في زمنٍ تتحرك فيه الدول كقطع الشطرنج، لا يملك الضعفاء سوى أن يكونوا مربّعات على الرقعة، بينما الأقوياء يصنعون الحركة ويحددون المسار. ومن هنا، يكتسب تحذير الأميرال التركي جهاد يايجي، أحد أبرز العقول التي بلورت نظرية الوطن الأزرق، بُعدًا استثنائيًا. فالرجل لا يتحدث عن شراء عقارات على شواطئ البحر، بل يقرأ في ذلك ملامح مشروع نفوذ صامت قد يجعل من قبرص في قلب المتوسط “إسرائيل ثانية”، أو على الأقل ذراعًا إستراتيجية لإسرائيل تمتد إلى خاصرة تركيا والعالم العربي.
لقد وصفت الأدبيات الجيوبوليتيكية قبرص بأنها “حاملة طائرات طبيعية” في قلب المتوسط، قادرة على التحكم بمسارات التجارة والبحر والهواء. وهذا ما يجعل الجزيرة منذ عقود ساحة صراع لا تهدأ:
ففي حرب أكتوبر 1973، تحولت إلى منصة دعم أميركية–بريطانية لإسرائيل. القواعد البريطانية في أكروتيري وديكيليا بقيت شاهدة على أن القوى الكبرى لا تتخلى عن مواقعها الحيوية. إن الواقعية السياسية، تفسر ذلك بسهولة: فالقوة لا تبحث عن الشرعية ولا عن القانون، بل عن الموقع والقدرة. ومن يملك الجغرافيا يملك القرار.
الشراء الإسرائيلي للأراضي في جنوب قبرص لا يمكن قراءته كاستثمار بريء. في أدبيات الواقعية الهجومية، الدولة العاقلة لا تهدر مواردها على ما لا يمنحها تفوقًا. العقارات هنا تتحول إلى ذخيرة استراتيجية:
1. ملاذ بديل عند أي مواجهة شاملة مع إيران.
2. منصة استخباراتية متقدمة لمراقبة سوريا ولبنان وشرق المتوسط.
3. ورقة ضغط سياسية ضمن المنظومة الغربية.
ولعل القارئ الحصيف -الذي يمتلك الذاكرةالتاريخية- يذكّر نفسه بأن الصهيونية بدأت أيضًا بشراء الأراضي في فلسطين، ثم تحولت الخرائط العقارية إلى خرائط سيادة. وكأننا أمام نسخة مُعدّلة من التجربة نفسها، ولكن هذه المرة على أرض قبرص.
إن حضور إسرائيل في قبرص ليس معزولًا، بل يندمج في البنية الأمنية الغربية. فالولايات المتحدة ترى في تل أبيب “الحليف الطبيعي” الذي لا غنى عنه. وإذا كانت الليبرالية المؤسسية، تفترض أن التعاون الدولي يقوم على المصالح المشتركة والمؤسسات، فإن قبرص هنا تتحول إلى حلقة وصل: قاعدة بريطانية–أميركية قديمة، يضاف إليها نفوذ إسرائيلي جديد، بما يصنع “منظومة أمنية ثلاثية” تتحكم ببوابة المتوسط الشرقي.
أما تركيا، فإنها تدرك أن شمال قبرص ليس مجرد قطعة أرض، بل هو خط الدفاع الأول عن مجالها الحيوي في شرق المتوسط. وياججي، الذي يتحدث بلسان العسكري المجرب، يحذر من أن أي فراغ تتركه أنقرة في الجزيرة سيملؤه الإسرائيليون أو غيرهم. وفي منطق (توازن القوى)، فإن أي تمدد إسرائيلي في قبرص سيعني اختلالًا لا أقول عسكريًا بل حضاريًا واستراتيجيًا ضد تركيا والعالم العربي. والتفريط بالثغور حسب الرؤية الإسلامية يعدّ من أعظم الكبائر السياسية. فالثغر ليس مجرد جغرافية، بل هو شرف أمة، ورمز سيادتها.
إن ما يبدو استثمارًا عقاريًا هو في الحقيقة خريطة أمنية تُرسم بالحجر قبل أن تُرسم بالسلاح. ومن لم يتعلم من تاريخ فلسطين، قد يعيد قراءة الدرس نفسه في قبرص.
لكن ما الحل أمام هذا الواقع المتحرك؟
أولًا: على تركيا أن تُدرك أن شمال قبرص ليس مجرد إرث قومي، بل درع استراتيجي لا يجوز التفريط فيه.
ثانيًا: على الدول العربية، لا سيما المطلة على المتوسط، أن تتعامل مع الجزيرة كجزء من أمنها البحري، لا كجزيرة بعيدة عنها.
ثالثًا: ثمة حاجة إلى مشروع تعاوني إقليمي (تركي–عربي) يعيد تعريف شرق المتوسط باعتباره فضاءً مشتركًا، لا حديقة خلفية للغرب أو منصة نفوذ لإسرائيل.
إن التاريخ يعلّمنا أن من أهمل الأطراف فَقَد القلب، وفقهاء السياسة الشرعية يؤكدون على أنّ الثغور أمانة الأمة، قبل أن تكون وظيفة الحاكم، والتفريط فيها تفريط في السيادة. واليوم، قبرص ثغر جديد على أبوابنا، إذا تُرك لغيرنا، تحوّل إلى سيف مسلط على مستقبلنا.
إن قبرص ليست مجرد جزيرة، بل مفصل حضاري–أمني سيرسم خطوط المواجهة في العقود المقبلة. وإزاء هذا، فإن الوعي الاستراتيجي، والتعاون الإقليمي، وبناء توازنات جديدة، هي وحدها الكفيلة بمنع تكرار “درس فلسطين” في قلب المتوسط.
إن تحذيرات ياججي ليست صرخة عسكرية باردة، بل إنذار حضاري يذكّرنا بأن المعركة في شرق المتوسط لم تعد معركة سفن وطائرات فقط، بل معركة هوية وأرض ومجال حيوي. ومن لا يدرك ذلك، سيكتشف أن العقار قد تحوّل إلى قيد، وأن الخرائط التي نرسمها اليوم بالمال قد تتحول غدًا إلى خرائط دم.