إن النظر في شؤون الدنيا المعاصرة، بكل ما تحمله من تعقيدات وتشابكات، يفرض علينا منهجية في التفكير تتجاوز السطحية والانطباعات الأولية خاصة عن التعامل مع النوازل الكبرى، فإذا كان منطلقنا في تحليل هذه الأمور هو الشريعة الإسلامية، فإن ذلك يقتضي بالضرورة فهماً عميقاً للعلم المختص الذي يحكم تلك النازلة. فالشريعة هي المعيار والإطار الحاكم الذي نُقوّم بها الأفعال ونُصدر من خلالها الأحكام، ولكنها لا تُغني عن المجهر الدقيق الذي يكشف لنا حقيقة الواقع المُراد الحكم عليه. وكما أننا نرجع إلى الطبيب في تقييم الحالة الصحية للمريض قبل نقاش مشروعية العلاج، وجب علينا أن نرجع إلى العلم المُختص للتدقيق في المسألة قبل إصدار الحكم الشرعي.
من هذا المنطلق، يأتي هذا التحليل رداً ونقداً لنتائج التحليل الفقهي التي طُرحت في مقال نُشر على موقع حكمة يمانية للدكتور الفاضل فضل مراد حول الصراع الإيراني-الإسرائيلي. فالخلل في ذلك الطرح ليس في المنهجية الفقهية القائمة على قواعد مثل “فقه المآلات”، بل في القفزة المتعجلة إلى الحكم الشرعي دون استيفاء شرطه الأول: “التصور الكامل” للواقع السياسي والاستراتيجي. إن فقه المآلات لا يستقيم إلا إذا بُني على قراءة صحيحة للمآلات المحتملة، وهذه القراءة ليست مهمة الفقيه وحده، بل هي نتاج تحليل استراتيجي يعتمد على أدوات العلم المختص.
تكمن الإشكالية المحورية في السؤال التالي: كيف يتغير فهمنا للمصالح والمفاسد في الصراع الدائر، عندما نتوقف عن النظر إليه كنزاع بين دولتين إحداهما شيعية والأخرى يهودية، إلى تحليلهما بحسب وظائفهما، أهدافهما وطموحاتهما ومبررات وجودهما في المنطقة و ما يحمله زوال أو بقاء أحدهما من مصالح أو مفاسد؟ هذا التغيير في زاوية النظر ليس ترفاً فكرياً، بل هو جوهر “تحقيق المناط” الذي يُمكّن من تنزيل الحكم الشرعي على واقعه الصحيح.
وعليه، سنقوم أولاً بتفكيك الطبيعة الوظيفية لكل من إسرائيل وإيران كفاعلَيْن في النظام الدولي، ثم تطبيق فقه الموازنات وقواعد المصالح والمفاسد على هذا الفهم، لنخلص في النهاية إلى موقف شرعي-سياسي.
تحديد العدو في ميزان السياسة الشرعية - المشروع الإمبريالي مقابل المشروع الإقليمي
إن الخطأ المنهجي الأكثر شيوعاً في تحليل الصراعات هو الاكتفاء بالنظر إلى هوية الفاعلين المعلنة (دولة يهودية، جمهورية إسلامية شيعية) دون تحليل وظيفتهم الحقيقية في الهيكل الجيوسياسي. فالسياسة الشرعية لايجب أن تبني أحكامها على الأسماء والشعارات، بل على الحقائق والأدوار والمآلات. ولذلك، لا بد من إعادة تعريف طبيعة الخصمين في هذا الصراع، ليس بناءً على انتمائهما الديني أو المذهبي، بل بناءً على وظيفتهما البنيوية في النظام الإقليمي والدولي.
إسرائيل كقاعدة وظيفية للمشروع الإمبريالي الغربي
التعامل مع إسرائيل على أنها مجرد دولة معادية هو تبسيط يخل بالفهم الاستراتيجي. فالأدبيات السياسية والعسكرية الغربية نفسها، فضلاً عن الواقع العملي، تؤكد أن إسرائيل تؤدي دوراً وظيفياً يتجاوز كونها حليفاً تقليدياً للغرب. هي “ذخر استراتيجي” و”قاعدة إمبريالية أمريكية” متقدمة في قلب المنطقة العربية. بل إنها، كما وصفها بعض المحللين، “قطعة من الغرب تم تثبيتها في الشرق الأوسط” لضمان السيطرة عليه وإخضاعه.
تعريف "الدولة الوظيفية"
لفهم هذا الدور بعمق، لا بد من الاستعانة بمفهوم “الدولة الوظيفية” (Functional State)، وهو إطار تحليلي طوّره المفكر المصري عبد الوهاب المسيري. يعرّف المسيري الدولة الوظيفية بأنها كيان مصطنع، أو “مشروع استعماري”، يتم إنشاؤه من قبل قوة إمبريالية خارجية لخدمة أغراض محددة لا تستطيع القوة المهيمنة القيام بها مباشرة هذه الكيانات لا تخضع لمنطق التطور السياسي الطبيعي للدول، بل لمنطق الوظيفة التي أُسندت إليها، والتي تتركز في حالة إسرائيل حول الاستيطان والحرب. هذا المنطق الوظيفي هو الذي يشكل سياساتها الأمنية، وأنماط إنفاقها، وهيكلها الاقتصادي، وعلاقاتها الخارجية، مما يجعلها مختلفة جوهرياً عن محيطها. ووفقاً لإطار المسيري، فإن هذه الكيانات مصممة لتكون غريبة عن بيئتها، مما يضمن حالة من الصراع الدائم الذي يخدم هدف المركز الإمبريالي في إدامة السيطرة على المنطقة.
