كتاب “تأويل مُشكِل القرآن” من تأليف المُفكِّر اللامِع “ابن قُتَيْبَة”؛ وهو “عبد الله بن مُسلم بن قتيبة”، المُكنَّى بأبي محمد. ويُلقَّب بـ”الدِّيْنَوَرِيّ”، وهذا اللقب شِرك مع غيره، ومنهم أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت 282 هـ)؛ صاحب كتاب “الأخبار الطوال” في التاريخ. والاثنان منسوبان إلى مدينة “دينور”، وتُضبط -كما رأيتها في الكُتب ضبتَيْنِ: دِيْنَوَر (فيصير كلٌّ منهما: دِيْنَوَريّ)، ودَيْنَوَر (ويصير كلٌّ: دَيْنَوَريّ). وهي مدينة في إقليم “هَمَذان” (الذي يُنطق -بدروه- هَمَدان في لغةٍ). وقد تلقب ابن قتيبة بذلك لأنه ولي القضاء في المدينة، أما ولادته فكانت في بغداد -غالبًا-. وكلمة قُتيبة تصغير قِتبة، وهي ممنوعة من الصرف.
توفي “ابن قتيبة” في وقت مبكر 276 هـ، وهذه البُكورة من تاريخ الإسلام عضَّدتْ من شأن مُؤلَّفاته، وأضافت إليها صفات الإبداع والابتكار في بعض مناهج الكتابة، وفي تدوين العلوم، وفي ابتداع الأساليب الدقيقة. وهو مؤلف مُكثِر من التأليف، وله عدة مؤلفات رائدة في بابها. ومن أهم تآليفه: كتاب “أدب الكاتب”، وكتاب “الشِّعر والشعراء”، وكتاب “تأويل مختلف الحديث”، وكتاب “عيون الأخبار”، وأخيرًا كتاب “تأويل مُشكِل القرآن” (الذي بين يدينا الآن). هذه هي أشهر مؤلفات ابن قتيبة. لكنَّ عامة تآليفه تدخل تحت التسجيل والرصد لمظاهر الحياة الثقافية؛ فيحدثنا عن المآكل والمشارب، ووسائل الترفيه، وما يعالج الناس به أوقاتهم، كما يؤرخ لأحداث عصره، مازجًا إياها بفن الأدب (ولعل هذا نكتة لطيفة في دواوين الأدب المشتهرة قديمًا، قد أتناولها بالعرض في القادم).
أما “تأويل مُشكِل القرآن” فكتاب فريد، وليس وصفي مُغاليًا. ويدخل الكتاب -في نظري- تحت ثلاثة من العلوم: علوم القرآن، والبلاغة، وعلوم اللغة. فكأنه يفتح دفاترها جميعًا ليقيِّد فيها جديدًا في آنٍ معًا بهذا الكتاب.
فأما دفتر علوم القرآن، وهو بابه الأول؛ لأنه يعالج فرعًا فيه، بل هو أمُّ بابه، وهو فرع “مُشكِل القرآن”. ويهتم هذا الفرع بالآيات التي توهم للقارئ الخطأ فيها، أو يَشتبه -تعارُضًا- معناها مع معنى آية أخرى، أو مع الآية نفسها. فهذه الأنماط -وغيرها- عُولجتْ في فرع “مُشكِل القرآن” من منظومة علوم القرآن الكبيرة الضخمة. ومهمة هذا الفرع حصرُ ما فيه مُشكِل، وإيرادُ وجه تصريفه وتوجيهه. وقد يرجع هذا الإشكال الظاهر في الآيات إلى وجه اللغة، أو إلى وجه المعنى، أو إلى جمعهما. وأقصد بالأخير قضية المجاز؛ التي اختارها “ابن قتيبة” تعليلًا أكمل لقضية المُشكل. وابن قتيبة مَسبُوق في عمله بالكثير من الجهود، ومن أكمل الجهود التي سبقته، بل دوَّنتْ التجربة، كتاب “مجاز القرآن” لأبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثنَّى (ت 210 هـ). وفيه عالج القضية نفسها.
وللعلم فإن غالب الكُتُب العظمى المُؤثرة بها هذا المُشكل، بل إن كُتُب الفلاسفة بها ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من هذا الصنف. وعلى قضية المُشكِل في كتب الفلسفة الضخمة ذات المُشايعين أو التي شكَّلتْ سياسات؛ تجد فريقين من أنصار الفيلسوف نفسه (هيجل مثلًا أو ماركس) يمثلان جناحين -أو أكثر-، يُعلِّلانِ مواقفهما من كتب الفيلسوف نفسها، بل من المواضع نفسها في بعض الأحيان، لإشكالها، أو لإشكال الجمع بين آراء الفيلسوف. ولعلَّ من أشهر الأمثلة على هذا في الفلسفة المشَّائيَّة العربية (الفلسفة التي اتبعت فلسفة اليونان وتآليفها) كتاب “الجمع بين رأيَيْ الحكيمين” لأبي نصر الفارابي (ت 339 هـ). وهذا النوع من تصانيف معالجة المُشكِل موجود في الدراسات المسيحية واليهودية، وغيرها من الديانات التي لها كُتُب معتمدة.
