رأيت هذين الكتابين أول ما رأيتهما وقد استفزني عنوانهما، بل إنَّ ظنّي أبعد النّجعة وظنّ أنهما في علمٍ غير الأدب لولا أن وقعت عيني سريعًا على العِنوانَين الفَرعيين، ففاء الظن إلى مهجعه.
ولستُ مستهترًا (1) بالنقد الحديث ومدارسه إلا أنّ هذه المرايا قد دفعتني إلى أن أنظر في مقدمتها لأسبر حقيقة مقصده منها، وما كان أن اطلعتُ على المقدمتين إلا وعزمتُ على قراءة الكتابين، ولقد كان بين العزم على القراءة والقراءة قرابة سنة، أعاننا الله على أنفسنا!
أما المرايا المُحدّبة فإن المؤلف قصد منه أن يُطلع القارئ على حقيقة الحداثيين العرب وإلى إعجابهم الزائف بنقد الحداثة وما بعد الحداثة، وأن هؤلاء اللاهجين بضرورة التجديد، لم يفهموا هذه المذاهب التي تقلدوها بله أن يخرجوا منها – بزعمهم – حداثة عربية!
وتعرّض المؤلف لاستعراض البنيوية والتفكيك وما قبلهما من ممهدات ليبرز قصورهما وضعفهما في تحليل الأدب، أو ما يسمونه (إضاءة النص)، ولا أخفيكَ أنّي قد عانيتُ عناء شديدًا في فهم الكتاب، بل إنّي كثيرًا ما تعوذت من الجهل وبلادة الفهم من عِظم ما لاقيتُ من أهوال في فهم الكتاب، هذا والمؤلف يدّعي – وقد صدق – أنه يقرّب هذه المذاهب إلى عموم القراء، فكيف بنا إذا قرأناها من مصادرها، وهل كُتبت لتصير عزائم يرقي بعضهم بها بعضًا في نواديهم الحداثية!
أقول هذا لا لأقول لك إنَّ كتاب (المرايا المحدبّة) كتاب عسير، لكنّي لستُ من أهل هذه الثقافة الغربية فأدرك كثيرًا من مقولاتهم، والكتاب مبني على ذلك.
ولكن قبل أن أنتقل إلى الحديث عن المرايا المقعرة أشير إلى شعورٍ انتابني وأنا أقاسي المرايا المحدّبة، وهو: بأيّ عقلٍ انتقد هؤلاء المحدثون البلاغة العربية في عهد المتأخرين وأعني بهم السكاكي ومن تابعه وقالوا إنها بلاغة عقيمة ومناقشاتها سقيمة، ولا تفيد في تحليلٍ نصّ ولا بيان مزاياه، ثمّ أشاروا إلى هذه المذاهب الحداثية وتقلدوها واتخذوها شعارًا، ورأوا أنها أجدر على إنطاق النص وإبراز حسنه، ولعمر الله لقد ضلّوا وجاءوا ظلمًا وزورًا.
وإذا انتقلنا إلى المرايا المقعرة انتقلنا إلى رياض تراثنا بظلاله الوارفة، ولقد قرأتُ الكتابين في إثر بعضهما، فلّما انتقلتُ من قال (ياكبسون) وقال (دريدا) وقال (بارت) إلى قال (الجاحظ) وقال (عبد القاهر) وقال (حازم) فلكأني انتقلتُ من النار إلى الجنّة، ومن شقاء الجهل والجنون إلى نعيم العلم الذي يُكتب بماء العيون.
إنَّ هذه الدراسة كما قال مؤلفها “محاولة لتحديد نقطة ما في تاريخ الفكر البلاغي العربي، ثريّة بما فيه الكفاية، لنتخذ منها نقطة انطلاق لتطوير نظرية لغوية ونظرية أدبية عربيتين، نقطة بداية نستطيع أن نقف فوقها في ثقةٍ قائلين: نعم، هنا نقطة بداية كانت كفيلة، لو لم نُدر لها ظهورنا في قرون التراجع الطويلة ثم في عصر القطيعة الحداثية مع التراث، بأن تطور نظرية لغوية وأدبية لا تقل إبهارًا وثراءً عن النظريات الغربية التي انبهرنا بها”(2).
والمؤلف في هذا الكتاب أراد أن يثبت أن تراثنا به كل مقوّمات نظرية لغوية وأخرى أدبية، وتتبع أسس النظرية اللغوية الحداثية التي لهج بها العرب الذين بدلّوا جلودهم واستوهبوها من غيرهم مُعجَبين صاغرين= تتبع هذه الأسس وأثبت أنّ في تراثنا ما هو أكثر نضجًا منها، وأنها لم تأتِ بجديدٍ فليُلتَفتُ إليه ويترك ما عندنا، ولكنها التبعية والصَغَار. وكذلك فعل في أسس النظرية الأدبية.
وممّا راقني في هذا الكتاب وأعجبني أنّ المؤلف رحمه الله قد نظر إلى تراثنا وتراثه نظرَ المُعجب المنبهر، وأنه كان ينبهر بمنجزات علمائنا انبهارًا لا يدركه – غالبًا – المشتغلين بهذه النصوص لاعتيادهم إياها، فقد نشأ الدكتور وتعلّم في أحضان الثقافة الغربية وتخصص في الأدب الإنجليزي، ثمّ لمّا عاد لإرثه العظيم وقف أمامه مُعظِّمًا، كغير المسلم إذا اعتنق الإسلام فأخذ يشعر ما اعتدناه وألفناه.
وهذا الذي ذكرتُ لك كان له أثر آخر في الكتاب لم يُعجبني، وهو أن الدكتور رحمه الله أخذ معظم آرائه عن البلاغة وقضايا الأدب من المعاصرين وتلقفها مُسلِّمًا في الغالب، وهذا أثر بُعده عن التراث وقلة خُلطته بمصادره كلها، فمن ذلك أنّه يرى السكاكي ومن بعده هم رواد الانحطاط في علم البلاغة، وهو في هذا متابعٌ لمن ينقل عنهم، ولو تأمل – رحمه الله – لعلم أن بُغيته كانت بهم أقرب لو صبر على ذلك. على أنّي لا أعيبُ عليه ذلك وهو ليس من أهل التخصص في الأدب العربي والبلاغة، فإنّ بعضًا من هؤلاء المتخصصين قد قالوا أشنع من ذلك وأقبح، فليس هو عندي مفندًا في ذلك الأمر.
وبعدُ، فهذه “الدراسة في جوهرها صرخةٌ من القلب، صرخة استغاثة موجهة للمثقفين ورجال الفكر العرب بقدر ما هي رفض لما يحدث حولنا”(3).
الهوامش:
- أي شغوفًا مهتمًا، لا المعنى الدارج لها.
- المرايا المقعرة، صـ489 – 490.
- نفسه، صـ486.