طرح الباحث: ضياء السعيدي في مقابلة مطولة ضمن بودكاست“فنجان” “إذاعة ثمانية” مفهوماً لافتاً أسماه “جمهورية بلا جمهور”. هذا المفهوم يشكل جوهر نموذج تفسيري جديد للواقع السياسي اليمني، يقدم قراءة نقدية لفشل الدولة الحديثة في بيئة تهيمن عليها البنى القبلية.
وقد جاءت هذه الآراء امتدادًا لما طرحه سابقًا في سلسلة مقالات نُشرت على موقع “حكمة يمانية“، عالج فيها قضايا الدولة والقبيلة في سياق يمني.
وبينما لا تخلو أطروحاته من قدرٍ من الجرأة، فإنها تفتح بابًا مشروعًا للنقاش والنقد، خاصة أنها تستند إلى نموذج تفسيري له تبعات فكرية وسياسية كبيرة، ليس فقط على فهم الماضي، بل على تصوّر المستقبل كذلك.
وقد أحببت، في هذا المقال، أن أشير إلى عدد من الإشكالات الجوهرية التي وردت في النموذج التفسيري الذي قدّمه الباحث، سواء في بنائه النظري أو في إسقاطاته التطبيقية. وأهم هذه الإشكالات ما يلي:
1. التطور الطبيعي للمجتمع البشري يقتضي انتقاله من الأسرة إلى القبيلة، ومن القبيلة إلى الدولة. وقد رصد ابن خلدون هذه الظاهرة بدقة، وكانت ملاحظاته في هذا السياق حاسمة (1) .
في حين يفترض النموذج التفسيري للأستاذ ضياء السعيدي أن يتوقف هذا التطور في اليمن عند مستوى القبيلة، بحيث تصبح الدولة هناك “جمهورية قبائل” أو “مملكة قبائل” أو “اتحاد قبائل”، لكنها تظل حبيسة هذا المستوى، دون أن تتجاوزه.
2. لقد استعان الباحث بفشل النظام الجمهوري في كل من الشمال والجنوب لتأكيد صحة النموذج التفسيري، غير أن هذا الدليل غير كافٍ؛ فهناك دول استوردت نموذج الدولة الحديثة، وتجاوزت التنظيم القبلي، ونجحت في ذلك. ماليزيا المكونة من عدة أعراق، وتركيا في الحقبة العثمانية ثم الجمهورية، ولعلّ تجربة “رواندا” تقدّم درسًا بالغ الدلالة؛ فقد خرجت من أهوال المجزرة القبلية إلى أن تصبح واحدة من أسرع الدول النامية نموًا في إفريقيا، بفضل رهانها على الدولة لا القبيلة. وثمة نماذج عديدة لا يستع المقال للوقوف عليها.
3. لقد أهمل الكاتب الأسباب الرئيسة لفشل النظام الجمهوري ومن أهمها: حضور القبلية الطاغي، فإن أجهزة الجمهورية الصلبة (الجيش والأمن) التي ولدت في الشمال تكونت من العصائب القبلية ، وبحسب القارئ أن يدرك أن أغلبية ضباط وقادة الجيش والأمن اليمني من قبائل شمال الشمال، وهذه العصائب ساهمت في كبح النظام الجمهوري العسكري الوليد من الطغيان واستنساخ نماذج الجلادين كما في العراق وسوريا، ولكنها في نفس الوقت وأدت النظام الجمهوري في مهده ولم تتح له فرصة النمو الطبيعي، ومرد ذلك إلى ما قاله ابن خلدون : ( الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة والسّبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأنّ وراء كلّ رأي منها وهوى عصبيّة تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ وقت وإن كانت ذات عصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدها تظنّ في نفسها منعة وقوّة) (2) . وصار التوصيف الأدق للنظام الجمهوري في الشمال: (جمهورية القبائل).
4. استدلّ الكاتب على نجاح التجربة القبلية في الخليج، واعتبرها برهانًا قاطعًا على صوابية نموذجه التفسيري. غير أنه أغفل أن النموذج السياسي في الخليج يقوم – في جوهره – على تحييد القبيلة لصالح الدولة، لا تمكينها من الفعل السياسي.
وقد ساعدت الطفرة النفطية على تحقيق هذا التحييد بصورة ناعمة وغير صدامية – في الغالب.
ويُروى أن أحد مشايخ الخليج جمع رؤوس القبائل بعد أن استتب له الأمر، وقال لهم: “السياسة لنا، والتجارة لكم.”
وسواء صحت هذه الرواية أم لا، فإنها تعبّر بدقة عن واقع مركّب تم فيه تحجيم الدور السياسي للقبيلة، ونقل مركز السلطة بالكامل إلى الدولة الحديثة.
وهذه الحالة السياسية تسير وفق ما وصفه ابن خلدون في نظريته المعروفة عن تطوّر الدولة، حيث قال: (إذا استقرّت الدولة وتمهّدت، فقد تستغني عن العصبية. والسبب في ذلك أن الدول إذا استقرّت، رسخ في العقائد دينُ الانقياد لها والتسليم) (3). فما نراه في الخليج هو تجاوز للعصبية القبلية لا تثبيت لها.
5. لقد أغفل الكاتب قراءة الدول الإسلامية التي استقرت بعد أن حيدت القبيلة، مثل:
أ- الدولة العباسية التي استقرت بعد تحييد القبائل العربية من المعادلة السياسية.
ب- ومن أوضح النماذج على فشل النموذج القبلي ما فعلته القبائل العربية في الأندلس بعد الفتح؛ فقد ظلت ولاية الأندلس خاضعة لنفوذ القبائل العربية لمدة 46 سنة، واتسمت تلك المرحلة بالفوضى والصراعات القبلية، وكادت ثمار الفتح الإسلامي أن تتبدّد، لولا أن جاء عبد الرحمن الداخل، فقام بتحييد القبائل العربية (القيسية واليمانية)، وأسس دولة مركزية موحّدة.
وبعد ذلك، ازدهرت الأندلس، وواصلت الدولة الأموية هناك مسيرتها قرابة ثلاثة قرون، كانت خلالها منارةً للعلم والحضارة في العالم.
فالسؤال الجوهري هنا: هل أثبت التاريخ الأندلسي نجاح نموذج الدولة، أم نموذج القبيلة؟
ج- ولعلّ الباحث لم يُلقِ نظرةً كافية على دور القبيلة في الإطاحة بحكم بني أمية في المشرق وهي في أوج قوتها، وكيف خسر العالم الإسلامي دولة السلاجقة الفتية نتيجة الانتحار القبلي والصراعات الداخلية، مما جعل قلب العالم الإسلامي آنذاك عرضةً للحملات الصليبية.
ففي كل مرة، يظهر الخصم ذاته: القبيلة، بوصفها بنية تُعيد إنتاج الانقسام والتفكك، لا الاستقرار والوحدة.
6. لاحظتُ أن الباحث يُهوِّن من شأن الدول السنيّة التي نشأت في اليمن، ويُصوّرها وكأنها كانت تعيش على هامش التاريخ، بينما يُضفي على الدولة الزيدية مركزية خاصة، باعتبارها محور التجربة السياسية اليمنية. وهذا الطرح يتناقض مع الواقع التاريخي؛ إذ إن مجموع الفترات التي حكمت فيها الدول الزيدية لا يتجاوز قرنين من الزمن (4)، وعلى فترات متقطعة، في حين أن الدول السنيّة والإسماعيلية، التي اتخذت من الوسط الأخضر (غير القبَلي) مقرًا لعواصمها، حكمت اليمن لما يقارب الألف عام.
ويكفي أن نشير إلى أن اليمن بلغ أوج حضارته وازدهاره في عهد الدولة الرسولية، التي استمرت قرابة 220 عامًا، وكانت تُعد بحق أندلس العالم الإسلامي من حيث العمران، والعلم، والثقافة. بل إن حدود اليمن في عهد الرسوليين امتدت من ظفار شرقًا إلى المدينة المنورة شمالًا، وهو ما يعكس مدى القوة والاتساع السياسي الذي بلغته الدولة، ويُظهر بوضوح أن النموذج السني في الحكم كان أكثر استقرارًا ونجاحًا، مقارنة بالنموذج الزيدي الذي ارتبط – في أغلب مراحله – بالثورات، والانقلابات، والاضطرابات القبلية.
7. يمكن توصيف الجمهورية التي نشأت بعد الثورة في اليمن بدقة بأنها “جمهورية القبائل”؛ إذ تحوّلت إلى كائن سياسي هجين، كحال الحمامة التي حاولت تقليد مشية الغراب، فلا هي أتقنت مشيته، ولا عادت إلى فطرتها الأولى.
فلم ننجح في تأسيس جمهورية مؤسسية حقيقية، قائمة على القانون والمؤسسات، ولم تتغلّب قبيلة واحدة لتحتكر الحكم وتفرض الاستقرار – كما هو معهود في المراحل الأولى لتكوّن الدول عبر التاريخ.
وهكذا، ظللنا نتأرجح بين نموذجين:
• جمهورية شكلية مستوردة، لا تملك جذورًا اجتماعية حقيقية.
• وجمهورية غريزية، قَبَلية التكوين، لم تكتمل أدواتها ولا تبلورت معالمها. فبقي اليمن في حالة ارتباك بنيوي عميق، يتنازعه مشروعان عاجزان، لا أحد منهما استطاع أن يُنتج سلطة مستقرة تُطوّر الشعب وتنقل المجتمع إلى مرحلة أعلى من التنظيم السياسي.
8. يرنو الباحث إلى أن يتطوّر النظام القبلي ليستوعب متطلبات الدولة الحديثة، بما يسمح بالحفاظ على التراكم التاريخي، والتقدّم انتقالًا سلسًا ضمن بنية القبيلة نفسها.
ويبدو لي أن هذا الطرح يستبطن – من حيث لا يصرّح – النموذج البريطاني التراكمي، ويتبرأ – ضمنًا – من النموذج الفرنسي القائم على القطيعة.
فالتجربة الفرنسية قامت على انفصال جذري عن الماضي، وأسّست جمهوريتها الحديثة من خلال ثورة عنيفة أطاحت بكل البُنى التقليدية. أما النموذج البريطاني، فقد سار في مسار تراكمي سلمي، بدأ بعودة الملكية بعد جمهورية كرومويل، وبلغ ذروته بإقرار إعلان الحقوق (Bill of Rights) سنة 1689، في عهد الملكة ماري الثانية، وهو ما مهّد لنشوء الملكية الدستورية دون المرور بدورات عنف كبرى.
غير أن هذا الافتراض – رغم وجاهته النظرية – يُغفل عددًا من الإشكالات البنيوية في السياق اليمني، أهمها:
أ- الانقسام البنيوي في النظام القبلي اليمني: النظام القبلي في اليمن منقسم على نفسه، ولم تستطع قبيلة واحدة أن تحسم الصراع لصالحها لتدخل في مسار “الدولة الطبيعية”، أو ما يسميه ابن خلدون “مرحلة الرفاه والترف”. فلا حاشد تغلبت، ولا بكيل استقرت، بل ظلّت العصبيات تتناحر وتُفني فرص الاستقرار السياسي. فلا يوجد قبيلة حسمت الصراع لصالحها، ومن ثم تتوجه جهود التحديث إلى تلك القبيلة، وندخل معها في حوار تحديثي تراكمي.
ب- القول إن تحديث القبيلة يمكن أن يحل محل الدولة الحديثة يتجاهل الفارق البنيوي الجوهري: القبيلة تقوم على رابطة الدم والعصبية، بينما الدولة تقوم على القانون والمؤسسات. الجمع بينهما ليس “تحديثًا”، بل هو إعادة إنتاج العصبية القبلية بطلاء حديث، وهو عين ما حاولت أن تعمله جمهورية القبائل التي جاءت بعد 26 سبتمبر. وإذا كانت القبيلة هي ما قاد إلى الفشل في صيغة الجمهورية، فكيف تكون هي الحل عندما نُعيد تسميتها “قبيلة متطورة”؟
9. ينظّر الكاتب – في نموذجه التفسيري – غافلاً عن الكتلة السكانية الأكبر في اليمن، (الكتلة الشافعية الرعوية التي تمثل 80% من سكان اليمن) وهي الكتلة التي لا تتعامل بمنطق القبيلة، بل تعوّدت عبر قرون طويلة على لغة الدولة.
هذه الكتلة، الممتدة في الوسط والجنوب والساحل التهامي، تنحاز تاريخيًا إلى مشروع الدولة المركزية، وقد خبرت الاستقرار في ظل دولٍ سنيّة، بينما رفضت منطق الدولة الزيدية، لأنها – ببساطة – تمثل منطقًا قبليًا عسيرًا على الفهم خارج بيئة العصبية.
وهنا تكمن جذور الصراع الزيدي–الشافعي، فهو ليس صراعًا مذهبيًا صرفًا، بل هو – في جوهره – صراع بين لغتين سياسيتين:
• لغة القبيلي: الذي يرى في السلطة امتدادًا لقوته، ويتمرّد عليها إن خالفت مطامعه.
• ولغة الرعوي: الذي يرى في الدولة ضمانًا للأمن والاستقرار، ليستطيع التفرغ لزراعته ومهنته دون أن يُزَج في حروب لا تعنيه.
أما أنموذج الباحث التفسيري، فيتمحور حول تلك الكتلة الأقل عددًا، التي منحتها ظروف انهيار الدولة السنية حضورًا سياسيًا مضخمًا، رغم أنها كانت – في أغلب الدورات التاريخية – هامشية التأثير مقارنة بالكتلة الرعوية الغالبة.
10. لاحظتُ كذلك أن الباحث – خارج سياق هذه الحلقات – يحتفي بأطروحة وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة”، لأنها تخدم أنموذجه التفسيري من خلال جزئية نقد الدولة الحديثة.
لكن هذه الاحتفاء يذكّرني بوسائل الحج قديمًا: إذ كان الناس يحجون إلى مكة بالإبل، ثم جاءت السيارة بكل عيوبها، ثم الطائرة بكل مزاياها ومشكلاتها.
ووفقًا لأنموذج الباحث، يبدو كأن المطلوب هو العودة إلى السير على الإبل مجددًا، لأن السيارة بها عيوب! أي أن الباحث يدعو إلى العودة للنظام السياسي ما قبل الدولة الحديثة، لأنه أقل عيبًا، وهذا يُعدّ نكوصًا حضاريًا لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج المأساة ذاتها. فالمؤسسات الحديثة، بما تحمله من تعقيد وبنية وظيفية، لا يمكن أن تُحمَل على ظهر “الإبل السياسية”، أي على كيان القبيلة، لأنها ببساطة غير قادرة على استيعابها أو تشغيلها. والنتيجة الحتمية لمثل هذا الطرح هي الانهيار أو الاستنزاف، لا الاستقرار ولا البناء.
11. التفتّ الكاتب سريعًا إلى دور العامل الخارجي في الأحداث المعاصرة، لكنه اختفى تمامًا من النموذج التفسيري الذي قدّمه، ولم يُحضره في سياق فهم كيف ساهم هذا العامل – الدولي والإقليمي – في إفشال الدولة الناشئة في اليمن، بل وفي عموم العالم العربي.
فالواقع أن الغرب اتخذ قرارًا استراتيجيًا بهدم أي نموذج نهضوي ناجح في المنطقة، وهو قرار ممتد منذ أيام دولة محمد علي باشا في مصر، مرورًا بكل المحاولات الحديثة لبناء دولة قوية، رغم اختلاف خلفياتها الفكرية والاجتماعية.
سواء أكانت تلك المحاولات نابعة من خلفيات قبلية – كالمهدي في السودان، والخطابي في المغرب، والسنوسي في ليبيا – أو ذات خلفيات أيديولوجية – كالقومية، واليسار، والليبرالية – فإن العامل الخارجي كان حاضرًا بقوة لإفشالها أو تحجيمها.
صحيح أن العامل الخارجي ليس “على كل شيء قدير”، كما تروّج له بعض نظريات المؤامرة، إلا أن دوره كان حاسمًا في العديد من اللحظات المفصلية؛ إذ رجّح كفة أطراف داخلية على حساب أخرى، وغالبًا ما كانت تلك الأطراف مرتبطة بمشروع خارجي – غربي في الغالب – يُسند إليها مهمة حراسة التخلف، ومنع نهوض أي نموذج سياسي مستقل وفاعل في المنطقة.
12. هناك العديد من الأخطاء في المعلومات التي أوردها الكاتب في الحلقة، لكنني على ثقة بأن قراءة الباحث المتجددة ستصحّحها تلقائيًا. لذا، آثرت أن تتركّز ملاحظاتي حول جوهر النموذج التفسيري الذي قدّمه، والذي ابتدأ بمقدّمة صحيحة: فشل النظام الجمهوري، لكنه انتهى إلى نتيجة خاطئة – في نظري – وهي الدعوة إلى العودة للنظام القبلي.
وهذا هو لبّ النموذج الذي قدمه الباحث في المقابلة وكتاباته السابقة، والتي تنحو نحو تصوير القبيلة كبديلٍ محتمل أو طبيعي عن الدولة الحديثة.
13. أشار الكاتب إلى أن طبيعة التنافس القبلي في اليمن تدفع الأطراف المتنازعة إلى استقدام شخصية محايدة من خارج الصراع القبلي للفصل في النزاع، وهذه بحد ذاتها إحدى المشكلات البنيوية في النظام القبلي اليمني. فعودة هذا النظام تعني – بالضرورة – عودة الإمامة الهاشمية الشيعية، إذ إن الإمام الهاشمي الشيعي ليس من بكيل ولا من حاشد، فيُنظر إليه كـ”الفاروق” بينهما.
وقد عانى اليمنيون طويلًا من التجربة السياسية الزيدية التي تقوم على شرعنة الفوضى من خلال إباحة الخروج المسلح لكل من توفرت فيه شروط الإمامة من آل البيت.
كما أن العقيدة الزيدية، بانطوائها على نزعة عنصرية واضحة، قدّمت عبر تاريخها تجارب سياسية مشوهة، بدأت بالإمام الهادي، مرورًا بعبد الله بن حمزة، ثم الدولة القاسمية، وانتهاء بدولة بيت حميد الدين ونثرة الحوثي الأخيرة.
ولا يُمكن إغفال أن التحالف الهمداني مع الإمامة الهاشمية الزيدية كان دائمًا مشوبًا بالتربص والشك، وشكّل نوعًا من التخادم المتوتر الذي أضر بجميع الأطراف: الهاشميين، وقبائل همدان، وبقية المكونات اليمنية. إذ اجتمعت ثقافة الفيد القبلي مع النزعة العنصرية لدى الهاشمية الشيعية لتُنتج نموذج الحكم الزيدي، الذي سام الناس سوء العذاب، وجعل من التحالف الهمداني–الهاشمي سلسلة لا تنتهي من الانقلابات، والتربص، والحروب.
14. قدر اليمن أن لا تعود إلى القبيلة، بل أن تتجه إلى الأمام نحو الدولة العاقلة، الدولة التي تُبنى على التوافق والعدالة والمؤسسات.
لكن هذه الدولة لن تنشأ في ظل هذه الفوضى العارمة والتدخلات الأجنبية التي أفقدت الجميع القدرة على البناء والحركة.
وحتى يحين ذلك اليوم، ينبغي على المثقف ألا يُنظّر للعودة إلى نموذج تجاوزه التاريخ والبشرية، بل أن يفتح الأذهان والخيال لنماذج مستقبلية، تستفيد من الممارسات الناجحة – ولو في دول العالم الثاني والثالث – وتستلهم منها أدوات التقدّم، لا آليات الارتكاس.
15. ختامًا: لست من المتحمّسين للدولة الحديثة على إطلاقها، وأجدني متعاطفا مع نقد “وائل حلاق”، لكنني أراها – رغم ما تحمله من عيوب جوهرية – أفضل النماذج المتاحة حاليًا. فبدائلها، خاصة في سياقاتنا، لا تنسجم مع المنظومة الدولية المهيمنة، ولا تمتلك القدرة على بناء مؤسسات مستقرة أو علاقات قانونية متماسكة. وإن كان الخروج من عنق زجاجة الدولة الحديثة ” الغربية ” هدفًا مشروعًا، فإنه لن يتحقق إلا من خلال تدافع عالمي، فكري وميداني، يفرز نموذجًا أكثر عدالة وإنسانية.
أما القفز في الفراغ، دون إطار بديل واضح، فليس واقعيًا، كما أن العودة إلى القبيلة تمثّل سقوطًا في وهدة الفوضى، لا سبيلًا إلى الاستقرار أو التحرّر.
إن اليمن اليوم يختزن جمهورًا واسعًا يتطلع إلى الدولة والجمهورية، وينبذ الإمامة والمشاريع الجهوية والقبلية التي حولته إلى مجرد بنادق للإيجار. ومن هنا، فإن مسؤولية المثقف أن يتناغم مع هذه التطلعات، لا أن يفترض لها فرضيات تجاوزهـا الزمن. فنحن في بلد يتوفر على جمهور بلا جمهورية.
الهوامش:
- ينظر : مقدمة ابن خلدون 1/193، أصل نظام الدولة والأسرة والملكية الفردية، فريدريك إنجلز، ص:130.
- مقدمة ابن خلدون 1/206.
- مقدمة ابن خلدون 1/194.
- المتاهة، بلال الطيب، ص67.
- ساهمت الدولة العثمانية بتدميرها دولة السنة اليمنية، ثم انسحابها من اليمن بخلق حالة فراغ، استطاع التحالف الهمداني الهاشمي ملأه بسرعة في عهد الدولة القاسمية، وفعل العثمانيون ما كان يسميه المؤرخ ابن الأثير (إزالة المانع).