وأما الدفتر الثاني الذي يَلِجُهُ “ابن قتيبة” في كتابه، فهو البلاغة. وفيه الفتح التالي في هذه التجربة؛ حيث مثَّل جزءًا من تطور البلاغة العربية، وفهم المعاني الكُليَّة في الذائقة العربية. حيث أسَّس لفهم المجاز، بل لإقراره أسلوبًا للتركيب، وطريقًا للفهم. وفي هذا عدَّدَ أنواع المجازات عند العرب قائلًا: “وللعرب المجازاتُ في الكلام، ومعناها: طُرُق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة: والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومُخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء الله تعالى. وبكل هذه المذاهب نزل القرآن”.
وهذه الكلمات ثبَّتتْ دعائم البلاغة العربية في جانب، وساعدت على تقعيد التفسير القرآني على أصوله القوليَّة المُتعارفة عند العرب، بتدوينها، أو بإعادة تدوينها -فقد دوَّنها الجاحظ وأبو عبيدة، وغيرهما قبله- في دفتر التفسير القرآني. وما أرساه من مصطلحات مثل: الاستعارة، والكناية، والتعريض،…. تختلف عمَّا نطالعه مستقرًّا في الكتب البلاغية المعهودة لدينا الآن. فهذا الترتيب الأخير المعروف لم يحصل إلا بعد كتاب “أبي بكر السكَّاكيّ” (ت 626 هـ)، المُسمَّى “مِفتاح العلوم”؛ والذي أرسى فيه البلاغة على العلوم الثلاثة التي استقرَّ عليها الدرس البلاغي بعده. وعلى الكتاب الأخير مدار الشروح والحواشي والتعقيبات في القرون التالية له.
فمثلًا بابُ الاستعارة -التي رآها “ابن قتيبة” الباب الأوسع للمجاز في القرآن-؛ تضمَّنَ ما استقرَّ من: الاستعارة التصريحية، والمَكْنِيَّة، وضمَّ إليهما المجاز المُرسل، والكناية أيضًا. يقول: “فمن الاستعارة في كتاب الله قولُهُ -عزَّ وجلَّ-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) -القلم، 42- أيْ عن شدة من الأمر”. وهكذا يأتي التنوع والثراء المعنوي الحُرّ -الذي قُيِّد بعدُ على يد السكاكيّ- في بقية أبواب الكتاب.
وقد تفانى “ابن قتيبة” في ترسيخ فكرة المجاز القرآني، ودفع الرأي المانع له. ومن هذا قوله: “وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زاعمون أنه كذب…. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلِّها على سُوء نظرهم، وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبًا، وكلُّ فعلٍ يُنسب إلى غير الحيوان باطلًا؛ كان أكثرُ كلامنا فاسدًا”.
بل إن رأيه في المجاز، وفي مدى تكاثُف النص القرآني أدَّاه إلى الرأي الناضج باستحالة ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى لخصيصة المجاز فيه: “ولذلك لا يقدر أحدٌ من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نقل الإنجيل عن السّريانية إلى الحبشيّة والرّومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية لأن العجم لم تتّسع في المجاز اتّساع العرب”. ولن أعلِّق على هذه الجُملة الأخيرة التي هي محل نقاش كثير لا شك.
أما الدفتر الثالث الذي يَلِجُهُ “ابن قتيبة” في كتابه، فهو علوم اللغة. خاصةً جوانب المُعجميَّة، والصرف، والنحو. فقد رأى أنه باب كبير من أبواب المُشكِل. كما عقد بابًا للمُشتَرَك اللفظيّ؛ وهي الكلمات التي لها أكثر من معنى، مثبتًا معانيها المختلفة في النص القرآني. كما عقد ما يشبه مُعجم حروف المعاني (هناك معاجم حروف معانٍ كثيرة في القديم والحديث، ومن أشهرها في التراث النحوي ما وضعه “ابن هشام” في كتابه المشهور “مُغنِي اللبيب عن كُتُب الأعاريب”) في آخر كتابه. وأشرَك في هذا المعجم الأفعال غير المُتصرِّفة (التي منها أسماء الأفعال على اعتبار). كما تناول ظاهرة تُسمَّى “التقارُض”، وهي أن تأتي الكلمة محل كلمة، والمعنى محل معنى، والعامل محل عامل، والحرف محل حرف؛ مُتضمِّنًا في كلٍّ معنى الآخر وأثره وفحواه. وبالعموم، يطالع المُطالع للكتاب حشدًا من العلوم اللغوية في سلاسة ويسر، وكأنه معرض مخصص للتشويق لعلوم اللغة تطبيقًا.
ويطيب لي أن أنوه إلى أن الكتاب -على تقدُّمه في الزمن- (التقدُّم في الزمن في العُرف الرسمي يعني القِدَم لا الحداثة كما هو التعبير العاميّ. فالمُتقدِّم هو القديم، والمتأخِّر من الكُتَّاب أو الكُتُب هو الحديث أو الأحدث) سهل العبارة جدًا، ميسور القراءة لكل أحد يقرأ بتمعُّن.
وتدل مطالعة الكتاب على بعض الظواهر الفكرية والاجتماعية المُصاحِبة للعصر المكتوب فيه الكتاب. وأهمها -فيما أرى-:
ظاهرة الهجوم على القرآن، التي كانت سببًا في كتابة الكتاب وتدوينه، وقد كانت ظاهرة الهجوم على السُّنَّة قد دفعته إلى تدوين “تأويل مُختلف الحديث”. وفيها يقول: “وقد اعترض كتابَ الله بالطعن مُلحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا (مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) -آل عِمران، 7- بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مَدخول (يعني فاسد)، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سُبُله. ثم قضوا عليه (يقصد القرآن) بالتناقُض، والاستحالة، واللَّحن (يعني الخطأ اللُّغويّ)، وفساد النظم، والاختلاف. وأدْلَوْا (يعني شاركوا) في ذلك بعللٍ رُبَّما أمالتْ الضعيف الغُمر (يعني الصغير السن، أو الضعيف العقل)، والحَدَث الغرّ، واعترضتْ بالشُّبَه في القلوب، وقَدَحتْ بالشكوك في الصدور).
وغنيُّ هذا الكلامُ عن الشرح، إلا من تنبيه أنه يقصد المُناوئين من أهل الديانات الأخرى من جهة، ويقصد بعض أفراد من المُعتزلة، وقد كان يُشنِّع عليهم تشنيعًا بشعًا. وكان المعتولة في وقته في أوج قوتهم واتصالهم بالسلطان (وُلد ابن قتيبة 213 هـ في عهد المأمون الذي فتح الباب للمُعتزلة ليترأسوا السلطان الفكري والرُّوحي للخلافة).
أما الظاهرة الأخرى فهي “الشُّعُوبيَّة” وتعني الحراك الذي قاده غير العرب (من فُرس -غالبًا-، أو غيرهم) للمحافظة على هويتهم الأصيلة وعِرقهم، والفخار بها، والحطِّ من شأن العرب جنسًا، والأمل في استعادة الإمبراطورية الفارسيَّة -أو غيرها- كما كانت قبل العرب. وفي هذا يقول: “وقد طعنت الشُّعُوبيَّة على العرب بأمثال هذه الأسماء، ونسبوها إلى سوء الاختيار، وجهلوا معانيهم فيها”. وقد كانت هذه الحركة قويةً في هذا الزمن، وقد كتب الجاحظ رسالة في الرد عليهم، مُودَعَة في مجموع رسائله. وكتب غيره في هذا.
وقد وصفتُ “ابن قتيبة” بالمُفكر في أول حديثي؛ لأن الصنيع الذي أودعه في كتابَيْه: تأويل مُشكِل القرآن، وتأويل مختلف الحديث من فكّ الإشكالات والمواضع المُلغزة تحتاج إلى علم وفكرٍ معًا، بل تقتضي فكرًا دقيقًا رهيفًا ليُوشِّج هذه المفترقات. وقد كان “ابن قتيبة” قاضيًا -كما سلف-، فهو من الفقهاء. ولن ألتفت إلى التنويه على إشكال الجمع بين مذهبه في المجاز وبعض اختياراته العقديَّة هنا، فالأمر يطول.
وقد أخرج الطبعة المُشتهرة بين الناس المُحققُ الجليل/ السيد أحمد صقر. وهو من أبرع المحققين. وقد كان مُشايعًا لابن قتيبة كل المُشايعة؛ حتى ناقش في المقدمة ردودًا أقذع فيها على خيرة أهل الإسلام الذين نقدوا ابن قتيبة، من أمثال الحاكِم النيسابوري (صاحب المُستدرَك على الصحيحين)، والخطيب البغدادي، والحافظ ابن حجر، وابن الأنباري، وغيرهم. منتصرًا لابن قتيبة وحده على كلٍّ. وفي هذا خُلُق مذموم لا يصح، وهي حالة معروفة في مجالات التصحيح والبحث والتحقيق؛ أن يقع الباحث أو المحقق أو المصحح في هوى صاحب الكتاب أو الشخص المَبحوث، فيُغالي فيه كل المُغالاة، كما فعل الأستاذ الجليل في هذا الكتاب. ولعلَّ هذا الملمح هو المأخذ الوحيد عليه، ودون ذلك فهو مَن هو في ضبط النص، وإخراجه قويمًا سليمًا منضَّدًا، فقد كان من كبار صنعة التحقيق، رحمه الله.
وطبعة الكتاب الأولى خرجت عام 1973م، ثم تلتها نسخة عام 2006م، مصورة عن الأولى. وهي من إنتاجات المكتبة البديعة “مكتبة دار التراث” التي كانت تخرج كتبًا غاية في التجويد والدقة. وقد كنت أراها أثناء غُدُوِّي ورواحي في شارع الجمهورية، جوار مسجد الفتح، ميدان رمسيس. واشتريت منها بالمُباشرة كتابًا واحدًا، ولا أعرف مصيرها الآن.
وهذه نبذة مختصرة جدًا أقدِّم فيها لهذا الكتاب، مع دعوة لقراءته والتمتع بما فيه من نصوص بديعة.