الأسس التاريخية: الغرس الإمبريالي للدولة الوظيفية
تتجذر هذه الوظيفة في قرارات استراتيجية تاريخية اتخذتها القوى الغربية. لم يكن وعد بلفور عام 1917 مجرد لفتة إنسانية، بل كان عملاً إمبريالياً محسوباً. نص الوعد، الذي أرسله وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، على أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. تُظهر دراسات فترة الانتداب البريطاني أن الأهداف الأساسية كانت تأمين المصالح الاستراتيجية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى.(1) كان أحد الأهداف الرئيسية، كما كشفت وثائق مؤتمر كامبل-بانرمان عام 1907، هو إنشاء “حاجز بشري” يفصل بين جناحي العالم العربي الآسيوي والأفريقي، لمنع ظهور أي كيان عربي موحد يمكن أن يتحدى الهيمنة الغربية.(2) لقد تم تصميم الإطار القانوني للانتداب ببراعة لتسهيل المشروع الصهيوني ومنحه غطاءً قانونياً دولياً، بينما كان يخدم في جوهره الأهداف الإمبريالية البريطانية. ومع أفول الإمبراطورية البريطانية،(3) انتقلت رعاية هذا المشروع بسلاسة إلى الولايات المتحدة، التي تبنت إسرائيل كذخر استراتيجي في سياق الحرب الباردة، ولاحقاً في إطار ما يسمى “الحرب على الإرهاب”.
تجليات الدور الوظيفي
يتجلى هذا الدور الوظيفي في عدة مؤشرات قاطعة ومعاصرة، تُظهر كيف أن علاقة إسرائيل بالغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، تتجاوز أي تحالف تقليدي.
التكامل العسكري الكامل
لم يكن قرار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عام 2021 بنقل إسرائيل من منطقة مسؤولية القيادة الأوروبية (EUCOM) إلى منطقة مسؤولية القيادة المركزية (CENTCOM) مجرد تغيير إداري. بل كان إعلاناً استراتيجياً بدمج إسرائيل بشكل كامل في الهيكل الأمني والعسكري الأمريكي المصمم للشرق الأوسط. كان الهدف، كما أوضح محللون في مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية (BESA) ومعهد دراسات الأمن القومي (INSS)، هو إنشاء إطار عملياتي مُشترك، يتيح تنسيقاً سلساً بين الجيش الإسرائيلي و القيادة الأمريكية مباشرة. (4) هذه البنية تسهل التدريبات المشتركة، وشبكات الدفاع الصاروخي المتكاملة، والتخطيط للطوارئ مما يؤكد أن إسرائيل تعمل كـ”أداة تنفيذية” ضمن المنظومة الأمنية الأمريكية وليست طرفاً شرق أوسطياً مستقلاً(5).
الدعم غير المشروط
إن الدعم الغربي، والأمريكي خصوصاً، لإسرائيل يتجاوز حدود التحالفات الطبيعية بين الدول. فهو قائم على ثلاثة أعمدة مترابطة تجعل أمن إسرائيل وتفوقها جزءاً لا يتجزأ من المصلحة القومية الأمريكية، بما يضمن استمرار دورها كوكيل مهيمن.
● العمود الأول: التقاطع الاستراتيجي العميق: تشترك الولايات المتحدة وإسرائيل في الهدف الاستراتيجي الأساسي المتمثل في الحفاظ على الهيمنة الإقليمية ومنع صعود أي قوة قادرة على تحدي الوضع الراهن.13 فالدعم لا يتوقف على سلوك إسرائيل، بل على وظيفتها كحصن عسكري وتكنولوجي متقدم ضد التهديدات القادمة من المنطقة.
● العمود الثاني: النفوذ السياسي الساحق (اللوبيات): يقدم العمل الأكاديمي البارز لجون ميرشايمر وستيفن والت، “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”، حجة مفصلة بأن تحالفاً فضفاضاً من الأفراد والمنظمات يعمل بنشاط لتشكيل سياسة الولايات المتحدة الخارجية في اتجاه مؤيد لإسرائيل، وغالباً ما يكون ذلك على حساب المصالح القومية الأمريكية نفسها. (6) وتوضح دراسات الحالة في كتابهما كيف كان اللوبي عاملاً حاسماً في الدفع نحو غزو العراق عام 2003، والدعوة لسياسات تصادمية ضد سوريا، وتصوير إيران باستمرار كتهديد وجودي يتطلب رداً عسكرياً.(7) قدرة اللوبي على توجيه الخطاب العام ومعاقبة المعارضة السياسية هي سلاح أساسي في ترسانته(8).
● العمود الثالث: الالتزام الأيديولوجي المتجذر (الصهيونية المسيحية): إلى جانب اللوبي السياسي العلماني، يوجد دور قوي ومستقل للصهيونية المسيحية. هذه الحركة، التي تضم عشرات الملايين من المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين، تقدم دعماً غير مشروط لإسرائيل على أساس تفسير لاهوتي لنبوءات الكتاب المقدس، يرى في قيام دولة إسرائيل واستيطان الأرض شرطاً أساسياً للمجيء الثاني للمسيح.(9) هذا الدعم ليس استراتيجياً بل هو أخروي (eschatological). تنشط المنظمات الصهيونية المسيحية في الضغط السياسي، وتجمع مئات الملايين من الدولارات لدعم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتروج لخطابات معادية للإسلام والعرب تغذي السياسات التوسعية المتصلبة.(10) وكانت سياسات إدارة ترامب، مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، متأثرة بشدة بهذه القاعدة الجماهيرية.(11) هذا الاندماج بين المصلحة الإمبريالية المتصورة والعقيدة الدينية الراسخة يخلق هيكل دعم ذا مرونة استثنائية، مما يجعل تغيير السياسة الأمريكية أمر بالغ الصعوبة، بغض النظر عن التكلفة.
الوظيفة الاستراتيجية
عند تجميع هذه العناصر، يتضح أن الهدف النهائي من زرع ودعم إسرائيل بهذه القوة العسكرية والسياسية الهائلة ليس مجرد حمايتها. فالوظيفة الاستراتيجية ثلاثية الأبعاد: أولاً، ضمان الهيمنة العسكرية والسياسية الغربية الدائمة على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالطاقة وذات الأهمية الجيوستراتيجية. ثانياً، العمل كعائق دائم أمام صعود أي مشروع عربي أو إسلامي موحد يمكن أن يؤكد على استقلال حقيقي. ثالثاً، إدامة حالة من التجزئة وعدم الاستقرار والصراع، مما يجعل دول المنطقة ضعيفة وتابعة وأسهل في السيطرة عليها واستغلالها. وجود دولة وظيفية متفوقة عسكرياً يخلق معضلة أمنية دائمة لجيرانها، مما يدفعهم للبحث عن وسائل ردع غير متكافئة، الأمر الذي يغذي بدوره طموحات القوى التعديلية مثل إيران، ويبرر تعزيز التفوق العسكري للدولة الوظيفية، في حلقة مفرغة من التصعيد وعسكرة المنطقة بالكامل وتغذية الدكتاتوريات.
إيران كقوة تعديلية وتحديات مشروعها
لا يمكن فهم موقع إيران في معادلة الإقليم إلا بوصفها نتيجة مباشرة للفجوة التاريخية التي انكشفت في العالم السني أمام التحديات الكبرى، وعلى رأسها التحديثات البنيوية التي فرضها زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة. فغياب المشروع السني القادر على التكيّف مع متغيرات الحداثة السياسية والأمنية، وعجز النخب العربية عن توليد توازن ردع استراتيجي في مواجهة المشروع الإسرائيلي، فتح الباب واسعًا أمام صعود إيران كلاعب تعديلي يسعى لملء هذا الفراغ.
بهذا المعنى، لم تأتِ إيران إلى الساحة الإقليمية من موقع القوة الذاتية وحدها، بل وجدت نافذتها التاريخية في لحظة الانكشاف السني بعد سقوط الخلافة العثمانية، ومع تصاعد الضغوط الاستعمارية، وتفاقم العجز البنيوي في بنية الدولة العربية الحديثة. وقد تسارعت هذه الفجوة مع لحظة التأسيس الإسرائيلي، حيث بدت المجتمعات السنية في حالة تردد وارتباك، وعاجزة عن توليد مشروع مقاومة متماسك، وبعد انكشاف هشاشة مشروع المقاومة العربي القومي، بقي فراغ كبير، فاندفعت إيران لتقدم نفسها باعتبارها رأس حربة المواجهة مع إسرائيل وحاملة لواء “الممانعة”.
ولفهم إيران بدقة في ضوء نظرية العلاقات الدولية، فهي ليست قوة محافظة تكتفي بما هو قائم، بل “قوة تعديلية” (Revisionist Power) تبحث عن إعادة رسم ميزان القوى لمصلحتها، عبر تحدي النظام الإقليمي الذي فرضته الولايات المتحدة، والذي جعل إسرائيل مركز الثقل. تشكلت هذه القناعة الإيرانية من خلال تراكم تجارب تاريخية: من ثورة 1979 التي كسرت الاصطفاف مع الغرب، إلى الحرب العراقية الإيرانية، فالعقوبات وحصار البرنامج النووي، ثم الانكشاف على مدى هشاشة بنية الإقليم في العقدين الأخيرين. لذلك، جاء المشروع الإيراني متسلحًا بأدوات استراتيجية غير تقليدية كالميلشيات التي تمكنها من خلق حالة من الردع وتحدي خصومها بشكل غير مباشر، متجنبة بذلك المواجهات المباشرة عالية التكلفة، والترسانة الصاروخية لرفع تكلفة أي هجوم على إيران، والبرنامج النووي كآلية ردع.
يمزج الخطاب الإيراني ببراغماتية لافتة بين الأيديولوجيا والمصلحة. فشعارات مثل “دعم المستضعفين” و”مواجهة الاستكبار العالمي” ليست مجرد تعبيرات دينية، بل هي أدوات أيديولوجية قوية تخدم مصالح استراتيجية واضحة. هذا الخطاب يحشد الدعم داخلياً وبين الحلفاء الإقليميين، ويضفي الشرعية على شبكة وكلائها، ويوفر إطاراً أخلاقياً لأهدافها. في الوقت نفسه، تنخرط إيران في دبلوماسية براغماتية عندما يخدم ذلك مصالحها، كما يتضح من تقاربها مع السعودية أو مفاوضاتها مع الغرب. هذا ليس تناقضاً بل استراتيجية ذات مسارين: الأيديولوجيا تحدد الوجهة الاستراتيجية الكبرى، بينما تتولى البراغماتية التعامل مع الحقائق التكتيكية للبقاء والتقدم.
هذا كله لا ينفي أو يبرر المفاسد الجسيمة التي تسبب بها المشروع الإيراني، والتي أشار إليها المقال الأصلي بوضوح، من توسع طائفي وتدخل في شؤون الدول السنية، وما نتج عنه من قتل وتشريد لملايين السنة في سوريا والعراق واليمن.
فقه الموازنات في سياق توازن القوى الدولي
تحت ضغط اللحظة الراهنة، كثيرًا ما يُستسهل الهبوط إلى موازنات تبسيطية بين المخاطر الكبرى المحيطة بالمنطقة، فتُختزل التحولات الجيواستراتيجية في سؤال: أيهما أهون شرًا، انتصار إسرائيل أم انتصار إيران؟ وينبني على هذا السؤال عادةً افتراضان زائفان: أن العدو الخارجي الظاهر (إسرائيل) أهون وأمكن للمواجهة، وأن العدو الداخلي الخفي (إيران) هو الأخطر والأصعب احتواءً، بل وربما يستحيل التعايش معه. هذا المنطق، على جاذبيته ، يتجاهل أبسط دروس التاريخ ويقفز فوق التعقيدات البنيوية للعلاقات الدولية.
لقد أفرزت هذه الرؤية منطقًا مفاده أن تصفية النفوذ الإيراني تمثل “مصلحة”، حتى لو تحققت تحت الهيمنة الإسرائيلية، بحجة أن مواجهة إسرائيل كعدو خارجي ستكون يسيرة، بينما مشروع إيران مصبوغ بسمة التغلغل الخفي والصعوبة القصوى في الاستئصال. غير أن مراجعة منصفة للتاريخ ومقاربة دقيقة للواقع تكشف أن هذا الطرح ليس سوى قناع لسوء تقدير استراتيجي قد يكلف الأمة وجودها نفسه، لا فقط نفوذها.
الركون إلى فكرة “العدو الظاهر أهون” ليس اجتهادًا حديثًا، بل هو مسار جُرِّبت نتائجه الكارثية في تاريخ المسلمين، ولعل أوضح نماذجه ما جرى في عصر ملوك الطوائف بالأندلس. فعقب انهيار الخلافة الأموية، تناحرت الدويلات المسلمة حتى استنزفت ذاتها وأفرغت مناعتها الداخلية. لم يكن العدو الخارجي في الشمال (الممالك المسيحية) سوى مستفيد من انكشاف الجبهة الإسلامية بالتشرذم والانقسام، لكنه ما كان لينقضّ إلا بعد أن تهيأت له الساحة من الداخل.
الأخطر من ذلك أن قادة الطوائف، وهم يظنون أنفسهم يُحسنون صنعًا، لجؤوا لتحالفات إذعانية مع ألفونسو ضد بعضهم البعض، فسقطوا في فخ الاستقواء بالعدو الخارجي كـ”أداة” ضد المنافس المحلي. لكن “الأداة” سرعان ما تحولت إلى فاعل رئيسي يفرض شروطه، إلى أن فقدت تلك الدويلات استقلالها ووجودها كلية. فكان الحصاد المر ضياع الاندلس وسقوط رموز السيادة الإسلامية، وانتهى المشهد بأن فُقدت كل الكليات الخمس وانتهى الوجود الإسلامي تماماً. هكذا يفضح التاريخ خرافة أن العدو الخارجي أهون وأقل خطورة.
ميزان الشريعة بين إسرائيل وإيران
أيهما أهون الشرين؟
إن فقه الموازنات ليس حسابًا جبريًا بين عدد الضحايا هنا وهناك، بل هو قراءة متعمقة لطبيعة المخاطر وبنيتها وارتباطها بمصير الأمة ذاته. ولهذا فإن اختزال الصراع الراهن إلى منافسة بين عدد الضحايا الذي خلفها المشروعين يُهدر حقيقة بنيوية عميقة: أن وجود إسرائيل ذاته في المنطقة لم يكن نتاج ديناميكية محلية، بل زُرع وظيفيًا ضمن بنية الهيمنة الإمبريالية الغربية. إسرائيل ليست مجرد دولة معادية أو خصم إقليمي أو آلة قتل، بل هي قاعدة متقدمة لوظيفة المركز – قطعة من النظام الامبريالي نفسه – تحكمها معادلات الدعم الغربي والاندماج العضوي في منظومة أمنية واقتصادية أوسع. لا يُقاس خطرها بمجرد طموحاتها العسكرية، بل بقدرتها على إعادة تعريف شروط السيادة في الإقليم وإعادة رسم معايير “المشروعية” السياسية والثقافية والاقتصادية للدول من حولها.
أما إيران، فرغم كل خطورتها وتمدّد مشروعها الطائفي العنيف، فإنها كما سبق ووضحنا في جوهرها دولة تعديلية (revisionist)، لا تستمد مشروعية خطابها إلا من وجود إسرائيل نفسه ومشروعها الإمبريالي كخصم خارجي. إن مشروع “التشيع السياسي” المعاصر الذي تبنته الجمهورية الإسلامية منذ 1979 لم يكن امتدادًا تلقائيًا للتشيع التقليدي، بل هو اختراع أيديولوجي وُلد في لحظة اشتباك مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، فصار الصراع مع “الاستكبار العالمي” و”تحرير القدس” حجر الزاوية الذي يبرر التمدد الإقليمي، ويمنح النظام الإيراني غطاءً أمام الداخل والخارج.
ولهذا فإن القول بأن مفسدة انتصار إيران “أعظم”، وأن انتصار إسرائيل قد يُتيح استئناف مشروع المقاومة في مرحلة لاحقة هي مقولة تتجاهل طبيعة الكيانيين ومببرات وجودها. فوجود إيران كخطر، مهما تضخم، مشروط باستمرار الصراع مع إسرائيل؛ فإذا غابت إسرائيل، انكشفت أزمة التشيع السياسي وانهارت مبررات “محور المقاومة” وعادت التناقضات الداخلية لتطفو على السطح في إيران وحلفائها، كما تكشف تجارب سابقة في تحولات التحالفات داخل المنطقة.
بينما الخطر الإسرائيلي هو خطر “تحتي” بنيوي، يقوم على إعادة إنتاج التبعية والهيمنة وطمس الهوية، ويستمد قوته من كونه جزءًا لا يتجزأ من المركز العالمي الذي لا يسمح لأي مشروع استقلالي حقيقي بالولادة. إسرائيل لا تهدد الأطراف وحدها، بل تعيد صياغة معنى “الاستقلال” من الجذور. ولذلك، فإن زوال القوة الموازنة (إيران، رغم كل أدوارها التخريبية) لا يعني تصفية الفتنة من المنطقة، بل يعني تسليم المنطقة بالكامل إلى هندسة التبعية، حيث يصبح الحديث عن مقاومة أو حتى عن كيان سني مستقل وهمًا تاريخيًا.
ولهذا فإن بقاء التوازن الهش بين المشروعين، رغم كل ما فيه من ألم وفتنة داخلية، هو أخف الضررين بمقياس السياسة الشرعية. بل إن تفكيك هذه الثنائية القاتلة، والسعي لبناء كتلة سنية مستقلة تفرض التوازن الحقيقي، هو وحده الطريق للخروج من أسر “خيارين أحلاهما مر”، وهو ما لم يدركه كثير ممن يروجون لمنطق “انتصار العدو الظاهر”.
مفسدة ما بعد التوازن - العالم السني في إقليم أحادي القطبية
فهم مفسدة انتصار المشروع الإسرائيلي-الأمريكي يتطلب تجاوز النظرة الآنية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو تحليل طبيعة الاستقرار الذي تتمتع به بعض الدول السنية، وتحديداً دول الخليج، وكيف أن هذا الاستقرار مرتبط عضوياً بوجود التهديد الإيراني. الاستقرار النسبي الذي تتمتع به دول الخليج ورضا الغرب الظاهري عنها ليسا نابعين من تطابق في القيم أو تحالف استراتيجي أصيل، بل هما نتاج مباشر لوجود قوة إقليمية مناوئة هي إيران. ففي ظل وجود هذا “العدو المشترك”، تعمد الولايات المتحدة والغرب إلى دعم وإغداق العطايا على الجهة الأخرى ضمن مبدأ “الثواب والعقاب” الاستراتيجي، حيث تُكافأ هذه الدول على دورها في موازنة النفوذ الإيراني.
هذا السلوك السياسي له سوابق تاريخية واضحة. فخلال الحرب الباردة، عمدت الولايات المتحدة إلى دعم اليابان وكوريا الجنوبية بشكل مكثف، ليس حباً في ثقافتيهما، بل لخلق نماذج رأسمالية ناجحة ومستقرة تكون بمثابة حصن وواجهة دعائية ضد انتشار الشيوعية في آسيا. كانت سياسة “الاحتواء” تقتضي تقوية الحلفاء ليكونوا قادرين على الصمود في وجه التمدد السوفيتي. ولكن ما إن انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي، وأصبحت أمريكا هي القطب الأوحد، حتى تغيرت طبيعة العلاقة. بدأت واشنطن تتصرف بشكل أحادي، وتطالب حلفاءها بالكثير، وتضغط عليهم لتبني سياسات تخدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر، وأحياناً على حساب مصالحهم الوطنية، كما تجلى في الضغوطات التجارية على اليابان والتدخلات السياسية في مناطق مختلفة من العالم.
بتطبيق هذا النموذج التاريخي على واقعنا، فإن سقوط إيران أو تحييدها بشكل كامل سيمثل نهاية “الحرب الباردة الإقليمية”. وعندها، لن يكون الخليج كما هو، ولن تبقى الدول السنية في منأى عن الضغوط. ستفقد هذه الدول قيمتها الاستراتيجية كحاجز ضد إيران، وستتحول في نظر صانع القرار الغربي من “حليف ضرورة” إلى مجرد “تابع” يمكن فرض الإملاءات عليه. ستضغط أمريكا، التي ستصبح القوة المهيمنة بلا منازع في المنطقة، من أجل:
الصهينة الكاملة: ليس فقط التطبيع الرسمي، بل فرض اندماج كامل وعميق مع إسرائيل في كافة المجالات الأمنية والاقتصادية والثقافية، بما يخدم رؤية “الشرق الأوسط الجديد” التي تكون فيها إسرائيل هي المركز المهيمن.
