المسافة بين خدمة الدين واستخدامه كبيرة، بين التضحية لأجل إعلاء كلمة الله التي تعني العدالة والمساواة والفلاح في الدنيا والآخرة، وبين استغلال نصوص الوحي المقدس لاحتياز المغانم والمكاسب والتسلط على عباد الله؛ وحينها يتحول الدين إلى أفيون الشعوب؛ لأن كبار الكهنة يجعلون منه مصدر استرزاق وهيمنة على البشر كما فعلت بنو إسرائيل الذين قال الله فيهم: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187).
وقد انتقلت عدوى استخدام الدين وتحريف نصوصه إلى ساحتنا الإسلامية عبر تيار التفسير العائلي للإسلام، إذ اخترعت الشيعة فكرة حصر الإمامة في أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاولت توظيف كل شاردة وواردة لتعضيد خرافتهم المركزية.
ومن أغرب التحريفات قصة (غدير خم) التي يحتفلون بها سنوياً، ويجعلون منها “سوقاً” كبيراً لجلب التعاطف الشعبي، وتعبئة الأجناد خدمة لمشروعهم السياسي المدمر.
والقصة كما يرويها أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً بن أبي طالب لتخميس الغنائم التي جاء بها خالد بن الوليد من بعض أحياء اليمن، فخمّس علياَ الغنائم وأخذ خمس النبي واصطفى منه جارية، فاستنكر عليه بعض القوم ومنهم الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي حتى شكاه إلى النبي فقال له النبي: (يا بُرَيْدَةُ، أتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، قالَ: لا تُبْغِضْهُ؛ فإنَّ له في الخُمُسِ أكْثَرَ مِن ذلكَ) (صحيح البخاري:4350).
وبينما هم في طريق العودة إذ استأذن منه أصحابه أن يركبوا على إبل الصدقة تخفيفاً على رواحلهم، فأبى أبو الحسن ذلك عليهم قائلاً: (إنما لكم فيها سهمٌ كما للمسلمين). (البيهقي، دلائل النبوة (٥/٣٩٨)).
وبينما هم في طريق العودة إذ أخذت أبا الحسن -رضي الله عنه – رياح الشوق لملاقاة النبي فأوكل إمرة القافلة إلى أحد أصحابه، وسبقهم إلى مكة، فلما لحقته القافلة إلى مشارف مكة استقبلها أبو الحسن فوجد أن القوم قد لبسوا ثياباً جميلة انتزعوها من بين الصدقات، ورغبت نفوسهم في الوفود على النبي بمظهر جميل، فاستشاط أبو الحسن غضباً، ووبخ صاحبه قائلاً: (وَيْلكَ! انْزِعْ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ… فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنْ النَّاسِ، فَرَدَّهَا فِي الْبَزِّ.. وَأَظْهَرَ الْجَيْشَ شَكْوَاهُ لِمَا صُنِعَ بِهِمْ) (سيرة ابن هشام (4/603)).
وهنا تفجرت النفوس على أبي الحسن، بعد ثلاث مواقف مترادفة، حتى اشتكت طائفة من الجيش للنبي هذه الخشونة التي لاقوها من علي بن أبي طالب، فكان لا بد للحكمة النبوية أن تعالج الموقف الذي أبدى فيه أبو الحسن صرامة في التعامل مع المال العام، فوقف النبي وبيـّن لهم صوابية موقف أبي الحسن من المال العام ونزاهته، ثم أعاد الاعتبار لمبعوثه الذي غضب عليه الجيش بقوله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه» رواه النسائي والترمذي والحاكم وغيرهم وصححه الألباني. فبردت النفوس، وأقر الناس اجتهاد أبي الحسن.
وليس في الحديث أدنى إشارة للولاية السياسية التي يزعمها كهنة التفسير العائلي للإسلام، ولم يفهم أحد ذلك، لا علي بن أبي طالب ولا الصحابة الذين حضروا غدير خم، إذ القصة وردت في إعادة الاعتبار لموقف علي وشخصيته التي تعرضت لعاصفة من النقد الشديد، إزاء تصرفه مع الجيش.
و تذكر المصادر الشيعية أن الذي حضر هذه الخطبة 120 ألفاً من الصحابة – وهذا غير صحيح لأنها تمت بعد انصراف الناس من الحج- ثم تُعقّب السردية الشيعية بقولها، أن 11 من الصحابة هم الذين التزموا الوصية، وأقروا لعلي بالخلافة من بعد النبي!
وهنا تثور أسئلة منطقية:
– هل يعقل أن يتجاهل 120 ألفاً من الناس وصية النبي لأبي الحسن؟ وهم السبّـاقون إلى امتثال أوامر النبي؟!
– وهل يعقل ألا يخرج أبو الحسن بــــ 1% من الصحابة الذين حضروا غدير خم يؤيدون حقه في الخلافة؟
– وهل يعقل أن “يدعمم” (يصمت) علي بن أبي طالب ويبايع الثلاثة من قبله (الصديق والفاروق وعثمان)، بل ويزوج ابنته من الفاروق، دون أية اعتراض؟
– بل إنه حين طعنه الخارجي ابن ملجم، طلب منه أصحابه أن يولّي عليهم ابنه الحسن، فأبى وتركهم كما تركهم النبي يدبّرون أمر ولايتهم بأنفسهم؟
– وهل يعقل أن تكون الوصية لعلي شِرعة سرمدية، ثم يتنازل عنها ابنه الحسن لمعاوية، وينزوي عنها الأئمة من بعده كزين العابدين والباقر، والصادق، والكاظم، وغيرهم؟
كل هذه الأسئلة لن نجد لها عند الشيعة جواباً، وما ثم إلا الأهواء والمطامع تعصف بهم.
بل بلغت الوقاحة أن الهالك الخميني رمى التبعة على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال الخميني: (من الواضح أن النبي لو كان قد بلغ بأمر الولاية طبقا لما أمره الله وبذل المساعي في هذا الأمر لما نشبت في البلدان الاسلامية كل تلك الخلافات والمشاحنات) “كشف الأسرار:55”.
وقد بقيت قصة الغدير غائبة عن التوظيف الشيعي حتى جاءت دولة بني بوية، فابتدعت الاحتفال بيوم الولاية في 18 ذي الحجة، قال المؤرخ المقريزي: (اعلم أن عيد الغدير لم يكن عيداً مشروعاً ولا عمله أحد من سالف الأمة المقتدى بهم، وأول ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة علي بن بويه، فإنه أحدثه في سنة (352هـ) ، فاتخذه الشيعة من حينئذٍ عيداً). الخطط للمقريزي (1/388).
ثم قلدهم الفاطميون في مصر، وقد نشأت في اليمن دويلات زيدية عديدة ولم تعرف الاحتفال بالغدير، حتى أدخلها القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري في القرن الحادي عشر الهجري أيام إمامة المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، كما ذكر ذلك شيخنا العلامة العمراني رحمه الله.
وقد حافظ عليها الأئمة الزيدية بعد ذلك حتى اندثرت عقب ثورة 26 سبتمبر1962م، ثم جاء الحوثي، وجعلها واحدة من مواسم التعبئة لحشد الأغرار والجهلة في مشروعه الكهنوتي البغيض!