أشتات

شكري عيّاد في سيرته: “العيش على الحافة”

أوّل ما عرفتُ شكري عيّاد (1921 _ 1999)، أي أوّل ما قرأتُ له، عرفتُه في كتابه: (كتاب أرسطوطاليس في الشِّعر)؛ إذ قام بتحقيق ترجمة متَّى بن يونس، ثمَّ ترجم كتاب أرسطوطاليس ترجمة جديدة؛ رجا فيها أن تكون قريبة من الأصل القديم، ثمَّ درس ما كان لهذا الكتاب من أثر في البلاغة العربيّة واقفًا عند أصحاب الدرس البلاغيّ، وعند من تناوله من التراجمة والفلاسفة المسلمين مبيّنًا مساربَه في الفكر البلاغيّ والنقديّ عند العرب. وقد كان شكري عيَّاد في كتابه هذا جليلَ القدر، رصين المنهج، لا يقول القول إلّا بعد أن يقف على مأتاه، ويحيط بموارده علمًا؛ ولا يدعه حتّى يجلوه بلغة مُحْكَمة البيان ، تُحسن الإعراب عن دقائق الفكر. وكان له من قبله دراسة تناول فيها: (وصف يوم الدين والحساب في القرآن)؛ كتبها بإشراف أستاذه أمين الخولي متبعًا منهجه في النظر الأدبيّ في الكتاب الكريم. فتمّ له بهذين الكتابين، وهو يؤلّفهما، أن يملأ يده من التراث العربيّ، وأن يسير فيه على بصيرة من أمره، وأن يزاول النقد الأدبيّ مزاولةً أصيلة. ومع استيعابه التراث العربيّ كان قد تمكّن من اللغتين؛ الإنكليزية والفرنسيّة، واستقامت له آدابهما، وصار يترجم عنهما. وبقي على نهج الرعيل الأوّل يجمع بين القديم والجديد جمعًا يصطفي أحسنَ ما فيهما. وكلُّ من قرأ شيئًا له لا تُخطئ عينه موضعَ الرصانة والمتانة في الفكر وفي البيان.

بنى شكري عيَّاد مكانتَه على النَّقد والدرس الأدبيّ؛ لكنّه زاول معهما كتابةَ القصّة القصيرة على النحو نفسه من الرصانة والمتانة، وتوخّى لها طرائقَ من الرمز، والكناية، وأشاع فيها منحى من التأمّل في الحياة ومجراها فكتب: (كهف الأخيار)، و(رباعيّات) و(طريق الجامعة) وغيرها. وليس في ما كتب ما ينطوي على بوح ومكاشفة؛ فلقد زاول النقد والدرس الأدبيّ مبتعدًا عن كشف صفحة نفسه، وزاول القصَّة مختبئًا وراء شخوصها، وبقي حتّى أُخريات حياته يُحكم إهابه على خبيئات نفسه؛ غير أنّه رأى، وقد قارب زيتُ السراج أن ينضب، أن يكتبَ سيرته، وأن يأخذ بيد قارئه إلى كتاب حياته، وأن يُطلعه على قديم صفحاته، وأن ينشئ: (العيش على الحافة).

كان أدبُ السيرة قد شهد آثارًا باقية على الزمن لصدقها، وصراحتها، ولجرأتها الجريئة، وللفكر الذي يسري في نسيجها؛ كمثل اعترافات القديس أوغسطين، واعترافات جان جاك روسّو. وشهد الأدب العربيّ الحديث ألوانًا من أدب السيرة؛ تجيء أيّامُ طه حسين في طليعتها لما صيغت به من لغة ثريّة؛ خيالًا وعاطفة ونغمًا، ولما اتّخذت من مناحي التصوير الدقيق الذي يأخذ بمجامع الألباب. ولكنَّ طه حسين لم يذهب مذهب روسّو في الصراحة الصريحة، ولم يقترب من ظُلمات النفس، ولم يُرد للناس أن تعرف إلّا منابعَ القوّة لديه، وهو لا يذكر العقبات التي وقفت في دربه إلّا ليُبيّن مقدرته في مغالبتها، والانتصار عليها. ومثل صنيعه في النأي عن الظلمات المطويّة في النفس، صنع أحمد أمين وهو يكتب (حياتي). ولعلّ في منزلة الكاتب، وفي طبيعة المجتمع يومئذٍ ما يمنع الجهرَ بالمطوي المخفي؛ فبقي كتّاب السيرة يحفظون أقلامهم من أن تندفع كثيرًا في ما لا يرتضيه المجتمع. ولا يخفى أنَّ في جرأة الكتابة وصراحتها مصدرًا من مصادر قوّتها وحيويتها. ثمّ كان للعربيّة أن تعرف لونًا من السيرة جريئًا، لا تقف صراحته عند حدّ؛ حين كتب محمّد شكري: (الخبز الحافي)، وصوّر فيها حياته بما وقع له مجترئًا على خوض ظلمات النفس، غيرَ مكترث بصدى ما يكتب في المجتمع. وقد يسّر ذلك الأمرَ له أنّ وقائع حياته كانت علانيّة، وأنّ المستور فيها ضئيلٌ شديدُ الضآلة، وأنّه في منزلة اجتماعية لا يخشى الهبوط إلى ما دونها. وقد كانت كتابته فتحًا في بابها، ولا ريب في أنّها جرّأت كتّابًا آخرين على شيء من الصراحة والمجاهرة؛ وكلّهم لم يبلغ أحد منهم مبلغَه في ارتياد الخفي، وهتك المستور.

