزِ والضَّعفِ والعِيِّ، فهي صفةٌ مذمومةٌ على العُمومِ.
الثالثة: أنَّ القاعدينَ والخاذلينَ والمثبِّطينَ هم الذين يَلُوذونَ بالصَّمتِ؛ فرارًا مِنْ كُلفةِ الكلامِ، الذي قد يُكلِّفُ الشَّخصُ مالَه فيُصَادَرُ، أو منصبَه فيعزلُ، وربَّما حياتَه فيستلبُها الطُّغاةُ، ولكنَّ أهلَ الحقِّ لا يُبالونَ بما يُصيبُهم من أرْزاءٍ، ويحتسبونَ في سبيلِ الله كلَّ بلاءٍ.
الرابعة: أنَّ الصَّمتَ والجهلَ قَرينانِ، فَمَنْ يُفضِّلُ الصَّمتَ على الكلامِ كَمَنْ يُفضِّلُ الجهلَ على العلمِ، ولا شكَّ أنَّ أمانةَ الكلمةِ جزءٌ من ضريبةِ العلمِ، ووفاءٌ بعهدِ الله الذي قَطَعَهُ على العلماءِ، حيثُ قال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).
أمَّا المفاسدُ التي تترتَّبُ على الصَّمْتِ في المواقفِ الحَرِجَةِ، التي تتعيَّنُ فيها الكلمةُ المُنْصِفَةُ، فَهي أكثرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ، نعدُّ منها:
(1) أنَّ الصَّمتَ يُرَسِّخُ الباطلَ، ويقوِّي شَوْكَةَ أهلِهِ، ويُزيِّنُهُ في عقولِ الدَّهْماءِ، الذين ليستْ لديْهم حَصانةٌ ضدَّه، ومن السَّهلِ أنْ تخدَعَهُم بَوارِقُه، وهو ما اعتمدَ عليه الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ (ت241هـ) رحمه الله، الذي كانَ بِوُسْعِهِ أنْ يَسْكُتَ أمامَ موجةِ القائلينَ بِخلقِ القرآنِ، والذينَ ظاهَرَهُمْ نفرٌ من خلفاءِ بني العبَّاسِ، فَحَملوا النَّاسَ على تلك المقالةِ الباطلةِ، ولكنَّهُ صَدعَ بكلمةِ الحقِّ، وتعرَّضَ للسَّجنِ والتَّعذيبِ، فقيلَ له: لو سَكَتَّ؟ فقالَ كَلِمَتَه الخالدةَ: «إذَا سَكَتَ العالِمُ تَقيَّةً، وسَكتَ الجاهلُ لِجَهْلِه، فمتى يظهرُ الحقُّ»؟!
(2) أنَّه مَجلبَةٌ للعِقابِ العامِّ، المتوعَّدِ به عندَ تركِ إنكارِ المُنكرِ، ذلك أنَّ تركَ الأخذِ على يدِ الظَّالمِ باليدِ، أو اللِّسانِ، مُؤذنٌ بعذابٍ واقعٍ، ليس له دافعٌ، ولنْ يسلمَ منه أحدٌ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ».
(3) أنَّه أمارةٌ صريحةٌ من أماراتِ العجزِ والذُّلِّ والهَوانِ، وقد علَّمنا النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، الاستعاذةَ باللهِ من العجزِ والكسلِ، والصَّمتُ دليلٌ على العجزِ، سواءً العجزُ عن الفعلِ، أم العجزُ عن القولِ، وكِلاهُما شَرٌّ مُستطيرٌ. وفي مقامِ العجزِ عن الفعلِ، نَستحضِرُ مَشهدَ وُقوفِ تَميمِ بنِ جميلٍ بين يَدَيِ الخليفةِ المُعتصِمِ باللهِ العبَّاسيّ (ت227هـ)، بِسببِ خروجِه على الدَّولةِ، وتغلُّبِه على شاطئِ الفراتِ، فلمَّا مَثَلَ بين يديه، دعا المُعتصمُ بالنِّطْعِ والسَّيفِ، ثمَّ رأى أنْ يَسْتَنْطِقَه؛ لِيرى مدى رَباطةِ جأشِه، فقالَ: يا تميمُ، إنْ كانَ لك عذرٌ فأْتِ به، أو حُجَّةٌ فَأَدْلِ بها، فَخطبَ خُطبةً قصيرةً، ثمَّ ارْتَجَلَ قصيدةً رائعةً، مَطلعُها:
أَرَى المَوْتَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالنِّطْعِ كَامِنًا
يُلَاحِظُنِي، مِنْ حَيْثُمَا أَتَلَفَّتُ
وهي قصيدةٌ رائعةٌ بارتجَالِها وفِطريَّتِها وعَفويَّتها، فكانتْ سببًا في العفوِ عنه، وشاهِدُنا فيها قولُهُ مُتحسِّرًا على صَمْتِه وعَجْزِه:
يَعِزُّ عَلَى الأَوْسِ بْنِ تَغْلِبَ مَوْقِفٌ
يُسَلُّ عَلَيَّ السَّيْفُ فِيهِ، وَأَسْكُتُ
وفي مقامِ العجزِ عنِ القولِ نَستشهدُ بما رُوِيَ أنَّ رجلًا سألَ زيدَ بنَ عليِّ بنِ الحُسينِ (ت122هـ): الصَّمْتُ خيرٌ أمِ الكَلامُ؟ فقالَ: «أَخْزَى اللهُ المُسَاكَتَةَ، فَما أفسَدَها للبيانِ، وأجْلَبَها للحَصَرِ، واللهِ، لَلْمُمَاراةُ أسرعُ في هَدمِ العيّ من النَّارِ في يَبيسِ العَرْفَجِ، ومِنَ السَّيْلِ في الحُدُورِ»، فلا جرم أن يكون الصَّمتُ من أبرزِ علاماتِ الموتِ، فالميِّتُ لا يتكلَّمُ، ولستُ أرتابُ في أنَّ حالةَ الصَّمتِ المُخْزي، الذي تُعانِي منه الأمَّةُ دليلٌ قاطعٌ على حالةِ الموتِ السَّريريِّ، التي ليسَ لها من دونِ الله كاشفةٌ.
(4) أنَّه انحطاطٌ إلى ما دونَ الحيوانيَّةِ؛ ذلك أنَّ الصَّمتَ والإغضاءَ على هذه الجرائمِ الوحشيَّةِ، التي تكادُ السَّماواتُ يتفطَّرْنَ مِنْ فَظاعَتِها، وتشيبُ الوِلدانُ من شَناعَتِها، إنمَّا هو لونٌ من ألوانِ الانْحِطاطِ الأخلاقيِّ، والسُّقوطِ الإنسانيّ، إلى درْكٍ أسفلَ من الحيوانيَّةِ؛ لأنَّ الحيواناتِ العجماواتِ تُصدرُ أصواتًا رافضةً، إذا ما أُحيطَ بأحدِ أفرادِ قطيعِها؟!
(5) أنَّه ترجمةٌ واقعيَّةٌ لِمعنى التواطُؤِ الرَّخيصِ، أو في أدنى الأحوالِ لِمعنى الخِذلانِ الدَّنيءِ، وإلَّا فما معنى أنْ تواجِهَ الأمَّةُ حُقولَ الموتِ التي تَرويها أنهارُ الدَّمِ المُتدفِّقِ في غزَّةَ بألسنةٍ مقطوعةٍ؟! وعاقِبةُ الخَاذلِ مَقطوعٌ بها في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ».
(6) أنَّه دليلٌ على سُقوطِ الكرامَةِ، فما قيمةُ الإنسانِ إذا فقدَ كرامَتَهُ؛ رَغَبًا في مكسبٍ دنيويٍّ، أو رَهَبًا منْ زوالِ مَنصبٍ أو فقدانِ وَظيفةٍ؟ وهنا يميزُ اللهُ الخبيثَ من الطَّيِّبِ، فكمْ منْ لاعبٍ أو موظَّفٍ أو مَسئولٍ أبى إلَّا أنْ يَنتصِرُ لإنسانيَّتِهِ، فلم يُبالِ بعواقبِ مَوْقِفِه، فَخَسِرَ شيئًا مِنْ متاعِ الحياةِ الدُّنيا، لكنَّهُ رَبِحَ نفسَه وكرامَتَه، لِيعيشَ ما بَقِيَ من عُمُرهِ مَرفوعَ الهَامة، مَوفورَ الكَرامَة، ولِيعيشَ الأنذالُ الصَّامْتونَ عِيشةً رخيصةً، الموتُ أهونُ مِنها:
ذَلَّ مَنْ يَغْبِطُ الذَّلِيلَ بِعَيْشٍ
رُبَّ عَيْشٍ أَخَفُّ مِنْهُ الحِمَامُ
(7) أنَّه في كثيرٍ من الأحيانِ يعدُّ جريمةً مُتكامِلَةَ الأركانِ، فقد قسَّمَ الفُقهاءُ الجريمةَ إلى جريمةٍ بالفعلِ، وجريمةٍ بالتَّركِ، وهو ما يُسمَّى في القانونِ الوضعيِّ بالجرائمِ الإيجابيَّةِ والجرائمِ السَّلبيَّةِ، وقد عدَّ الفقهاءُ القُدماءُ مِنْ ذلك مَنْ رأى أعمَى سيتردَّى في حفرةٍ، ولمْ يقمْ بِتَنْبِيهِه، أو الأخذِ بِيَدِه، أو مَنْ رأى صبيًّا سَيَقَعُ في نارٍ، فلم يَمنَعْه، أو منْ وجدَتْ طفلًا ماتتْ أمُّه أو لا يَلتقمُ ثَدْيَها، فلمْ تُرْضِعْهُ وهي ذاتُ لبنٍ، أو مَنْ وجدَ شخصًا يموتُ جُوعًا أو عَطَشًا، فلمْ يُطْعِمْهُ أو لَمْ يَسْقِهِ، وهو قادرٌ على ذلكِ، وناقشُوا مَسائلَ عديدةً في هذا المَقامِ، مثلَ حُكمِ تنبيهِ المُصلِّي مَنْ يَراهُ سيتردَّى أثناءَ الصَّلاةِ، واتفقوا على الجوازِ، بل الوجوبِ إذا تَعيَّنَ لِذلكَ، واختلفوا في بُطلانِ صَلاتِهِ، فهل يستأنفُ صلاةً جديدةً، أو يبني عليها؟ كما ناقشوا مسألةَ: هلْ عُقوبةُ الجريمةِ بالفعلِ كَعقوبةِ الجريمةِ بالتَّركِ؟ إلى غيرها من المَسائلِ التي تدلُّ على ثراءِ الفقهِ الإسلاميِّ من ناحيةٍ، والحِسِّ الإنسانيِّ المُرهفِ الذي تمتَّعَ بها فقهاؤُنا الأوائلُ في معالجةِ هذه القَضايا القَديمةِ المُتجدِّدَةِ!
وختامًا، فأنا على يقينٍ أنَّ النُّصرةَ الحقيقيَّةَ لا تكونُ بالمُظاهراتِ، ولا برفعِ الأعلامِ واللَّافِتاتِ، ولا بِشراءِ الكُوفيَّةِ الفلسطينيَّةِ، ولا بوقوفِ دقائقَ للحِدادِ، وأجزمُ بأنَّ الدَّورَ الأكبرَ مَنوطٌ بالأنظمةِ، التي يتعيَّنُ عليها استعمالُ القوَّةِ الخَشِنَةِ والنَّاعِمَةِ معًا؛ لوقفِ هذه المجازرِ الوَحشيَّةِ، ولكنْ تبقى الكلمةُ سلاحًا مُهمًّا في معركةِ الوَعْي، وقد نَجَحتْ نجاحًا باهرًا في إحياءِ القضيَّةِ في وَعْي العَالمِ بأسْرِهِ، بعدما كادَ الخَوَنَةُ والمُطَبِّعونَ يُهيلونَ عليها التُّرابَ، وجَذبتْ آلافَ الناسِ إلى الإسلامِ؛ بعدما رَأَوْا أَعْلَى مُثُلِ الإيمانِ والصَّبْرِ والتَّضحيةِ والشَّجاعةِ، وكشفتِ القِناعَ عنْ فُلولِ الحاقدينَ والمُعوِّقينَ والمُرجِفينَ، الذينَ أخرجَ اللهُ أضغانَهمْ، كَما أماطتِ النِّقابَ عنِ التَّافِهينَ الذينَ يَرَوْنَ شَلَّالاتِ الدَّمِ المُهْراقِ، ولا يَسْتَحيونَ من إقامةِ مَهرجاناتِ السَّخافةِ، أو نشرِ أخبارِ التَّفاهةِ، أو التعليقِ بكلماتٍ رُومانسيَّةٍ باردةٍ، دُونَ احترامٍ لِجلالِ المَوتِ، ولا مُراعاةٍ للنُّفوسِ المَكلومةِ، ولكنَّها محنةٌ كاشفةٌ:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِي