في تاريخ الأمم، هناك لحظات تبدو وكأنها فُرص تاريخية لإعادة التأسيس، لحظات يجتمع فيها الفرقاء لرسم مستقبل بلادهم. لقد كان مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن (2013-2014) إحدى هذه اللحظات التي عُلقت عليها الآمال. لكن بالنظر إلى الأنقاض التي تقف عليها اليمن اليوم، يتضح أن ذلك المؤتمر لم يكن حجر زاوية لبناء جديد، بل كان أقرب إلى عملية ترميم تجميلية لواجهة بناء آيل للسقوط، بناء أقيم على غير أساس، وباستخدام مواد بناء لا تتوافق مع طبيعة الأرض التي شُيّد عليها. ومع ذلك يعتبره الفرقاء السياسيين والنخب المثقفة “مرجعية” يبنى عليها مستقبل البلد وهذا يتطلب فتح هذا الملف وبيان كارثيته.
إن فشل الحوار الوطني ليس فشلاً في التفاصيل أو النوايا، بل هو فشل معماري بامتياز. لقد انطلق من مخطط هندسي خاطئ، وشخّص علة البناء بشكل سطحي، وقدم حلولاً زادت من تفكك هيكله. لفهم هذا الإخفاق، يجب أن نتخيل الدولة اليمنية كصرح معماري، وأن نحلل الأزمة من منظور المهندس الذي يتفحص الأساسات والمواد والهيكل، لا من منظور السياسي الذي يكتفي بالنظر إلى الواجهة.
خطأ التشخيص: الخلط بين الدعامة والأساس
لقد تعامل مهندسو الحوار الوطني مع المركزية المفرطة باعتبارها العيب الإنشائي الجوهري في صرح الدولة اليمنية. وبناءً على هذا التشخيص، كانت وصفتهم الهندسية هي تفكيك هذه المركزية عبر نظام الأقاليم الفيدرالية. كان هذا أشبه باستدعاء مهندس لمعاينة مبنى مليء بالشقوق، فيشير إلى الدعامة الخرسانية الضخمة في وسطه ويقول: “هذه هي المشكلة! إنها تشوه التصميم وتستهلك المساحة. فلنزيلها ونقيم مكانها جدرانًا داخلية جميلة”.
ما غاب عن هذا المهندس هو أن هذه الدعامة القبيحة لم تكن جزءًا من التصميم الأصلي، بل أضيفت على عجل وبشكل قسري لمنع السقف من الانهيار. لم تكن المركزية هي المرض، بل كانت عَرَضًا ودواءً مريرًا في آن واحد لمشكلة أعمق بكثير: عدم تطابق المخطط الهندسي (النظام الجمهوري) مع مواد البناء المتاحة (المجتمع اليمني).
لقد استوردت اليمن مخططًا جاهزًا لدولة حديثة صُمم في أوروبا. هذا المخطط يفترض البناء بوحدات قياسية موحدة هي “الفرد المواطن”، الذي ترتبط به الدولة مباشرة عبر مؤسسات حديثة. لكن عندما شرع البناؤون في اليمن بالتنفيذ، وجدوا أن هذه “الوحدات القياسية” نادرة بل تكاد تكون غير موجودة. ما وجدوه بدلاً منها هو كتل صخرية طبيعية ضخمة وغير منتظمة هي “القبائل”. في مواجهة هذا الواقع، ولأن المخطط لا يعترف بهذه الكتل الصخرية، لم يكن أمام الدولة الجمهورية سوى اللجوء إلى القوة لفرض شكل المخطط. لقد نصبت تلك الدعامة المركزية الضخمة (الجيش، البيروقراطية، السلطة الأمنية) في قلب البناء لتمسك أجزاءه المتنافرة وتمنعه من التفكك. كانت المركزية إذن آلية بقاء اضطرارية، وليست خيارًا.
مأساة مواد البناء: الصخر الأصيل والإسمنت الدخيل
تكمن المأساة الحقيقية في الصراع بين طبيعة مواد البناء الأصلية والمواد التي يتطلبها المخطط المستورد.
الطوب الإسمنتي المستورد: "الفرد"
الجمهورية الغربية، كمشروع معماري، تُبنى بوحدات متجانسة ومصنعة هي “الطوب الإسمنتي” أو “البلوك الخرساني”. هذه الوحدة هي “الفرد المواطن”. يتميز هذا الطوب بأنه قياسي، يمكن رصه بسهولة في هياكل مؤسسية ضخمة (أحزاب، نقابات، مجالس نيابية)، ويسمح ببناء صروح شاهقة ومنظمة. هذه المادة، ورغم فعاليتها في بيئتها الأصلية، تكاد تكون “مادة مستوردة” نادرة ومكلفة في اليمن. توجد منها كميات محدودة في المراكز الحضرية، لكنها تغيب تمامًا عن المشهد العام للبلاد. أن تحاول بناء دولة بحجم اليمن بهذه المادة القليلة هو كمن يحاول بناء سد ضخم بحفنة من الطوب المستورد.
الصخر المنحوت المحلي: "القبيلة"
في المقابل، فإن المادة الخام المتوفرة بغزارة في كل تضاريس اليمن، والتي تشكل جيولوجيا المجتمع نفسه، هي “الصخر المنحوت”. هذه المادة هي “القبيلة”. كل قبيلة هي كتلة صخرية فريدة، ذات شكل ووزن وخصائص متفردة، نحتتها عوامل التاريخ والجغرافيا لآلاف السنين. إنها مادة بناء فائقة الصلابة والمتانة، ومتكيفة تمامًا مع بيئتها. هذه الصخور ليست مجرد كتل جامدة، بل هي “وحدات سياسية ذات سيادة”. لكل منها قوانينها وآليات توازنها.
المعماري الأصيل والخبير لا يرى في هذه الصخور عائقًا، بل يرى فيها فرصة. إنه يدرك أن هذه الكتل، على الرغم من عدم تجانسها، يمكن برصها وتنسيقها بحكمة وبراعة (كما في بناء القلاع والحصون اليمنية الشاهقة) لتشكيل بناء عضوي، متين، وراسخ كالجبال.
فشل المحاولة الهندسية: التكسير والتجاهل
عندما واجه مهندسو الدولة الجمهورية هذا التناقض بين المخطط والمواد، اتبعوا استراتيجيتين كارثيتين:
1. استراتيجية التكسير (جنوبًا): في جنوب اليمن، حاولت الدولة الاشتراكية بالقوة “تكسير” هذه الصخور الصلبة (القبائل) وتحويلها إلى حصى صغيرة لخلطها في الإسمنت الاشتراكي المستورد. لقد دمروا بذلك القوة الكامنة في الصخر الأصيل، وأنتجوا خرسانة هشة وضعيفة سرعان ما تشققت وانهارت مع أول هزة (سقوط الاتحاد السوفيتي).
2. استراتيجية التجاهل والرقع (شمالًا): في الشمال، تم بناء هيكل هزيل من “الطوب الإسمنتي” المتاح في المدن، ثم تُركت فجوات هائلة بين هذا الهيكل وبين بحر الصخور المنحوتة المحيطة به. وحاولت الدولة “ترقيع” هذه الفجوات بالمحسوبية وشراء الولاءات، وتحويل الشيوخ من “قادة محليين” إلى “مقاولين وجنرالات” للدولة المركزية. النتيجة كانت بناءً مشوهًا: واجهة جمهورية حديثة، لكنها واجهة جوفاء لا ترتكز على أساس حقيقي، بل تستند على شبكة هشة من المصالح والولاءات المؤقتة. لم يتم دمج الصخور في البناء، بل تم التعامل معها كعقبات أو كمصدر للعنف.
الحوار الوطني: من ترميم فاشل إلى تصميم للتفكك
في هذا السياق المعماري المنهار، جاء مؤتمر الحوار الوطني كمشروع ترميم. لقد تجمع “الخبراء” داخل الجزء الإسمنتي الهش من البناء، ونظروا إلى الشقوق المتزايدة، وقرروا أن الحل يكمن في إعادة تقسيم الغرف (الفيدرالية)، وتغيير لون الطلاء (دستور جديد)، وتركيب نوافذ أوسع (حقوق وحريات).
لقد كانت “فقاعة سياسية” بكل معنى الكلمة. لم يجرؤ أحد من الحاضرين على الخروج من المبنى وتفحص أساساته، لم يجرؤ أحد على الاعتراف بأن المشكلة ليست في تصميم الغرف، بل في أن البناء كله يقف على أرض غير مستقرة وبمواد بناء متنافرة. وبدلاً من معالجة هذا الخلل الجذري، كانت النتيجة أسوأ: لقد تحول مشروع الترميم الفاشل إلى مخطط هندسي للتفكك. كانت مخرجات الحوار، المتمثلة في دولة الأقاليم، بمثابة التخلي عن فكرة “البناء الموحد” من الأصل. لقد كانت النتيجة المعمارية هي تصميم أبنية منفصلة وصغيرة (الأقاليم) في كل مركز حضري، تُبنى بالكامل من “الطوب الإسمنتي” المستورد، وتُقام على أرض معزولة عن محيطها الصخري الطبيعي. هذه الأبنية الصغيرة غير متصلة ببعضها بأي رابط عضوي؛ لا أساس مشترك يربطها، لا جسور هيكلية تصل بينها، ولا إطار معماري جامع يوحدها. لقد كانت وصفة للتنافر والانعزال، حيث يصبح كل إقليم “بناءً” مستقلاً بذاته، ينافس الأبنية الأخرى على الموارد، ويعادي المحيط الصخري (القبلي) الذي يراه غريبًا عنه. وهكذا، فإن النتيجة الحتمية لمثل هذا المخطط لم تكن الوحدة، بل التفكك الحتمي. لقد كانت وثيقة المخرجات، التي تجاهلت “الصخر” المكون للبلاد، مجرد مخطط لبناء أرخبيل من الجزر الإسمنتية المعزولة في بحر من الواقع الصلب.
نحو هندسة معمارية يمنية أصيلة
إن أي محاولة مستقبلية للبناء على مخرجات الحوار الوطني هي تكرار لنفس الخطأ الهندسي الكارثي. الحل لا يكمن في استيراد مخطط أفضل من فرنسا أو سويسرا، بل في التخلي عن هوس “الطوب الإسمنتي” المستورد، والبدء في دراسة خصائص “الصخر المنحوت” المحلي. كيف تتوازن هذه الكتل؟ كيف تتشابك؟ ما هي نقاط قوتها؟ إن بناء دولة مستلهمة من بنية القبيلة وآلياتها لا يعني العودة إلى الماضي، بل يعني التقدم نحو المستقبل على أساس صلب ومستدام. إنه يعني تصميم صرح معماري فريد، لا يفرض نفسه على الطبيعة، بل ينمو منها ويتناغم معها.
لقد حان الوقت لليمنيين أن يدركوا أن صرحهم لن يُبنى إلا بحجارتهم هم، وأن أي بناء يُقام بمواد غريبة، مهما بدا جميلًا في المخططات، مصيره إلى زوال.