4 دقائق
يقول الأديب (توفيق الحكيم): “إنّ أقرب السبل إلى إعادة حُسن الظن بالأخلاق والمُثل العليا هو وجود المَثل بالفعل! هو ظهور رجلٍ واحدٍ، ومَثلٍ واحدٍ حيٍّ نراه بأعيننا، ونسمع صوته بآذاننا، ونلمسه بأيدينا، ونتبعه بأفئدتنا!”.
فكيف بوجود الآلاف، بل مئات الآلاف من الأمثلة الحيّة للخُلق والإيمان والثبات مجتمعةً في “أرض العِزّة”؛ ألا تكفي لبعث رُوح الفضيلة في العالم بأسره!
قرأتُ كتاب (وجه آخر للطوفان) الذي صدر قبل أيام قليلة، للكاتبة الأديبة: أسماء عبد الراضي، تقديم الأديب: عبد المنعم أديب.
وهو مجموعة من القصص القصيرة في مئة وثمانٍ وعشرين صفحة؛ فيها من الصدق ما فيها، وبها من الألم ما بها، ولها من الهَيبة ما لها، وعليها من الوقار ما عليها!
أهدتها الكاتبة “إلى فلسطين: كبارها وكبارها، نسائها ورجالها، سمائها وأرضها، شجرها وحجرها، طيرها وجمادها، ظلّها وحرورها..”.
كلُّ قصةٍ جرح، كلّ حوار وكلُّ تفصيل درسٌ يصعب محوه من الذاكرة.
تستوقفك العناوين في مطلع الكتاب .. تقف أمامك مثل بوَّابة عظيمة بينك وبين طوفان الألم .. تهابُها؛ كتلك الأخبار العاجلة الحمراء التي لا أجرُؤ على النظر في تفاصيل صورها على شاشة الرائي!
صوت “انتفاضة الزيتون” يكاد يصمّ الآذان.. و”السائرون قسرًا” من “المخيّم” إلى المخيّم يعبرون فوق “حطام” طويلٍ طويل .. نحو وجهةٍ “خارج نطاق الحياة”؛ يحملون “مفاتيح العودة”، و”كابوس” “العطش”، والجوع، والقهر؛ صامدين “حتى مطلع النصر”..
يصحبك خلال قراءتك نبضات قلبك ارتفاعًا واضطرابًا؛ تبكي لطفلٍ أنهكه المشي حافيًا حتى الإغفاءة الأخيرة .. تثور وتغضب وتنتحب لـ”نازح بدرجة طبيب”، لِجَدَّةٍ قضت بـ”جرعة ألم زائدة” .. وأنت في كلّ ذلك جالسٌ على مقعدك، عاجزٌ إلا عن متابعة القراءة وعدم الرضا والدعاء!
تُريك الكاتبة بجلاءٍ كيف يُؤثِر أبطالها -صغيرهم وكبيرهم- على أنفسهم وفيهم جميعًا خصاصةٌ أيّ خصاصة! وليس مَن يؤثِر وبه خصاصة، كمن يُؤثِر وليس به خصاصة! تلك منزلةُ “ولو” في الآية الكريمة، قد بلغوها ثم عبروها!
أَقرأ .. “أقف وأدوات الاستفهام جميعها تُقيم معاركها في رأسي..”.
“صفوف، المشهد هنا صفوف متاخمة لا تتنفّس؛ صف المخابز، صف الحمّام، صف السيارات، صف شحن الهواتف، وصف كهذا الذي أقف فيه الآن،غير أنّ أشد الصفوف طولًا ، كان صف انتظار الفرَج!”.
“المخيّم هو فنّ انتهاك الخصوصية!”.
كنتُ أنتقل من قصةٍ إلى قصة، ومن وجعٍ إلى وجع .. وعلى طول الكتاب تحاصر سمعي أبياتُ الشاعر (إبراهيم طوقان)، وتتردّد في صدري هديرًا لا يتوقّف..
لا تَسلْ عن سلامتِهْ
روحه فوق راحتِهْ
بـدَّلَــــتْهُ همــــومُهُ
كفنًا من وسادِتهْ
يَرقبُ الساعةَ التي
بعدَها هولُ ساعتِهْ
شاغلٌ فكرَ مَنْ يراهُ
بإطـــــراقِ هامتِهْ
بيْنَ جنبيْهِ خافقٌ
يتلــــظَّى بغـــايتهْ
هو بالباب واقفُ
والرًّدى منه خائفُ
فاهدئي يا عواصفُ
خجلاً من جراءتِهْ
صامتٌ لوْ تكلَّما
لَفَظَ النَّارَ والدِّما
قُلْ لِمن عابَ صمتَهُ
خُلِقَ الحزمُ أبكما
لا تلوموهُ قد رأى
منْهجَ الحقِّ مُظلما
وبــــلادًا أحبَّها
ركنُـــها قد تهدًّما
وخصومًا ببغْيِهم
ضجَّت الأَرضُ والسما
أجلْ! إنّ الواقع يَصنع أحسنَ القصص (بشهادة رب العالمين) .. والقصص تُقرأ وتُذاق ولا تُشرح، فالتمسوها في الكتاب.
غير أنّي لا يمكن أن أتجاوز التقديم البديع للأديب (عبد المنعم أديب)، والعبارة التي خَتم بها؛ تلك العبارة التي هزت كل كياني .. واستدعت كلّ أسباب الأمل، ورَوَتْ كُلَّ بواعث الإيمان .. عبارة تحكي عن الغيب بيقينٍ مِن عالِم الغيب والشهادة، وتوكُّلٍ على الرءوف الرحيم..
فكنت كلّما قرأتُ قصَّةً من الكتاب، وأحرقَتني دموعي؛ عدتُ إلى تلك العبارة .. وكلّما استبدَّ بي الغضبُ فأشعلَ جمرَه في فؤادي؛ تذكّرتُها لأستعيد هدوئي من جديد..
الواو في بدايتها تحكي ما كان ويكون من جهادٍ نبيلٍ طويل..
واللام بعدها تبسط يدها؛ لتقول: اُثبتي وأبشري..
ثم يأتي حرف الاستقبال بالرجاء الذي يعتصم بحبله أبطال الطوفان، يستمدّون منه صبرَهم وتراحمهم.. إنَّا نراه بعيدًا، ويرونه قريبًا!
هاتِ بطاقةً صغيرةً وقلمًا، واكتب فيها: “ولسوف يرضى”
ثم أبرزها في وجه كلّ من يتفلسف ويتثاقف، متسائًلا عن جدوى ما يجري في أرضنا المحتلّة؛ فالصّمتُ في حَرَمِ الجلالِ جلالُ.
إنَّ قصص الرُّوح لا تُقرأ إلا بالرُّوح .. ولا يُكتب عنها إلا بمدادٍ من رُوح.
“ولسوف يرضى” .. لنجعلها في وجداننا وأعيننا وجناننا.
علَّمَنا رسول الله ﷺ والصحابة من بعده، كيف نجمع بين الإيمان الكامل بوعد الله فيما نعقِل وما لا نعقِل، وبين التخطيط الكامل لكلّ عمل بأقصى الإمكان.
وإنّه لَجمعٌ عسيرٌ جدًّا إلّا على من يسرّه الله له.
فمن الناس من يركن إلى الأسباب ويعتمد عليها وحدها -وإن كان مؤمنًا- .. ومنهم من يتمنّى على الله سبحانه ويفرّط في العمل -قليلًا أو كثيرًا-..
استأذن حسانُ بن ثابت -رضي الله عنه- رسولَ الله ﷺ في هجاء المشركين، فقال له:
اُهجُهُم (أيْ المشركين) ورُوحُ القدُس معك (أيْ جبريل -عليه السلام-)!
هو شاعر متمكّن من اللغة والفن، ثم يعلم بأنه مؤيَّد بمدد من السماء، فكيف ستكون عزيمته؟!
وهل حدث من قبلُ أن قيل لجاهلٍ أو بليدٍ إنَّ قوةً عليا معك فتَحوَّلَ إلى عالِمٍ مجتهدٍ عقب ذلك القول؟!
وكم رأينا ونرى سعيًا لمؤمنين لم يبلغ مرّةً حدَّه الأقصى -إلا ما رحم ربي-؛ فكانت نتائجه خادعة للضعفاء والمنهزمين والمفرّطين.