ولقد أراد شكري عيّاد ، وقد علت به السن، ودنت شمسُه من مغربها أن يرجع إلى سني حياته يستعيدها ويقف عند معالم فيها يتخفف من عبئها الثقيل؛ لكنّه يبدأ كتابة سيرته بنحو كأنّه لا يدري لِمَ يكتبها، أو كأنّه إن وجد ما يدفعه إلى الكتابة والبوح فثمّة ما يصدّه ويريد منه أن يقف عند حدّ. يقول: (لماذا أكتب قصّة حياة هذا الإنسان؟ لقد ظلّ السؤال يلحّ عليّ، حتّى بعد أن قطعت في مشروع الكتابة ذاته شوطًا غير قصير، وكان يقوم أمامي _ كما يقوم العفريت من تحت الأرض _ بالذات حينما أرتدّ بذاكرتي إلى موقف يخجل عامّة الناس من ذكره). ويظلّ يردد الرأي؛ أيكتب أم لا يكتب؟! وإذا كتب أيقف عند ما يتجنبه الناس إذا تحدّثوا عن أنفسهم، أم يطوي تلك الصفحات؟! وإذا طواها أيصدّق القرّاء أن حياته كانت فضيلة كلّها؟! ثمّ ما جدوى كتابة لا يتمّ لها الصدق؟! بل إنّه لم يُقدم على كتابة سيرته إلّا ليكون صادقًا في رواية الوقائع، والمشاعر التي تضطرب في النفس! وبدا له أن سيرة تتحلّى بالصدق ستكون أفضل كتاب بين كتبه التي أخرجها للناس. يقول: (أريد نوعًا من الكتابة يكون حقًّا صلةً بيني وبين قارئي، لا حاجزًا بيني وبينه، أريد تلك الدرجة من الصدق التي تسبق الصمت مباشرة لا أريد أن “أصنع” شيئًا، أريد فقط أن أظهر كلّ ما خفي من أمري وفكري). وخشي أن يُدعى فيُجيب قبل أن يكتب سيرته، ويضع وقائعها على الورق، ويُظهر ما خفي من أمره؛ فعقد العزم وشرع يروي. وجعل لكتابته عنوانًا ذا دلالةٍ على ما كان يشعر به: إنّه عاش على الحافة؛ حافة المرض والفقر والجنون. أو هكذا بدا له عيشه وهو يتأمّله بعد هذه السنين؛ بدا له أنّه واقف على الحافة، ولكنّه لم يتردَّ في الهاوية. ولا ريب في أنَّ القارئ الذي عرف شكري عيّاد في كتبه الأدبيّة والنقديّة وأدرك رصانته؛ سيفجؤه ما يقرأ في (العيش على الحافة) غير أنّه سيحمد له جرأةً نادرة، وسيحمد له وعيًا فلسفيًّا؛ ينظر في الوقائع، ويقلّب فيها الفكر، ويربط بين أشتاتها، ويستنبط ما انطوت عليه من معنى.

تحدّث عن أسرته؛ أمّه وأبيه وأخوته، ورجع إلى نفسه يجلو مشاعره نحوهم؛ وقد وقف عند أمّه وأبيه ورصد ما يضطرب في نفسه نحوهما على نحو من الوضوح والصراحة قلّ أن بلغها أحد في الأدب العربيّ الحديث، ولم ينظر إلى علاقته بهما من خلال ما يجب أن يكون، بل نظر إلى ما بينه وبينهما من خلال ما هو كائن ممّا يشعر به، وممّا دعت إليه الحوادث. وتحدّث عن دراسته وما لقي فيها، وعن معلميه وما كان منهم، حديثًا صريحًا لا يكاد يُخفي من أمرهم شيئًا. وامتدَّ به حديث الدراسة حتّى التحاقه بكليّة الآداب وتخرّجه، ولم يُعفِ أساتذته فيها من صراحة حديثه ووضوحه، ووقف عند أحمد الشايب وما صبّه عليه من أذى، ووقف عند أمين الخولي وما وجد عنده من رعاية وعناية وتوجيه فأحبّه حتَّى أنزله من نفسه منزلة الأب، وكانت منزلة طه حسين لا تضارعها منزلة.

وتحدّث عن تجاربه وما كاد ينزلق إليه؛ لكنّه بقي على الحافة يرى الهاوية ولا يسقط فيها!

لقد أضفت صراحته وجرأته حيوية على كتابته، وجعلتها نحوًا فريدًا بين أمثاله ممّن كتبوا سيرهم، وقد زاد في حيويتها ما جرى في أثنائها من تهكّم خفي.

إنّ (العيش على الحافة) تُعلن الخفي المستور في حياة أستاذٍ جليل وناقد كبير هو الدكتور شكري محمّد عياد..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى