أشتات

جمر الاستهداء

في أثناء جلستي معه كنت ألحظ بشدة بريق الاكتشاف في عينيه والأسى يجد طريقه بين كلماته. يحدثني شاب لم يبدأ العشرين من عمره بعد عن تجربة قام بها مع زميليه، ولم تعد تجربة بل روتين أسبوعي يجب عليهم القيام بفعله. بعد فجر كل جمعة يجلس الثلاثة في المسجد يتحلقون حول سورة ما، أو عدد من الآيات العظيمة حددوها مسبقًا وقد حرثوا معانيها، وقلبوا تفاسيرها. وفي متوسط ثلاث ساعات للمجلس يستهدون بهذه الآيات، ويثوّرونها في نفوسهم.

قال بهمس “لقد كنا والله محرومين” ويكمل فيض مشاعره “كان رمضان الماضي مختلفًا، وكأنني اقرأ القرآن لأول مرة” أحرقت مشاعره لفيف قلبي، واستوطنت كلماته داخلي، وعلى سطح التساؤلات الكثيرة طفى لماذا أكثر من غيره.

لماذا لا نقيم مجالس الاستهداء بالقرآن الكريم؟

لم يكن الحفظ يومًا كافيًا، ودليل ذلك من الواقع الذي يتخرج فيه الأف الحفاظ دون أثر حقيقي على واقع الأمة الصعب. حفظ الرسم أدنى مراتب شُعب العناية بالقرآن، وأعلاها الحركة به بين الناس، وفي سؤال الصحابي سعد ابن هشام رضي الله عنه لامنا عائشة أفضل توضيح: قلتُ يا أمَّ المؤمنينَ حدِّثيني عن خُلُقِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالت ألستَ تقرأُ القرآنَ فإنَّ خُلُقَ رسولِ اللَّهِ صلَّ اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ القرآنَ. أخرجه أبو داود.

وما بين حفظ رسمه والحركة به تكون شُعبة الاستهداء به، تدبر معانيه وتثويرها في النفس، وإيقاد جمرة الاتصال السماوي بحبل النجاة الرباني. هذا النداء، وهذا النوع من العلاقة من القرآن هي التي يجب أن تسود، وخاصة في لحظات الأمة الحرجة، مثل لحظات ميلادها الأول، والتي نعيش مثلها اليوم شيئًا من التقارب، وليس الفرق سوى كثرة العدد وقلة العدة. والعدة هنا هي العدة الربانية، وليست المادية.

الاستهداء الأول

في مخاض الأمة الأول كان الحاجة إلى أفراد اختلطت معاني الآيات بقلوبهم، وسكنت عظمة الله شغافهم، وأيقظت السور في نفوسهم جمار تشعلهم للعمل الدائم لهذا الدين. تتنزل الآيات على الحبيب المصطفى، فيجتمع إليه ثلة من الرجال العظماء، فيسكب الأستاذ الأعظم تلك الآيات على أرواحهم فتشرق وتعود قوية فتية، بعد أن نالها شديد العذاب بين شوارع مكة، فخالطت بشاشة الإيمان حرارة العذاب، فغلبت الأولى.

دار الأرقم بن أبي الأرقم عُقدت فيها أول مجالس استهداء، وفي تلك الدار على سفح الصفا ولمدة ثلاث سنوات كان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يصنع فيها خيرة رجال هذه الأمة. الأربعون الذين وتدوا لهذا الدين العظيم، شادوا اللبنات الأولى، ورفعوا البِناء، وأعادوا تعريف الكون من جديد.

ولا يزال القرآن يتنزل على قلب النبي وينقله لقلوب أصحابه بهذه الطريقة:

أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ، فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا . وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها. من تفسير القرطبي.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمي رحمه الله قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. في مسند أحمد.

وهذا الحديث للصحابي عبد الرحمن السُلمي رضي الله عنه هو أوضح ضابط في تلقي القرآن وتعلمه، وإذا ما بحثت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال الصحابة، وعلوم التابعين وتابيعهم لتبين لك بوضوح العناية بفهم القرآن والعمل به أكثر من الحفظ.