التغريب القسري: زيادة الضغط من أجل تبني إصلاحات اجتماعية وسياسية جذرية تتوافق مع الأجندة الليبرالية الغربية، تحت شعارات “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية”، واستخدام هذه القضايا كأدوات للابتزاز السياسي.
الانصهار الاقتصادي والأمني: إجبار هذه الدول على الانصهار الكامل في المنظومة الأمنية والاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة، مما يفقدها أي قدرة على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة في مجالات الطاقة والتسليح والسياسة الخارجية.
إعادة تقييم المفاسد: مفسدة الهيمنة الخارجية مقابل مفسدة الفتنة الداخلية
إن قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وقاعدة “إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما”، هما القاعدتان الحاكمتان في هذه النازلة، والموازنة الدقيقة تتطلب تصنيفاً نوعياً للمفاسد لا كمياً فحسب.
المآل الأول: انتصار إسرائيل:
انتصار إسرائيل في هذا الصراع يعني فرض مشروع الهيمنة الصهيونية/الغربية الكامل على المنطقة. ستتحول إسرائيل إلى مركز إقليمي مُطلق، يفرض شروطه في السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة، وستُعاد صياغة كل مفاهيم الشرعية والهويات الوطنية لتدور في فلك المركز الإمبريالي عبر الوسيط الإسرائيلي. سيزول أي وهم بإمكانية بناء مشروع مقاومة أو استقلال عربي أو إسلامي، إذ يصبح العالم السني والدول العربية في موقع التابع عديم القدرة على الفعل أو حتى الاعتراض.
هذ المفسدة يمكن وصفها بأنها كلية وشاملة (تطال الدين والنفس والعقل والمال والعرض، فهي ناتجة عن التحكم بالسياسة والاقتصاد والثقافة)، ودائمة (لأنها مدعومة من القوة العالمية العظمى ويصعب إزالتها)، وأشد خطراً (لأنها تهدد أصل وجود الأمة ككيان سياسي وحضاري مستقل). إنها مفسدة القضاء على “إمكانية النهضة” من الأساس. هذه المفسدة المآلية، مفسدة فقدان الاستقلال الاستراتيجي والذوبان في مشروع هيمنة خارجي، هي الخطر الحقيقي الذي يتربص بالمنطقة في حال اختلال التوازن الحالي.
المآل الثاني: انتصار إيران
انتصار إيران سيقلب قواعد اللعبة في المنطقة، ويدفع إسرائيل ـ في الحد الأدنى ـ إلى الرضوخ لخيار حل الدولتين والتنازل عن مشاريعها التوسعية أو العنصرية، ما سيخلق حالة من الاستقرار والسلام النسبي في الإقليم. في هذا السياق، سينتهي الدور الوظيفي الذي بنت عليه إيران مشروعها العابر للحدود: فمع زوال التهديد الإسرائيلي وتحقق المطالب الفلسطينية، ستفقد الجمهورية الإسلامية مبرر توسعها ونفوذها الخارجي، وسيتلاشى خطاب “المقاومة” الذي شكل شرعيتها منذ 1979. يعود النظام الإيراني إلى حجمه الطبيعي كدولة إقليمية ذات تأثير محدود، ويبدأ التململ الداخلي وحركات الاعتراض الشعبية والسياسية ضده في الداخل والخارج، لأن ذرائع الهيمنة والتدخل ستفقد معناها بسقوط العدو الجامع الذي وظفته
المآل الثالث: استمرار الصراع دون منتصر
الحرب الدائرة اليوم، بكل ما فيها من استنزاف متبادل، أضعفت إيران بشكل غير مسبوق، وستدفعها إلى مراجعة سياساتها والبحث عن فرص الاندماج والتصالح مع محيطها العربي والإسلامي لحماية مصالحها الذاتية وضمان بقائها. هذا التحول ـ رغم أنه يأتي تحت ضغط الضرورة ـ يحمل جانبًا إيجابيًا، إذ سيدفع إيران تدريجيًا للخروج من منطق التمدد والهيمنة إلى سياسة التعاون والتسوية، ويخلق فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة في العلاقة بين المكونات العربية والإسلامية، إذا أحسنت القوى العربية والسنية استثمار هذا التحول وبناء مشروع جامع متماسك.
في المقابل، هذا الاستعصاء الميداني وضبط ميزان القوى سيكبح الغرور الإسرائيلي، ويدفع المجتمع الإسرائيلي لإعادة النظر في قيادته السياسية التي فشلت في تحقيق “الانتصار الموعود”. سيؤدي هذا إلى خفض التصعيد، والرضوخ التدريجي للضغوط الدولية والإقليمية لوقف الحرب على غزة، ويعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بوصفها قضية مشروعة لا يمكن تجاوزها. بل إن توازن الاستنزاف هذا يُمهد الطريق ـ واقعيًا ـ لحل الدولتين كخيار يُفرض على إسرائيل من الخارج والداخل معًا، ويعيد الاعتبار للحد الأدنى من الاستقرار الإقليمي .
وهكذا عند تطبيق الموازنة الشرعية، نجد أن مفسدة انتصار اسرائيل هي “المفسدة العظمى” التي يجب دفعها بكل وسيلة ممكنة، حتى لو أدى ذلك إلى تحمل “المفسدة الصغرى” المتمثلة في بقاء المشروع الإيراني كقوة مزعجة ومنافسة. فالشريعة جاءت لحفظ الكليات الخمس، وأعظم ما يحفظ هذه الكليات هو بقاء كيان الأمة واستقلالها. إن العدو الخارجي الذي يهدف إلى إخضاعك بالكامل أخطر من العدو الداخلي الذي يهدف إلى قيادتك. فالأول يلغي وجودك، والثاني ينازعك المُلك.
نحو استراتيجية إسلامية جامعة
لا يعني التحليل المطروح هنا الانحياز إلى المشروع الإيراني أو الدفاع عن اختلالاته ومظالمه، بل ينطلق من محاولة مزاوجة بين فقه المصلحة الشرعية والتحليل السياسي الواقعي، وقراءة المآلات بميزان الكليات لا الانفعالات الآنية. فالخيار الصحيح في هذا المنعطف ليس الوقوف المطلق مع طرف ضد آخر، وإنما الوقوف ضد انهيار توازن القوى الإقليمي، لأنه الخطر الأكبر الذي يُهدد وجود الأمة ويفتح الباب واسعًا أمام الهيمنة الخارجية المطلقة.
وتاريخ الأمة الإسلامية، بتجاربه الممتدة، يشهد أن الوجود الشيعي السياسي ـ من الفاطميين إلى الصفويين ـ كان دائمًا حقيقة قائمة تعاملت معها القوى السنية بمنطق الصراع السياسي لا الخطر الوجودي. لم تكن الأمة يومًا عاجزة عن إدارة التعايش أو حتى الصراع مع المشروع الشيعي متى توفر لها القرار المستقل والرؤية الاستراتيجية الجامعة. بينما الخطر الحقيقي الذي لم تحتمله الأمة عبر تاريخها كان دومًا مشروع الهيمنة الخارجي الذي ينزع الجذور ويفكك الهويات ويحوّل الجميع إلى توابع وظيفية.
ولهذا، فإن الموقف العقلاني لا يكمن في الفرح بضربات إسرائيل لإيران ولا في الاندفاع وراء كل شعار مقاوم ترفعه طهران؛ فكل من ينحاز لهذا الاستقطاب يقع في خطأ استراتيجي يفتح الباب أمام سيطرة المركز الخارجي وإلغاء الإرادة الجماعية. المطلوب اليوم هو تجاوز ثنائية “العدو الظاهر” و”العدو الخفي”، والسعي الجاد لبناء قوة سنية جامعة قادرة على فرض نفسها كفاعل مستقل في معادلات الإقليم، والتصدي لأي مشروع اختراق أو هيمنة كان.
وما لم تُنتج الأمة كتلتها السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبرى، فإن مصيرها سيبقى رهنًا بتقلبات محاور الخارج، وبيد اللاعبين الوظيفيين الذين لا مشروع لهم إلا تثبيت موقعهم في خدمة المركز. من هنا، فاستعادة القرار السني، وامتلاك أدوات التحليل الجيوسياسي العميق، ورفع مستوى الوعي بالمصالح العليا، ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضرورة بقاءٍ وهويةٍ ومسارٍ تاريخي يُحصن الأمة من أخطر المآلات.
الهوامش:
- Mandate for Palestine – https://avalon.law.yale.edu/20th_century/palmanda.asp, accessed June 18, 2025,
- قراءة في أهم مواد صك الانتداب البريطاني على فلسطين – مجلة کلية الآداب …, accessed June 18, 2025, https://bfalex.journals.ekb.eg/article_153434_ad7d508ca5eb2469e0a221b4624fdf0d.pdf
- قراءة في أهم مواد صك الانتداب البريطاني على فلسطين – مجلة کلية الآداب …, accessed June 18, 2025, https://bfalex.journals.ekb.eg/article_153434_ad7d508ca5eb2469e0a221b4624fdf0d.pdf
- The US Brings Israel into CENTCOM, accessed June 18, 2025, https://besacenter.org/us-israel-centcom/
- The US Brings Israel into CENTCOM, accessed June 18, 2025, https://besacenter.org/us-israel-centcom/
- The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy | Weatherhead Center for International Affairs, accessed June 18, 2025, https://www.wcfia.harvard.edu/publications/israel-lobby-and-us-foreign-policy
- The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy | Weatherhead Center for International Affairs, accessed June 18, 2025, https://www.wcfia.harvard.edu/publications/israel-lobby-and-us-foreign-policy
- The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy | Weatherhead Center for International Affairs, accessed June 18, 2025, https://www.wcfia.harvard.edu/publications/israel-lobby-and-us-foreign-policy
- Christian Zionism: A Major Unrecognized Force in Support of Israel …, accessed June 18, 2025, https://www.surjbayarea.org/blogs/christian-zionism-a-major-unrecognized-force-in-support-of-israel
- Christian Zionism: A Major Unrecognized Force in Support of Israel …, accessed June 18, 2025, https://www.surjbayarea.org/blogs/christian-zionism-a-major-unrecognized-force-in-support-of-israel
- Christian Zionism as Geopolitics and Public Theology: A Latin American Perspective, accessed June 18, 2025, https://contendingmodernities.nd.edu/global-currents/christian-zionism-latin-america/
بعد قراءة مركزة ودقيقة لهذا العرض والتحليل الأروع من الأستاذ ضياء خالد ألفت انتباهه إلى نقطتبن برهن في مقاله على أن الضبابية تكتنفها، وأن استقراءها من قِبَله لم يكن موفقاً:
(1) اعتقاده أن الارتباط بين العقيدة النرجسية الشيعية وبين المشروع السياسي الصفوي الشوفيني الإيراني هو ارتباط براجماتي صاغته النخبة السياسية القومية (الصفوية) الإيرانية عام 1979م، وأن هذا الارتباط سينتهي اختياريا أو بحكم تجاوز الحاجة إليه واقعياً عند بلوغ الهدف المنشود.
