أشتات

سوريا.. المأساة والأمل والدرس

سوريا المأساة:

منذ تمكُّن حزب البعث العربي، الذي تغلَّبت على قيادته العناصر النصيريَّة بقيادة حافظ الأسد، لم تر سوريا النور، ودخلت في سرداب مظلم مِن الظلم والإجرام، والفقر والخوف، وجمود الحياة العامَّة، وهيمنة القبضة الأمنية والاستخباراتية. وهي حالة كشفتها سجون النظام التي حرَّر الثوَّار أصحابها ليجدوا أناسًا دفنوا في الحياة، فخرجوا بعد أكثر أربعين أو ثلاثين عامًا وهم لا يعرفون عن الواقع شيئًا أبدًا، وكأنَّما حفظت هياكلهم وأرواحهم في توابيت مغلقة لا ينفذ إليها الضوء والصوت.

وكانت ثورة الشعب السوري عام 2011م، عقب مذبحة حماة التي قام بها النظام في مطلع الثمانينيَّات مِن القرن الماضي، هي ثاني محطَّة لخبرة السوريين مع نظامهم الطائفي الإجرامي، الذي حارب حقوقهم ومصالحهم ووجودهم وهويَّتهم. فقد تعامل معها نظام بشَّار الأسد بالمذابح والقتل والتنكيل بمختلف الصور، مستقدمًا المرتزقة والمليشيات الطائفية مِن خارج سوريا لتركيع شعبه وتعذيبه، بل ذهب لإدخال احتلال أجنبي لروسيا وتسبَّب في خلق فوضى أتاحت المجال لقوَّات احتلال دولي آخر، فسكنت القواعد العسكرية الروسية والأمريكية في سوريا، وتوزَّعت الجغرافيا الشامية وفق مصالحها ونفوذها.

ومرَّ (13)  عامًا على الشعب السوري وهو يعيش أكبر مأساة مروِّعة، حيث استخدمت ضدَّه جميع الأسلحة المحرَّمة دوليًّا والفتَّاكة، بما في ذلك السلاح الكيميائي. ودمَّرت مدنه ومنازله ومصالحه، وهجِّر وشرِّد واعتقل وعذِّب واختطف الآلاف مِنهم دون رحمة أو نازع مِن ضمير. وللنجاة مِن هذه المأساة التي تسبَّب بها النظام لشعبه خرج السوريُّون فارين بأرواحهم، لتكتمل المأساة في المهجر شدَّة وشقاوة وموتًا يتخطَّفهم في طريق بحثهم عن الأمان، إمَّا غرقًا أو جوعًا أو برصاص حرس الحدود بالدول الأوربِّية.

سوريا الأمل:

لم ييأس السوريون رغم كلِّ ما حلَّ بهم، وظلَّ الكثير مِن أبنائها صابرين محتسبين، يكابدون المشاق وهم يتطلَّعون ليوم موعود سيحلُّ بنظامهم المجرم كما هي سنَّة الحياة. كافحوا وبنوا قدراتهم، سواء في المهجر أو في المناطق التي تمكَّنوا مِن تحريرها بأيديهم ومِن خلال انتزاعها بالقوَّة مِن النظام، وصمدوا وهم يحملون أحلامهم في جوانحهم.

وفي مهجرهم، أظهر السوريون كفاءتهم وقدراتهم ومواهبهم وذكاءهم، فانخرطوا في التعليم والعمل والتجارة والاستثمار، وحقَّقوا نجاحات عدَّة رغم الصعاب والعقبات، ولم يفقدوا الأمل في عودتهم لوطنهم وديارهم. وظلَّ السوريون يحملون همَّ أهلهم وإخوانهم في الداخل، حيث توقَّفت عجلة الحياة ومصادر العيش وتضاءلت قدرة المواطنين على مواجهة أعباء الاحتياجات نظرًا لهبوط العملة وفشل الدولة، ما جعل كثيرًا مِن أسر الداخل تعتمد على أبنائها في الخارج. في حين كان أبناء المحرِّر يقدِّمون نموذجًا لسوريا المستقبل، سوريا البناء والتعمير والحرِّية والكرامة، سوريا التآخي والألفة والتعايش، سوريا الأمن والسلام.

ولكنَّ الأمل لا يتحقَّق دون تضحية وفداء، وهو ما جعل خيرة شباب سوريا يتدرَّب ويؤهِّل نفسه للمعركة الفاصلة، متسلِّحًا بالإيمان والهويَّة واليقين. ولسنوات عدَّة، قام شباب المحرَّر بالتدريب وبناء التحصينات وتصنيع أسلحتهم وذخائرهم، وابتكار الخطط وإبداع الوسائل، واختراق جبهة النظام مِن خلال الوصول إلى أبناء الشعب وتطمينهم على مستقبلهم ومصالحهم. وهو ما انعكس فعليًّا أثناء العمليات العسكرية التي بدأت مع نهاية شهر نوفمبر الماضي لتحرير سوريا، انطلاقًا مِن مناطق الشمال، حيث تمكَّنت خلال أيَّام معدودة لتحقيق تقدُّم كبير جدًّا وغير مسبوق، وصولًا إلى حصار دمشق خلال أقلِّ مِن نصف شهر!

لقد تحرَّك الشباب في سوريا -بعد استلهام تجربة غزَّة- نحو الجبهات ببأس شديد وإرادة صلبة وعزيمة لا تخور، فانكسرت أمامهم الأغلال والقيود والحواجز، وذهبت هيبة النظام وأسلحته حيث أبدوا استعدادهم للشهادة أكثر مِن استعدادهم للبقاء!

علمتنا سوريا:

ما جرى في سوريا أحداث لا يمكن أن تحيط بها كلمات وجمل، فهي كبيرة في معانيها وأبعادها وآثارها، وسوف تشكِّل منعطفًا في تاريخنا العربي والإسلامي، وستلهم شعوبنا العربية والإسلامية بدروس وعبر.

فقد علمتنا أحداث سوريا الأخيرة أنَّه لا مستحيل مع الإصرار، مع الثبات والجدِّ والاجتهاد، مع بقاء الأمل والعمل بلا ملل أو كلل، مع الصبر والنفس الطويل، مع التخطيط السليم والأخذ بالأسباب واغتنام الفرص.

علمتنا أحداث سوريا الأخيرة أنَّ الأرواح البريئة والأنفس الطيِّبة لا تذهب هدرًا، وأنَّ الله تعالى يتولَّى ثأرها والانتقام لها، فإنَّ الله تعالى مولى مَن لا مولى له، ونصير الضعفاء والمظلومين، وأنَّ قدرته تطول المتجبِّرين والمجرمين فتحصدهم حتَّى يكونوا كهشيم المحتضر.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الأنظمة الطاغوتيَّة المتجبِّرة لا تملك أسباب البقاء في ذاتها، ولا أسباب القبول في بيئتها، فهي لا تقوم على مصالح الشعوب، ولا توفِّر احتياجات المجتمعات، ولا تضمن حقوق النَّاس، فتكون مبتورة عن بيئتها لا يثبِّت أركانها غير القوَّة والبطش، فإن فقدا تهاوت كما تتهاوى قلاع الرمال مِن زحف مياه البحر الهادئة على الساحل.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الظالمين بعضهم أولياء بعض، فحين تقدَّمت قوى الثوَّار والأبطال للتحرير انتفضت أنظمة المنطقة التي كانت تهدِّد “بشَّار” بالأمس للتحذير مِن الثوَّار، ونُصحِ “بشَّار” بما ينبغي عليه القيام به للحفاظ على بقائه وبقاء نظامه، فاتحة له أبواب النجاة إن رغب.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ التجربة والخبرة كفيلة أن تحدث العظة والعبرة للعقلاء، كي ما يتجاوزوا أخطاءهم ويراجعوا أفكارهم ويعدِّلوا مواقفهم ويغيِّروا سلوكيَّاتهم، وألَّا يجمدوا على حالهم البشري الاجتهادي فيجعلونه ثابتًا ومقدَّسًا إذا ظهر عواره وخلل وفشله في تحقيق المراد، فقد حسَّن الثوَّار وأحسنوا في طريقة ظهورهم وتحرُّكهم ومخاطبتهم للمجتمع السوري، بكلِّ فئاته وطوائفه وملله.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الحليف الصادق نعمة لا تقدَّر بثمن، وأنَّ المصير المشترك يفرض قدرًا مِن التعاون والتنسيق والتحالف، فتركيا التي عملت منذ وقت مبكِّر على استيعاب اللاجئين والمهجَّرين السوريين ظلَّت وفيَّة للقضية السورية، وتعمل وفق المتاحات الممكنة دبلوماسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وأمني، ولمـَّا وجدت الفرصة مؤاتية للسوريين تركت لهم حرِّية الحركة والتقدُّم نحو تحرير وطنهم وبلدهم المغتصب.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الحاكم العاجز يستعين على ظلم شعبه وإذلاله وإهانته بالأغراب والأجانب والدخلاء، وأنَّ الأقليَّات الطائفية (الشيعية) بعضها لبعض نصير وإن اختلفت مذاهبها، لأنَّها فاقدة لروح التعايش والتشارك والتعاون، فهي تحمل أحقادًا تاريخيَّة وضغائن عقائدية طائفية ونفسيَّة عدوانية، وليس لديها مشروع بنائي وعمراني وتنموي وحضاري. فخلال العقدين التي هيمنت فيهما الطائفية الشيعية على بلداننا العربية لم تقدِّم شيئًا غير المليشيَّات والمذابح والانتهاكات، والفساد المالي والإداري والوظيفي، والعمالة للقوى الأجنبية الأمريكية والروسية، وتأمين العدو الصهيوني، فهو لم ير في الأسلحة الكيميائية والصواريخ البالستيَّة والبراميل المفتجِّرة خطرًا عليه إلَّا حين تقدَّمت القوى الثورية الحرَّة! ورغم حرب غزَّة التي استمرَّت لأكثر مِن عام لم يشارك نظام “بشَّار” المقاومة الفلسطينية أيَّ جهد حربي وعسكري رغم أنَّه تجرَّأ ضدَّ شعبه ومارس عليهم كلَّ ألوان الحرب!

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الباطل والظلم أسرع زوالًا وانهيارًا، وأنَّ الكذب والدجل لا يطول أمده، فـ”محور المقاومة” الذي يمتدُّ مِن طهران وحتَّى بيروت لم يصمد أمام الكيان الصهيوني لأكثر مِن شهرين، فيما صمدت غزَّة وحدها لأكثر مِن عام وشهرين حتَّى الآن، دون مدد ولا سند، وعوضًا عن إسناد “حزب الله” في لبنان إزاء العدوان الإسرائيلي عليه تداعت الجماعات الشيعية للمنطقة لإسناد نظام “بشَّار” ضدَّ شعبه.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الربيع مهما تآخَّر قادم، وأنَّ الصبح مهما تباطأ قادم، وأنَّ الفرج بعد الشدَّة، واليسر بعد العسر، وأنَّ الحياة ليست لونًا واحدًا أو ظرفًا واحدًا، وأنَّ أقدار الله تعالى تضحك وتبكي، وتحزن وتفرح، وتوجع وترضي، ذلك أنَّ دوام الإنعام على البشر يضعفهم ويفسد تأهُّلهم للعروج في درج الترقِّي والصعود، لهذا كان ولا بدَّ مِن البلايا والمعاناة التي تقوِّي إرادتهم وتشدَّ عزيمتهم وتوقظ نفوسهم.

علمتنا أحداث سوريا أنَّ الأمَّة لا زالت جسدًا واحدًا يتعاطف ويحنو على بعضه البعض، فأخبار الانتصارات تشرئب لها نفوس المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وتتناقلها مجالسهم وقنواتهم ورسائلهم، حتَّى أصبحت صور المعارك تغمر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الاتصال المتعدِّدة، مِن المحيط إلى المحيط. وهذه الصورة مِن التجاوب والتفاعل مع أحداث سوريا تؤكِّد وحدة الأمَّة وتآلف قلوبها وتطلُّعها إلى يوم التحرير والخلاص في كلِّ أوطانها، فإنَّ الهمَّ واحد والقضية واحدة.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى