أولًا: المراد بآل محمَّد ومعناه:
أصل (الآل) ما يؤول إليه الشيء، آل إليه الأمر أي رجع، وفي العين “آل يَؤُولُ إليه، إذا رجع إليه(1)، وآل الرجل ما يرجع إليه بالاتباع وهم الأولى بالانتساب ومن الآل عشيرته ونساؤه ومواليه، كون معنى الآل المرجع.
قال ابن منظور في معجم لسان العرب: “قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمد” من آل محمد؟ فقال: قال قائل آله أهله وأزواجه… وقال قائل آل محمد أهل دين محمَّد… وذهب ناس إلى أنَّ آل محمد قرابته التي ينفرد بها دون غيرها من قرابته … وقال قائل آل محمد أهل دين محمَّد… وقيل: آله أصحابه ومن آمن به (وهو في اللغة يقع على الجميع)(2) قال: “وهو في اللغة يقع على الجميع”، وفي معجم مختار الصحاح: “آل الرجل أهله وعياله (وآله) أيضًا أتباعه”(3). وجاء في المصباح المنير: “والآل: أهل الشَّخص وهم ذوو قرابته، وقد أطلق على أهل بيته وعلى الأتباع”(4). ومثل ذلك ذهب صاحب القاموس. وجاء في لسان العرب أيضًا: “قالت: طائفة آل النبي صلى الله عليه وسلم من اتبعه قرابة كانت أو غير قرابة، وآله ذو قرابته متَّبعًا أو غير متبع”(5) ابن منظور هنا يفرق بين آل محمد وبين آله المضافة إلى الضمير وعلى كل مما سبق لغويًّا فآل الرجل في العربية على ثلاثة أقسام:
-أتباع الرجل.
-أهل بيته ومواليه.
-أقربائه ومواليهم.
أدلة القرآن والسنة في أنَّ الأتباع من الآل أو هم الآل:
نبدأ بآيات القرآن الكريم قال الله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين …) الآية .. آل فرعون أتباعه، أي قومه، و(السنين) أي الجدب واحدة من آيات تسع نزلت عليهم، وقد يفسر القرآن بعضه بعضًا ففي سورة [هود97- 98](… وما أمر فرعون برشيد * يَقدُم قومه يوم القيامة …) فقومه الذين يقدمهم إلى النار هم في سورة [غافر 46] آله، قال الله: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) فآله هم القوم الذين يقدمهم، يعني أتباعه.
وقال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ *فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) من الذين أغرقهم الله؟ هم قومه أي آله دليله في سورة البقرة أيضًا: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) [البقرة : 50] وهذه تفسر معنى قومه الذين أغرقهم.
أدلة السُّنَّة:
أدلة السنة ورد في البخاري عن ابن عباس رضي عنهما: “(آل عمران): المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنَّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) [آل عمران: 68] وهم المؤمنون (6). وورد في البيهقي والطبراني من طرق عدة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم:” من آل محمد؟ قال :«كلُّ تَقِيٍّ من أمة محمد» ثم قرأ (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلّا الْمُتَّقُونَ) (7).
وقال محمد بن أحمد الهروي (المتوفى: 370هـ) في كتابه (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) بعد أن نقل قول الإمام الشافعي في أن آل الرسول هم أقرباؤه الذين حرمت عليهم الصدقات قال: “وقال غيره: آل الرسول أهل دينه الذين يتبعون سنته كما أن آل فرعون في قوله تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) هم أهل ملته الذين تابعوه على كفره وكأن هذا القول أقربها إلى الصواب”(8).
إذا آل محمد كما آل إبراهيم هم في الأصل أتباعه الذين مرجعهم ومآل أمرهم واقتدائهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القرابة والأبناء والنساء والموالي فإليه يؤول أمر رعايتهم وصلة رحمهم وقيادتهم الدنيوية وهذا شأن كل رب بيت أو قائد أسرة، وإذا مات آل أسرة أو عشيرة آل أمر رعايتهم إلى غيره، ومن كان منهم مؤمنًا فهو من آل النبي اتباعًا واقتداء وكفى به شرفًا.
وقد حددت الآيات من هم الأولى بالانتساب إلى أبي الأنبياء (إنَّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [آل عمران:68]، وقال (فمن تبعني فإنه مني) [إبراهيم: 36]، والملاحظ ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه في الأولى بإبراهيم يشير إلى أنَّ نبينا امتداد للأنبياء والمؤمنين الذين اصطفاهم الله من آل إبراهيم ومنه جاءت الصلاة الإبراهيمية مقرونة بالنبي إبراهيم.. ولقد نسب الله محمَّدًا وأتباعه إلى إبراهيم نسب اصطفاء أيضًا، وجعله أبًا لهم فإنما هي أبوة الدِّين قال: (ملة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين) [الحج:78] النَّسب الأول (وأمرت أن أكونَ من المسلمين) فهو أبو كل مؤمن وليس أبا ذرية منهم الفاجر والفاسق، وإلا لكنا نصلي في الصلاة الإبراهيمية على أبي لهب وعلى إسحاق رابين، وشارون، ونتنياهو، وكل أكابر مجرميها، ولقد أعطانا الله دروسًا قرآنية في أنَّ ابن نوح، وأبا إبراهيم، وزوجة لوط، وعم محمد، لم ينفعهم قربهم من النبي جينيًّا أو نسبًا.. ولم يذكر الله في كتابه اسم أبي جهل ولا أبيّ بن خلف، بل ذكر عم النبي محمد أبا لهب أنه في جهنم وذكر من المؤمنين في القرآن مولى من الموالي زيد بن حارثة كل هذه أدلة على أنه لاحظ من قريب ولا من بعيد لأحد إلا بتقوى الله.
ولجهل بعض الناس بدينهم هناك للأسف الكثير من يذهب تصورهم حين يقرأ قول الله تعالى: (إنَّ الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) [آل عمران:33] إلى أنهم أقرباء إبراهيم لمجرد قرب النسب وربما ساوره الشك في التمييز بالقرابة، ولو كان الأمر كذلك لقد كان أولى الناس بالاصطفاء أبوه الذي كان إبراهيم عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام كان حريصًا جدًا على إيمانه، لكن حرص إبراهيم وقرب أبيه لم يشفع له؛ لأنَّ القرب هو القرب من الله والتسليم له، قال الله في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (وأمرت أن أكونَ من المسلمين) [النمل:91] واحدًا من المسلمين.
فمن هم آل إبراهيم الذين اصطفاهم الله؟
إنهم المصطفون بالرسالة وصالحو المؤمنين إنهم إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وأيوب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وإلياس، وعيسى، وزكريا، ويحيى، ويدخل فيهم آل عمران ومحمد والذين آمنوا هؤلاء ومن آمن هم الذين اصطفاهم الله على العالمين ذرية بعضها من بعض معيارها التقوى.
ولو كان المراد بمصطلح آل إبراهيم هم المنتسبون سلاليًّا المجرد لما اتفق مع الاصطفاء لعن الله الفاسقين من ذرية إبراهيم والغضب عليهم ثمَّ كيف يحول الله من اصطفاهم إلى قردة وخنازير كيف يصطفيهم، ثمَّ يزدريهم ويحتقرهم ويلوثهم بصفة أقذر المخلوقات، بل هذا الاحتقار جاء من أنهم لا علاقة لهم بالمصطفين الأخيار واعتدوا بنسب الطين لا نسب الدين كما اعتد إبليس بأصل الخلق لا بشرف العبودية فناله من الله الاحتقار وضرب عليه الصغار (فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) [الأعراف:13] من الصاغرين أي وضيع القيمة حقير القدر (قال فاخرج منها فإنك رجيم) لم يخرجه بل طرده طرد مدحور مخزي ثم جعل رجمه الذي فيه احتقار منسكا تعبديا عبرة لكل متكبر مثله بأصل الخلق أنه حقير رجيم لا عظيم ولا كريم وهذا معنى أن الله يحشر المتكبرين يوم القيامة أحقر من الذر تطؤهم الناس بأقدامهم احتقارا لهم واستصغارا.
واللافت أن تجد الكثير من الفقهاء والمحدثين يعرفون آل النبي بمن حرمت عليهم الزكاة بدون رابط ولا ضابط فما علاقة تحريم الزكاة بالصلاة على أناس مخصوصين سوى علة القرب؟ جاء هذا الرأي متأثرًا بتعريف زيد بن أرقم رضي الله عنه لأهل البيت أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وقد رده تعريف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي في مبحثه، وإنما حرمت الزكاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفيًا لشبهة استئثار النبي وقرابته الذين هم عشيرته ونساؤه ومواليه بالمال العالم وقد انتهى التحريم بانتهاء أداء الرسالة، وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى.
على أنَّ الأدلة الحديثية متضافرة على تأكيد قرب التقوى وتحذير النبي لبني هاشم من مغبة الاعتداد بالنسب بدل التقوى والدِّين.
عن الحكم بن مينا الأنصاري أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ اجمَع لي مَن هاهنا مِن قريشٍ فجمَعَهم ثمَّ قال يا رسولَ اللهِ أتخرُجُ إليهم أم يدخُلون قال: بل أخرُجُ إليهم، فخرَج فقال: “يا معشرَ قريشٍ هل فيكم غيرُكم؟” قالوا لا إلّا بنو أخَواتِنا. قال: “ابنُ أختِ القَومِ منهم” ثمَّ قال: “يا معشرَ قريشٍ إنّ أوْلى النّاسِ بالنَّبيِّ المتَّقون فانظُروا لا يأتي النّاسُ بالأعمالِ يومَ القيامةِ وتأتون بالدُّنيا تحمِلونها فأصُدَّ عنكم بوجهي ثمَّ قرَأ: ( إنّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ )”(9).
وجاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِهارًا غيرَ سِرٍّ يقولُ: «ألا إنَّ آلَ أبِي -يَعْنِي فُلانًا- لَيْسُوا لي بأَوْلِياءَ، إنَّما ولِيِّيَ اللَّهُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ»(10).
الصلاة الإبراهيمية وأدلتها:
مما سبق يتبين أن الآل سواء في الصلاة الإبراهيمية في التشهد أو خارج الصلاة إنما المراد بهم الأتباع بدرجة أساسية الممتدة مرجعيتهم الدينية، فإذا كان الله قد أمرنا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰۤئكَتَهُۥ یُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِیِّۚ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا) [الأَحۡزَابِ: ٥٦] وإذا كان قد أمر الله رسوله أن يصلي على المؤمنين أي يدعو لهم بقوله: (وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ …)[التَّوۡبَةِ: ١٠٣] ومثلما أنَّ الله وملائكته يصلون على المؤمنين (هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤىِٕكَتُهُۥ لِیُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَحِیمࣰا) [الأَحۡزَابِ: ٤٣] فقد ندب رسول الله أتباعه للصلاة على المؤمنين في الصلاة الإبراهيمية .. ومثلما ندبنا للسلام عليه (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ندبنا للسلام على أنفسنا (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) هذا هو الأصل المدعم بأدلة شارحة ومبينة وموضحة.
وهذه صيغة دعاء نوح عليه السلام للمؤمنين والمؤمنات (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ …) [نوح : 28] ولم يذكر السلالة حتى من يدخل بيته من أهله يجب أن يكون مؤمنًا، وليس الإسلام بدرجة الإيمان.
نعم هناك صيغة في بعض روايات الصلاة الإبراهيمية تذكر أزواجه وذريته (أي بناته) فهي كدعاء نوح لوالديه فمن ثبت إيمانهم وماتوا على ذلك فالدعاء لهم من باب (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ …) [الحشر : 10] قرن السابقة مع الإيمان، وهو من باب الإحسان إليهم قال الله: (والذين اتبعوهم بإحسان) أما أن يكون الدعاء على أساس سلالي فهذا محال ويتنافى مع مركزية هوية الانتماء للدين وهي معيار التقوى على أن تلك الصيغة ليست مما دخلت في التشهد.
فلا ينبغي مجاراة القائلين باختصاص الصلاة الإبراهيمية على المنحدرين من نسل إبراهيم ونسل الهاشميين والدعوة إلى ترك الصلاة الإبراهيمية متأثرين بالثقافة السائدة ولمجرد أن بعض الفقهاء قال بسنية دخول الصلاة على النبي واستحباب الصلاة على آله.
وخلاصة القول في هذا: أن ما كان لدى الفقهاء من باب المستحبات كانوا برأيي يفصلون فيه بقليل من النظر كقول الشافعي وأحمد أن المراد بالآل هم الهاشميون والطالبيون فربما أغناهم القياس أو عملوا بمدلول اللغة أو بالعرف ومنه عملهم بالضعيف في المستحبات، فلا يرون أنهم أحلوا حرامًا أو حرموا حلالًا فمن فعل بها عسى الله أن يأجره ومن لم يفعل بها لم يأثم، فما هو في التشهد مجمع على ركنيته هو الشهادتان ومنه سمي التشهد وما عداه فأدعية وهي كثيرة مأثورة ومنها الصلاة الإبراهيمية فبدلا من التنكير على الصلاة الإبراهيمية الموجود في الصحاح كان الأولى توجيه دلالتها وفقًا للأدلة النَّقلية ومقاصد الشَّرع.
* نلقاكم في الحلقة التالية بعون المولى للحديث عن أدلة دخول نساء الرجل وعشيرته وأبنائه ومواليه في معنى الآل ودلالته الخاصة.
الهوامش:
- العين (8/ 359).
- حرف اللام فصل الألف.(11/28).
- انظر (المكتبة الشاملة (1/25).
- (لأحمد الحموي 29/1).
- لسان العرب (11/38).
- صحيح البخاري (4/ 164).
- (ذكره الألباني في الضعفاء).
- تحقيق: مسعد عبد الحميد السعدني – دار الطلائع (ص 66).
- الهيثمي (ت 807)، مجمع الزوائد 10/230 • مرسل فيه أبو الحويرث وثقه ابن حبان وغيره وضعفه غير واحد وبقية رجاله رجال الصحيح.
- صحيح مسلم (215).