لماذا إذن انقلب الوضع إلى هذا الحال الذي نحن عليه؟

ببساطة نستطيع القول بأن هناك انقلاب لمنهجية تلقي القرآن وتعلمه لدينا، فكما قدم الصحابة الفهم والعمل، قدمنا الحفظ وضبط الرسم، وهذا مما عمت به البلوى في هذا الزمن، فتجد كثير ممن يقوم على مراكز التحفيظ والحلقات القرآنية لديه صرامة عالية جدًا في قضية الحفظ ولا يتهاون فيها قيد شعره، وفي المقابل نجد تهاون شديد في قضية الاستهداء وتثوير المعاني، ولو عدنا إلى ميزان الهدي النبوي لوجدنا الثانية أولى من الأولى، فمالكم كيف تحكمون؟

جمر الاستهداء

قُبّاض الجمر

عند قراءة بعض تراث الشيخ الدكتور فريد الأنصاري تجد في ثناياه آهات المتوجع، وبين كلماته أنين المهموم، وخاصة عند حديثه بعلاقة المسلم المعاصر مع القرآن الكريم.

لقد نادى الانصاري من خلال عدد من الكتب بإعادة النظر في علاقتنا مع القرآن الكريم، وإعطاه مساحة تفاعليه أكثر، وليست علاقة جامدة تبدأ بحفظه وتنتهي بغلق المصحف، وفي كتابه الأخير الذي كتبه على فراش موته “هذه رسالات القرآن فمن يتلقاها” كانت مشاعر الشيخ حارقة ومبكية. وفي ثاني رسائله بعنوان “مجالس القرآن منهاج الغرباء” باح بهذه السطور اللاهبة:

“أيها الشباب المُتَلَقُونَ الرسالة القرآن! هذه وظيفتكم أختصرها لكم في كلمات إن الانتساب الرسالة القرآن تلقيا وبلاغا، معناه:

الدخول في ابتلاءات القرآن، من منزلة التحمل إلى منزلة الأداء إنها تلق صادق لكلمات الله، وتعليم القلب طريقة الاشتعال بلهيبها، والصبر على حر جمرها؛ حتى يصير مشكاة بلورية تفيض بنور الله… ثم تعليم ذلك للآخرين، بتذويقهم شيئًا فشيئًا لذة المعاناة لنور الوحي، ومتعة الحياة بمكابدة القرآن!

أيها الأحبة المشوقون بحب الله … إن النور طاقة لاهبة شديدة الصعق كالبرق نعم؛ لكن القلوب الْمَشُوقَة بوميضه الوهاج حقا، تشتعل به فَتَائِلُهَا اشتعالا، وتلتهب به مصابيحها التهابا، ثم لا تحترق!

أيها الأحبة المكابدون إن الكلام المجرد لا يكفي لبلاغ رسالات القرآن، بل أمدوا قلوب الآخرين بتيار من شرايينكم المشتعلة تستضي أرواحهم كما استضاءت أرواحكم فتغمر الأنوار البلاد والعباد

فكيف سيدخل الإنسان في ابتلاءات الآية وهو يهذها هذّا دون وقوف على ما فيها من معاني، دون أن يشعل فتيل قلبه بنورها، نور يشرق على قلوب كساها الصدأ، واعتمرت بحب الدنيا، وتعلقت بشهوات النفس، فيأتي هذا النور ليحرق كل تلك الأدران وتكون الآية مصفاة القلب. ومن فعل ذلك في نفسه، وصل إلى الناس ما يجده من حرارة بين كلمات دعوته، وأدع الشيخ يوضح ذلك:

أيها الأحبة المكابدون إن اللغة عاجزة عن وصف النور! ولكن الوسيلة الوحيدة لوصفه والتعريف به، إنما هي قَدْحُ زر كهربائه، وإشعال فتيل مصباحه وإنما قلوبكم هي مصابيحه، وشرايينكم هي مجرى تياره فأشعلوا ناره بقلوبكم، واقدحوا فتيله بنفوسكم والتهبوا به التهابا حتى تكتووا بناره، وتجدوا ح تياره فإذا صافحتم الناس بحقائق القرآن بعدها؛ وجدوا حر النور في أيديكم، وتلقوا لهيبه من أنفاسكم، ووقعت عليهم كلمات الله من ألسنتكم وقوع النيازك المشتعلة وذاقوا حقيقة مكابدة القرآن كما ذقتم … فانئذ – وآنئذ فقط – يدرك الناس معنی رسالتكم.

2 غلاف جمر الاستهداء

وعن أهمية ورفعة أن يكابد الإنسان آية واحدة يتربى على معناها، وتعيد لروحه الحياة والهداية، ويكون منارًا للنور لغيره من الناس، يكمل:

أيها الأحبة المكابدون إن حُمّال هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليوم هم القليل .. وإن الحامل الجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها؛ لأنفع لنفسه وللناس – بإذن الله – من مئات الحفاظ للقرآن كاملا ، الذين يستظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله !

فلا يحقرن نفسه صاحب الآية والآيتين والثلاث… إذا كان حقا ممن قبض على جمرهن بيد غير مرتعشة وارتقى بقراءتهن إلى منازل الثريا، نجما ينير شبرا من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب “!

وهذه الفقرات مطلع الرسالة فقط، وفيها من الحرارة الشعورية ما تجد، وكل رسالته بهذا اللهيب، وأقول إن اللغة والله عاجزة عن الوصف!

مجالس القرآن كما يسميها الشيخ فريد، أو مجالس الاستهداء التي نقصدها هي شيء واحد، وهي فعلًا قبض على جمر الآيات، ومكابدة للمعاني حتى ينير القلب في ظلامات هذا الزمن. وكل من أعاد النظر في علاقته مع كتاب الله تجد منه هذه الحرارة عند الحديث عن الاستهداء بالآي. كأنه عثر على مال قارون، أو وجد نور الطريق، وللشيخ فريد كذلك مثال غاية في الإبداع يضرب به أحوال الناس مع القرآن الكريم، تصرفت فيه لاختصاره فيقول:

“إن مثل القرآن والناس في هذا الزمان، كمثل ثلاثة تاهوا في صحراء مظلمة، فرأوا نجمًا مذنبًا يسقط من السماء، فانقسموا تجاهه ثلاث فرق:

أولهم تجاهله وعدّه ظاهرة طبيعية لا معنى لها.

والثاني التقط حجرًا من النيزك وأعجب ببريقه فاحتفظ به دون تأمل في سره. وأما الثالث، فقد أيقن أن لهذا الحجر سرًا، فراح يفركه حتى تطاير منه الشرر، واشتدت حرارته حتى لامست أعماقه، لكنه صبر وواصل، فانبثق من الحجر نور عظيم، أضاء كيانه، واتصل بالسماء، فكشف له خارطة الطريق وسط الظلمات. فصاح مناديًا صاحبيه هلما إلى النور.

الثاني صدقه وسار خلفه، إذ كان يؤمن بوجود السر، وأبصره ببصيرة رفيقه. أما الأول، فلم يرَ شيئًا، وظنّ النور خيالًا، فاتهم صاحبه بالجنون، ومضى تائهًا في الظلمات.

واصل الرجلان المهتديان السير: المتبوع يرى بنور الله، والتابع يسير خلفه، لكنه يكابد وساوس الشيطان، وليس له سلاح إلا ما يأخذه من صاحبه.

وحين سأله عن سر النور، وضع المتبوع الحجر في كفه، فاحترق، ولم يحتمله، فأعاده، فأمسكه المتبوع بثبات، وقال له: نعم، هو القبض على الجمر، لكن نور الإيمان وشوق الروح يطغيان على الألم، كما صارت نار إبراهيم بردًا وسلامًا.

وهكذا، فمكابدة القرآن في زمن الفتن، وتلقيه وتدارسه في خلوات الليل، هو الطريق لاكتشاف نوره، وارتشاف فيضه الرباني، ومغادرة الظلمات إلى نور الله المبين.”

وحين تقرأ مثل هذا الكلام لأول مرة، تُعيد النظر مرات ومرات في علاقتك مع “كلام الله” الوحي العظيم، حبل الهداية الممدود من الملكوت العلوي طرفه بيد المولى سبحانه والطرف الآخر بيد من تمسك به.

ولا بد من إعادة التفكير، وتقليب الفكر في طريقة تلقينا للوحي، وإعادة مركزة الاستهداء أكثر من الحفظ، ومكابدة السور أكثر من استظهارها، والعيش مع معاني القرآن أكثر من تكرار رسمه فقط. حينذاك تعود الأمة كما كان جيلها الأول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى