في رمضان مِن السَّنة الثانية للهجرة، خرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، ونفر مِن أصحابه -رضي الله عنهم، قاصدين استهداف عير قريش القادمة مِن الشَّام، والمحمَّلة بتجارة القوم، بقيادة أبي سفيان صخر بن حرب؛ غير أنَّ أبا سفيان سمع بالأمر فغيَّر مسار القافلة، في حين علمت قريش بالأمر فخرجت بقوَّتها وهيلمانها تتوَّعد أن تستأصل محمَّدًا وأصحابه لتجرؤُّهم على هذا السلوك الذي يتهدَّد مصالح قريش التجارية.
بلغ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه -رضي الله عنهم- بدرًا، ولا زال يغلب على ظنِّهم أنَّ القافلة ستمرُّ بهم، إلَّا أنَّهم فوجئوا بقدوم زعماء قريش ومقاتليها الصناديد لقتالهم، فشاور رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أصحابه في الأمر وقد تبدَّلت الوقائع، فأبدوا له مِن الثبات واليقين والانقياد له الأمر ما أسعد رسول الله وسرَّه، فبشَّرهم بالنصر بعد أن بات قرار المواجهة هو القرار الذي ترجَّح.
هذا التباين بين إرادة الرسول وأصحابه وبين إرادة الله تعالى التي شاء سبحانه أن تمضي وجَّه عجلة التاريخ خلافًا لما كان سيكون لو أنَّ رسول الله وأصحابه واجهوا عير قريش وقافلة التجارة. يقول الله تعالى: ((وَإِذ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُم وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكُم وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجرِمُونَ))، الأنفال: 7- 8. ويقول سبحانه: ((إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيَا وَهُم بِالعُدْوَةِ الْقُصوَىٰ وَالرَّكبُ أَسفَلَ مِنكُم وَلَو تَوَاعَدتُّم لَاختَلَفتُم فِي المِيعَادِ وَلَٰكِن لِّيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كَانَ مَفعُولًا لِّيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَىٰ مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ))، الأنفال: 42.
لقد كان بإمكان الرسول وأصحابه بعدَّتهم وعتادهم أن يتغلَّبوا على عير قريش، وأن يحوزوا ما في القافلة مِن البضائع والأموال، غير أنَّ هذا الانتصار كان سيشكِّل لقريش مادَّة دسمة لتحريض العرب وقوى الشام واليمن ضدَّ محمَّد وأصحابه باعتبارهم خطرًا يتهدَّد طرق التجارة الدولية، والأمن الاقتصادي لشبكة المصالح العالمية، وبالتالي تجييش هذه القوى للانخراط في تحالف واسع للهجوم على المدينة. غير أنَّ الله تعالى دبَّر أمرًا خلاف ما أراده الرسول وأصحابه، فكان تدبيره خيرًا لهم وأصوب مع سنن الاجتماع والتغيير. فنجت العير ودخلت قريش في حرب خاسرة، نالت فيها هزيمة مدوِّية بلغ صداها أرجاء الجزيرة العربية.
هذا الحدث، يؤكِّد أنَّ الصادقين مِن العاملين لدين الله والمجاهدين في سبيله قد يقدِّروا أمرًا فيه مِن التبعات مفاسد قد تصيب دعوتهم أو وجودهم، فيصرف الله عنهم ذلك بتدبيره هو، لأنَّ (الصدق منجاة) وإن أخطأ صاحبه الحيلة، فالصدق نافع: ((هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم))، المائدة: 119.
وعبر التاريخ الإسلامي، منذ عهد النبوَّة، ظلَّ العاملون للإسلام والمجاهدون في سبيل الله بين تقدير مصيب وتقدير مخطئ، مع بقاء الصدق رائدًا لهم في جميع الأحوال، ذلك أنَّ الصواب والخطأ أمر مرتهن بالمعلومات والتقديرات والتوقُّعات وآليَّة صنع القرار والاستجابة للحوادث الطارئة والمتغيِّرات، وهذه أمور وإن توفَّر الصدق معها قد يخطئ الإنسان فيها لأنَّها ترتبط بعوامل عديدة، ظاهرة وباطنة، وحاليَّة ومحدثة. وفي جميع المحطَّات يشمل الله تعالى عباده بتدبيره المنجي، وتقديره الأصلح لهم، بما يشعرهم بلطفه وخبره، فهو اللطيف الخبير.
لقد كانت معركة بدر التي لم يقصدها الرسول وأصحابه يومًا مشهودًا سجَّله القرآن الكريم بوصفه “يوم الفرقان”، رغم عدم التخطيط له بهذا الشكل. وهذا يجعلنا نتفكَّر في الارتدادات العالمية لحدث “طوفان الأقصى”، الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بغزَّة، في العاشر مِن أكتوبر 2023م، والتي باتت تخترق مجتمعات الغرب التي عاشت في غفلة مسلوبة الإرادة ومخطوفة القرار مِن قبل الصهاينة الممسكين بعالم المال والإعلام والسياسة، لعقود طويلة، حتَّى أصبحنا نشاهد اليوم تعاطفًا عارمًا يغمر المدارس والجامعات والمحافل الفكرية والثقافية، والشوارع، والمدن، والعواصم.
لقد كان هدف (حماس) الأقصى الذي ترجوه هو حيازة عدد مِن الرهائن لإجراء عمليَّة تبادل مع الأسرى، وتعويق عجلة التطبيع التي بدأ العرب ينساقون وراءها بعمالة مفضوحة. ولم يكن في وعي القائمين بهذا الحدث العظيم أن تبلغ ارتدادات هذا الحدث بهذا المستوى على أهل غزَّة بالظُّلم والعدوان والإجرام، وعلى العالم باليقظة والصحوة والثورة والتعاطف والانتصار لغزَّة وفلسطين، وفضح الوجه القبيح للصهيونية ولإسرائيل، في أكثر العواصم تبعيَّة وإسنادًا لها!
وما كان لهذا التحوُّل ليحدث لولا هذا التوحُّش والإجرام البشع والعدوان الغاشم الذي قاده المسئولون الإسرائيليون ضدَّ غزَّة وأهلها، على مرأى ومسمع مِن العالم أجمع، ودون أيِّ تقيُّد بدين أو خلق أو عقل أو عرف أو قانون أو ضمير. إنَّه ليس بمقدور المجاهدين أن يكشفوا حجب الغيب، وإنَّما مقدورهم والواجب عليهم أن يستجيبوا للواقع مع وضع احتمالات المستقبل المحتملة، إذ لا يقين بأيديهم حولها. والواجب الأعظم هو أن يكونوا صادقين في نواياهم وانقيادهم وتسليمهم لأمر الله، وفي مبادئهم وقيمهم ودعاواهم وعهودهم وتضحياتهم، عندها فقط يأتي توفيق الله لهم، ونصرته إيَّاهم مِن حيث لا يحتسبوا، ولهذا تكرَّر في القرآن الكريم أنَّ النصر يأتي لعباده المؤمنين في حالة قريبة مِن اليأس، والظنِّ بتحقُّق الهزيمة، وانقطاع الأسباب التي بأيديهم، كي يكون النصر نصر الله لا نصرهم.
وإنَّ مؤسِّسي وقادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مِن الصدق ما أظهرته الوقائع والأحداث منذ عقود، بحيث أنَّ كلفة الطريق لم تزدهم إلَّا ثباتًا ويقينًا ورضا بقدر الله وحكمه، فلم يرتدُّوا ولم ينهزموا ولم ينكسروا ولم ييأسوا ولم يتضجَّروا ولم يداهنوا أو يخونوا. وحريٌّ بهذا التاريخ ألَّا يخذل الله تعالى أصحابه وهو الحافظ والوكيل. فبشرى لهم اليوم وقد أتى “الطوفان” على أكثر ممَّا كانوا يرجون.. مِن الأهداف والمكاسب، والله غالب على أمره، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.