في كتابه (الفلسفة أنواعها ومشكلاتها)، ناقش الفيلسوف هنتر ميد في مقدمة طبعته الأولى الدَّرس الفلسفي، وقد ذكر أنه محصور في إحدى طريقتين، لكلِّ واحدةٍ منهما أنصار وأتباع، وهما:
الطريقة الأولى: الدِّراسة من خلال تاريخ الفلسفة، من الفلسفة ما قبل الأرسطية إلى فلسفتنا في يوم النَّاس هذا، وهذه الطريقة تحوي ميزتين هما:
– شعور الطَّالب باتصال البحث الفلسفي واستمراره.
– اكتساب الطالب قدرًا كبيرًا من المادة العقلية التي يستطيع الانتفاع بها، في أي تأمل فلسفي شخصي قد يقوم به.
الطريقة الثانية: الاحتكاك المباشر بالموضوعات والمشكلات الفلسفية النَّاتجة عن تفكير وهمٍ معرفي، وهذه الطريقة تسلك أحد مسلكين، وإن كان بعض الدارسين يجمع بينهما، وهما:
– دراسة أنواع الفلسفة من خلال أهم المدارس والحركات الفلسفية، كما في كتاب “أقسام الفلسفة” Types of Philosophy لمؤلفه Hocking.
– دراسة المشكلات الأساسية في الحقل الفلسفي كما في كتاب “مشكلات الفلسفة” Problems of Philosophy لمؤلفه Cunningham.
وقد فضَّلَ المؤلف الطَّريقة الثَّانية، وذلكَ للعيب التربوي الواضح في الطريقةِ الأولى، فأي اهتمام تلقائي قد يتملك المبتدئ في موضوع كالفلسفة، لا بد أن يكون ناشئًا عن احتكاكه أو صراعه مع مشكلات فلسفية معاصرة له، لا من حب استطلاع ينصب على أصل المفاهيم الفلسفية وتاريخها، أو الاهتمام بما قال به مفكِّر تاريخي معين، فالطالب الذي يدرس موضوعًا معينًا لأنه يشعر باهتمام أصيل به، يجد أنَّ اهتمامه قد أخذ يتلاشى بالتَّدريج بعد أن يقوم بتحليل طويل للفكر القديم والوسيط وتفكير عصر النهضة والقرن الثَّامن عشر، ذلك لأنَّ مشكلاته العقلية الخاصة هي مشكلات معاصرة قبل كل شيء، ومطلبه الطبيعي هو أن يتلقى إجابات حديثة إلى حد معقول، وكثيرًا ما يشعر عندما يضطر إلى دراسة مقرر في تاريخ الفلسفة، أنَّ جوعه الفلسفي قد أُلقِمَ حجرًا أو خبزًا شديد الجفاف على أحسن الفروض، كما ذكر هنتر ميد.
وبناءً عليه، فالقراءة في الفلسفة تكون في أحد اتجاهين هما:
– الأول: المباحث الفلسفيَّة وهي الوجود (الميتافيزيقا)، والمعرفة (الابستمولوجيا) والفن والجمال، فهذه هي المباحث الرئيسة في الفلسفة قديمًا وحديثًا ويمكن أن نضيف لها من الفلسفات المحدثة (الفلسفات السياسية)، و (فلسفة العلوم)، والمقصود بقراءة المباحث الفلسفية أن تتعرف على الأفكار الفلسفية من خلال مباحثها وأنساقها العامة فتأتي إلى الميتافيزيقا وتنظر إلى أبرز المقولات الفلسفية فيها وتتأمل كيف تطورت هذه الأفكار وكيف عرضها أصحابها، فتتبلور أفكارك الفلسفية وإدراكك لمقولات الفلاسفة من خلال المباحث العامَّة للفلسفة.
– الثَّاني: تاريخ الفلسفة: أي قراءة كل فيلسوف على حدة بتسلسل تاريخي واضح تميز فيه بين الأفكار الفلسفية وتعرف كيف نقض اللاحقُ منها السَّابق، فتتبلور عندك التصورات الفلسفية وَفْق نَسَق زمني تراتبي، وهذه الطَّريقة في القراءة مفيدة في تكوين تصور معرفي واضح للأفكار الفلسفية لكنها تستهلك جهدًا ووقتًا لا يملك المطلع غير المختص الذي لا يبغي سَبْر أغوار الفلسفة.
لكن أرجو أن تتمهَّل فثمة أمور لابدَّ من إدراكها قبل أن تقتحم هذا المجال المعرفي المهم، فإني أشير عليك ببعض أمور أراها مهمَّة في سبيل إحكام هذه الأفكار الفلسفية واستيعابها ألخصها لك في العبارات التَّالية، فأعرني سمعكَ وتأمَّل فيها مليًّا فهي خلاصة تجربة ومحصلة أعوام من المجاهدة في قراءة هذا الباب من العلم:
أولاً: لا تكثر من قراءة كتب “المداخل الفلسفية” التي تستعرض مباحث الفلسفة أو تاريخها، وإن كان لا بد منها فاتخذ منها كتابًا واحدًا يكون دليلك ورفيقك ويكون مرجعك الرئيسي في بناء الخارطة المفاهيمية لتاريخ الفلسفة أو لمباحثها، ثمَّ تنطلق بعد ذلك في قراءة النُّصوص الفلسفية مباشرة دون وسيط فتقرأ ابن رشد (ت: 595) من نصِّه وتتأمل في أفكاره ولغته وأسلوب حجاجه وكذلك تقرأ الملا صدرا (ت:1050) وتقرأ كانت وتقرأ نيتشه (ت:1900) وهيجل (ت: 1831) وراسل (ت:1970) ونحوهم فأنتَ بهذا تصنع لك عقلًا فلسفيًّا يدرك ماهية التَّفكير الفلسفي وكيف أنتج الفلاسفةُ أفكارَهم.
ثانيًّا: الفلسفة في تعريفها المختار هي فن صياغة الأسئلة، وهي محل البحث عن أجوبة، فلما كان شأنها كذلك فإيَّاكَ أن تذهل في الطريق وتنبهر بعقل فلسفي فترهن عقلك له، فلا تفكر إلا من خلاله، ولا تناقش إلا من خلال مسلماته ونتائجه، وهذه القضية من الخطورة بمكان فأنت تقدم على قراءة أفضل ما أنتجته العقول، فالانبهار منك بهم غير مستغرب فلا بد أن ترتاض نفسك من البداية على عدم التسليم مطلقًا لكلِّ قول، فالفلسفة تفقد جوهرها إن نحى قارئها منحى التَّقليد والمتابعة فغاية التفلسف وروح الفلسفة ممارسة السؤال وخلق المفاهيم وبناء المقولات والدلالات المعبرة عن الوجود أو الذَّات أو المعرفة أو القيم ونحوها من الموضوعات الفلسفية، ولعلَّ معيار الفائدة من قراءتك الفلسفية أنها تنمي مَلَكة السؤال فيك، فإن رأيت نفسك متسائلًا حين تقرأ فأنتَ في الطَّريق الصَّحيح، أمَّا إن قعدت بك نفسك ورأيتك قانعًا معجبًا بالأجوبة التي تقرأها فاترك الكتاب جانبًا وسرِّح نظركَ فيما علق في ذهنك من أفكار الفلاسفة وتأمل فيها بعقل ناقد وإن قعدت بك همتك عن ذلك فلا مانع أن تبحث عن كتب تنقد الفلسفات التي أُعجبتَ بها فتفتح هذه النقدات في ذهنك مسارب جديدة للسؤال الفلسفي فينشط ذهنك من جديد وليس شرطًا أن تجد أجوبة عن تلك النقدات فغايتها أن تحرركَ من عقلية التَّسليم والانبهار لتعاود القراءة من جديد وأنت متسلحًا بعقليتك النَّاقدة الباحثة عن الأسئلة.
ثالثاً: قارئ الفلسفة بين حاليْن
– الأول: قارئ تأمل في الفلسفة تاريخًا وأنساقًا وأفكارًا فقنع بما حصله من خارطة مفاهيمية أدرك من خلالها تاريخ الفلسفة وأفكارها، فكون في ذهنه نسقًا يفكر من خلاله حين تعرض له أي فكرة فلسفية وهذا حين يصل إلى هذه المرحلة فهو بين حالين: إما قارئ متواضع وهذا ما نريده أو متعالم حسب أن هذه غاية الفلسفة فغش نفسه وحرمها من خيرٍ كثير.
– الثاني: قارئ تأمَّل في الفلسفة فأدرك أنساقها وتاريخها إلا أنها أذكت ملكاته العقلية فأحيت فيه مَلَكة السؤال فلم يتأطر بأفكارها، ولم يقنع بأجوبتها وهذا القارئ أندر من الكبريت الأحمر، ولو وجد فإنه مؤذنٌ بعلامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي.
رابعاً: يمكن القول: إنَّ الفلسفة حقل معرفي متعدد الدروب كثير التشعبات ولو أنفق القارئ فيه عشرات السنين من عمره قد لا يدرك جوهره ولا يفقه غايته، في حين أنه لو تحقق ببعض الشُّروط لحصل كل ذلك في أقل من سنتين من القراءة الجادة، ويمكنني إجمال هذه الشروط في نقاط على النَّحو الآتي:
– حرية التفكير.
– ضرورة المشاركة برأيك في نقد الأفكار الفلسفية أو في نقد بعض حججها أو في ابتكار حجج لم تذكر من قبل.
– التحرر من الأحكام المسبقة.
– الخلو من التحيزات المعرفية.
وقد أسررت يومًا إلى أحد أصدقائي أنَّ أفضل كتاب فلسفي لتعليم الفلسفة لم يوجد بعد، وإني أتصوره كتابًا حواريًّا جدليًا يعمد إلى موضوعات الفلسفة ومقولاتها فيستوفي كل أقوال الفلاسفة في عرض الموضوع الفلسفي في نَسَقٍ حجاجي جدلي يورد الفكرة وحججها ثمَّ يسرد الاعتراضات التي وردت على هذه الفكرة في طريقة جدلية تراتبية تنفذ إلى طبيعة التفكير الفلسفي فتبين للطالب كيف فكر الفلاسفة وكيف وصلوا إلى أفكارهم، فتأخذ كلُّ فكرة حقها من العَرْض بنفسٍ طويل ولغة محكمة، فلو وجد مثل هذا الكتاب الجامع للأفكار الفلسفية لتيسرت سُبُل تعليم وتعلم الفلسفة ولخرج من قراء الفلسفة فلاسفة يندر مثالهم.
خامسًا: ختامًا فإنك ستجد كثيرين ممن يبشرون بصعوبة الفلسفة ويتهكمون عليها، وقد تكون أنت أحد هؤلاء المقتنعين بصعوبة الفلسفة، ولن أكذبك القول فإن في الفلسفة صعوبة حقيقية تتغلب عليها بالارتياض على التَّأمل والتفكر والقراءة التحليلية، وفيها صعوبة موهومة يقع فيها من يسمع عن الفلسفة ويقرأ عنها عبر وسائط معرفية على سبيل التَّمجيد أو الذَّم، وهذه قضية يتجاوزها القارئ باستقلاله الفكري وخوض غمار المتون الفلسفية الأصيلة.
قراءة فلسفية لا أرتضيها:
في نقاش مع أحد الزملاء أخبرني أنه يكون رؤيته عن بعض المذاهب والأفكار الفلسفية من خلال قراءة بعض المقالات والبحوث المختصرة المبثوثة في بطون المجلات وصفحات الشابكة، إلا أني لا أرتضي هذه الطريقة لنفسي فإني وبعد معاناة مع هذه المقالات المعلبة وجدتها تتسم بسمات رئيسة، وهي:
– سلوك أحد مسلكين، إما مسلك التبجيل والتقديس أو مسلك الحط والتنفير دون أي اهتمام لمسألة تقريب الأفكار وإيضاح المذاهب وتشييد البناء الفلسفي وطرح الأسئلة الداعية للتفلسف.
– الخلط بين المذاهب الفلسفية وعدم التمييز بين مقولاتهم.
– كثرة النفول وقلة الأفكار والأسئلة.
– الاعتماد على دلالة الالتزام في تقريب الآراء الفلسفية .
فسبيل اتقان المذاهب الفلسفية لا يكون إلا من خلال قراءة المتون الفلسفية مباشرة، فلا تقرأ عن ابن سينا، بل اقرأ له، وهذه نصيحة تتكرر معنا لأهميتها، ومركزيتها في جميع المعارف الإنسانية، وهذا موضوع طويل الذَّيْل نفصله في مقامٍ آخر.