وكم شهدنا ظفرًا لأممٍ بذلت الجهد -بلا إيمان-؛ فكان انتصارها فتنة كبيرة للمؤمنين العاملين وغير العاملين.
وكذا الأخذ بالأسباب كلِّ الأسباب ( بعد عقود من تركها وإهمالها) لن يؤتي أُكله حتى حين، فما بدٌّ من دفعِ ضريبة الصبر زمنًا على تحصيل المراد حتى يأذن الله بالنصر..
إنّ الصراع الآن دائرٌ بين بشرٍ من لحم ودم، وطائرات يُتحكّم بها مِن بُعد، عقيدةُ أصحابها: القتل عند المقدرة! فكيف سنقيس وعد الله في كتابه الكريم في هذه الحال؟!
وإنَّا نذوق الآن مُرّ الإفساد الذي ظهر في البر والبحر، لكي نرجع إلى الإصلاح وقد حُرمناه.. والممنوع مرغوب ومشتهى، وحاضرٌ في البال لا يغيب..
الممنوع مقدَّم على ما سواه حتى يصير متاحًا..
قد يفتُر حبُّ المحروم لِما حُرمَه مِن متاع الحياة الدنيا، ولكنّ حرمانَ الحقوق، وغصبَ الأرض، والبغيَ على الناس؛ براكينُ تتأجج نارُها في النفوس المكلومة كلما اشتد بها ظلم الظالمين.
والله غالب على أمره .. بنا أو بغيرنا .. وما خُلِقت السموات والأرض إلا بالحق .. وبين الحق والقوة رباط وثيق، قديم قِدمَ الحياة.
الحق منصور في نفسه، والباطل قد يعلو قليلًا كالزبد، ثم يذهب جُفاءً..
إنّ النصر والهزيمة توأمان يوجدان معًا في المكان نفسه، ولهما معايير مختلفة عند كل طرف .. فهل يعتبر الكيانُ نفسَه قد فاز في معركة طوفان الأقصى؟ وهل رضي المستوطنون بما سفكوه من دم إخواننا حتى الآن؟ اللهم لا!
لا أعرف بالضبط ما الذي يحرّك مشاعر العدو فرحًا أو حزنًا. وأعتقد أنّهم لا يملكون من هذه المشاعر شيئًا كباقي البشر.. فالفرح والحزن عاطفتان ساميتان تعالجان القلوب الحيَّة فقط.. قد تلائمهم صفاتٌ أخرى أدنى إنسانية، كالغضب العارم والحقد الأسود والبطر الأعمى.. ليس ذلك من قَبيل شيطنة العدو؛ بل لأن مبدأ (حق القوة) يتنافر بطبيعته مع نبل المشاعر، بل مع وجودها أصلًا!
ما يحصل هو جولة في معركة كبرى متواصلة حتى يأذن الله بنهايتها .. ليست فوزًا نهائيًّا ولا خسارة، مع ما تحمله من ملامح كثيرة للفوز والخسارة المترافقين هنا وهناك .. إذ كيف لبشر أن يَختزلَ بكلمة واحدة كلَّ ما حدث على السطح وفي العمق خلال تلك الشهور الطويلة، في كل شارع من شوارع غزة وفي كل بناء من أبنيتها أو بيت من بيوتها؟!
لا تطلبوا ولا تنتظروا من أبطال غزة كلامًا، أو تحليلًا، أو تبريرًا في المعركة المستمرة إلى ساعة الناس هذه!
هم قدّموا أعظمَ ما يمكن أن يُقدَّم في مواجهةِ مقتلةٍ همجيةٍ بربرية، ثباتًا وإيمانًا وصبرًا على معاناة لا تطيقها الجبال.
وهل يُنقِص الموتُ أو الدمارُ أو النزوحُ أو العجزُ من بطولاتهم!
لا والله! لا يُوزَن صبرُهم وألمُهم وثوابُهم إلا بميزانِ مَن لا يظلم مثقال ذرة..
إنَّ الأفعال يعلو صوتها فوق الأقوال .. والقول في زمن الفعل ليس سوى معذرة عن العجز.
فلا الجريمة تمحوها التصريحات السياسية..
ولا دعاوى المنافقين المرجفين تُبطل صمود الصامدين.
هو بالباب واقفُ
والرّدى منه خائفُ
فاهدئي يا عواصفُ
خجلًا مِن جراءته