هناك تشابه كبير يقترب من درجة التطابق بين أيديولوجية المسيحية الصهيونية (الإنجيليّة) المتحالفة مع الحركة الصهيونية اليهودية العالمية بشأن إقامة وطن قومي يضم شتات يهود العالم باعتباره الشرط الأوحد لعودة المسيح الثانية ليحكم العالم باسم المسيحية .. وبين أيديولوجية (المهدي) وظهوره ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ويعيد حكم (آل البيت) وشيعتهم على الأمة الإسلامية ومنها إلى السيطرة على الأرض، وهاتان الأيديولوجيتان ليستا دعاية وظيفية مرحلية تقتضيها المصلحة، وسيتم تجاوزهما والاستغناء عنهما اختيارياً في الوقت المناسب.
وبالتالي فإن الحديث عن اضمحلال قوة إيران عند زوال جاذبية دعاوى المقاومة ومحورها في حال انتصارها والبدء في ضمورها وانكفائها إلى الداخل واضطرارها لتغيير استراتيجيتها في التعامل مع الوسط العربي السني المحاور لها في الشرق الأوسط .. هو وهم كبير لا يعكس -مع احترامي ومحبتي للكاتب- إلا سطحية النظرة إلى مقومات بنية المشروع القومي الصفوي الإيراني.
(2) حديث الكاتب عن نماذج تاريخية لمعضلات صراع بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة يشبه بصورة جلية العلاقة التنافسية المحتدمة بين العرب السنة وإيران الشيعية في التاريخ المعاصر، ممثلة في الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية مقابل الدولة العباسية السنية (من خلال ممثليها الزنكيين ثم الأيوبيين)، وفي الدولة الصفوية الشيعية الاثني عشرية مقابل الدولة العثمانية السنية، وأن الصراع بين هذه الأطراف المذكورة لم يتجاوز الصبغة السياسية .. هذا الحديث هو مجافٍ للواقع وتعوزه الحقيقة، فوقود الصراع ومادته الأولى هي العقيدة واعتبارات الطائفة والمذهب، وهو ما جعل صلاح الدين الأيوبي يسعى لمحو كل أثر للعقيدة الإسماعيلية في مصر والشام بمجموعة من الإجراءات خلدها التاريخ وسار على نهجه فيها كل الأنظمة السياسية التي قامت في المنطقة العربية والإسلامية حتى القرن العشرين، وفي مقدمتها استحداث المدارس والمناهج الدراسية لحرث الأرض والعقول واجتثاث كل ذرات عقيدة النظام الشيعي الهالك الدينية، وهو ما سعى الصفويون في العراق في السنوات المحدودة التي سيطروا فيه على العراق قبل ارتداد السلطان سليمان القانوني من قلب أوروبا إلى الشرق وانتزاعه العراق من أيديهم، لكنه وجد نصف أهلها قد تشيعوا فاستحال عليه إعادتهم إلى حالتهم الأصلية (تطبيق ضبط المصنع).
وفيما عدا هاتين النقطتين أجد الأستاذ ضياء خالد قد وفق كثيراً في تناول ما تطرق إليه من مقاله الماتع، وأعبر عن سعادتي بقلمه المميز وفكره الجميل.
أحسنت وضاح اليمن في تنبيهك واستدراكاتك على الكاتب ، واضف إلى ما نبهت عليه تنبيهين إثنين :
الأول: اغفاله للدور الوظيفي للدول العربية ، لصالح الهيمنة الإمبرالية الخارجية، وأن استمرار التدخلات الإيرانية في المنطقة يزيد من تبريرات التدخل الغربي والإرتماء بأحضانه .
الثاني: نظرته إلى المماراسات الإيرانية المتقاطعة مع المشروع الإيراني في تفتيت الدول السنية على انه تكتيك يزول بزوال اسرائيل، هو تسطيح للموضوع يكذبه التأريخ والواقع.
الثالث: أن الموازنة بين المفسدين يكون في حالة وجود مشروعك المستقل كدولة، أما أن تكون موازانتك بين المفسدتين لتكون خاضعا للآخر دون أن تكون فاعلا وصاحب قرار في إسقاط أحد المشروعين، ثم يكون لك مشروعك الخاص وقرارك المستقل، وهنا سيكون السؤال الإستراتيجي وهو : ماذا لو لم ينتصر المشروعان وأتفق الطرفان، فإن إتفاقهما سيكون بتقاسم المنطقة .