13 دقائق
إن أهل العلم قد جعلوا ” المقدمة منقسمة إلى قسمين: مقدمة علم، ومقدمة كتاب.
فمقدمة العلم: ما يتوقف الشروع على بصيرة عليها؛ لأنها تكون مشتملة على الحد، والموضوع، والغاية والفائدة.
ومقدمة الكتاب: ما يوجب الشروع بها زيادة في البصيرة…”(1).
والذي يهمنا هنا هو المقدمة الأولى.
فـ”ينبغي لكل مبتدئ في فن من فنون العلم أن يعرف مبادءه قبل الشروع فيه…فالمهم من ذلك معرفة الحد، وهو أصل كل علم، ومعناه: الوصف المحيط الكاشف عن ماهية الشيء. وشرطه: طرد وعكس، ومعنى الطرد: إدخال المحدود، والعكس: إخراج ما عداه. فإن لم يطرد وينعكس فليس بحد.
والموضوع وهو: ما يقصد بيانه. والثمرة- ويقال لها: الفائدة أيضًا- وهي: ما ينتجه”(2). وغير ذلك من المبادئ التي أوصلها بعض أهل العلم إلى عشرة، وقد نظمها نظمةٌ منهم: ابْنُ ذِكْرِيٍّ فِي قوله:
فَأَوَّلُ الْأَبْوَابِ فِي الْمَبَادِيْ
وَتِلْكَ عَشْرَةٌ عَلَى الْمُرَادِ
الْحَدُّ وَالْمَوْضُوعُ ثُمَّ الْوَاضِعْ
وَالِاسْمُ وَاسْتِمْدَادُ، حُكْمُ الشَّارِعْ
تَصَوُّرُ الْمَسَائِلِ، الْفَضِيلَةُ
وَنِسْبَةٌ، فَائِدَةٌ جَلِيلَةُ(3).
لهذا سنتحدث عن علم الفقه في حدود هذه المبادئ العشرة في الصفحات الآتية:
الفقه لغة: الْفِقْهُ: فَهْمُ الشَّيْءِ. وَكُلُّ عِلْمٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ فِقْهٌ. واشْتِقاقه مِنَ الشَّقّ وَالْفَتْحِ. يُقَالُ: فَقِهَ الرجلُ بِالْكَسْرِ- يَفْقَهُ فِقْهاً إِذَا فَهِم وعَلِم، وفَقُهَ بِالضَّمِّ يَفْقُهُ: إِذَا صَارَ فَقِيهاً عَالِمًا. ويُقَال مِنْهُ: فقه -بِالْكَسْرِ-يفقه فقَهًا بِفَتْح الْقَاف، وَقَالُوا: فقْهًا أَيْضا بسكونها. ويقال: فقُه- بالضم- إذا صار الفقه له سجية، وفقَه- بالفتح- إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه –بالكسر- إذا فهم.
والفِقْهُ: العِلْمُ فِي الدّين، يُقالُ: أُوتِيَ فلانٌ فِقْهاً فِي الدِّينِ: أَيْ: فَهْماً فِيهِ. ويُقَال: فَقِهَ الرجل يَفْقَهُ فَهُوَ فَقِيهٌ، وأفْقَهْتُه أَنَا أَي: بيَّنْتُ لَهُ تعلُّمَ الْفِقْه. وفَقِه فُلانٌ عَني مَا بيَّنْتُ لَهُ، يَفْقَهُ فِقْهاً: إِذا فَهِمَه، ويقال: رَجُلٌ فَقِهٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَامْرَأَةٌ فَقُهَةٌ بِالضَّمِّ(4).
الفقه اصطلاحًا(5): العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية(6).
محترزات التعريف:
1-قوله : ” العلم”: العلم جنس، والمراد به الصناعة، كما تقول: علم النحو أي: صناعته، وحينئذ فيندرج فيه الظن واليقين؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيًّا، وقد يكون ظنيًّا، كما في كثير من مسائل الفقه.
2-قوله: ” بالأحكام”: خرج به بالأحكام: العلم بالذوات، والصفات، والأفعال.
3-قوله: ” بالأحكام الشرعية” أي: الأحكام المتلقاة من الشرع؛ كالوجوب والتحريم، فخرج به الأحكام العقلية؛ كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء، والأحكام العادية؛ كمعرفة نزول الطل في الليلة الشاتية إذا كان الجو صحواً.
4-قوله: ” العملية”: كالصلاة والزكاة، فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد؛ كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمّى ذلك فقهاً في الاصطلاح، و يخرج به كذلك العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة.
5-قوله: ” المكتسب”: يخرج به علم الله تعالى، وما يلقيه في قلوب الأنبياء والملائكة من الأحكام بلا اكتساب.
6-قوله: ” من أدلتها التفصيلية “: أي: العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة، وهذا القيد يخرج التقليد؛ لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلاً له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة.
والمراد بها: أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية؛ فخرج به أصول الفقه؛ لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية(7).
موضوع علم الفقه: أفعال المكلفين من حيث ما يعرض لها من الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، وغير ذلك كالصحة والفساد(8).
للفقه بالشريعة ثمرات وفوائد وغايات كثيرة، منها:
1-تصحيح العبادات والمعاملات، وحصول العمل به على الوجه المشروع، والاحتراز من الخطأ في القيام بالعبودية.
2- الفوز بالسعادة الكبرى في الدنيا والآخرة.
3- تحصيل ملكة الاقتدار على الأعمال الشرعية(9).
4- إذهاب المشقة عن الناس بحل قضاياهم الفقهية، وتعريفهم بالوجه المشروع؛ حتى لا يقعوا في الإثم والتعدي على حق الله أو حق الخلق.
5-تكييف مستجدات الحياة المتعلقة بالعبادات أو المعاملات بالتكييف الشرعي، ومعرفة الحكم الفقهي فيها.
للفقه فضل كبير على سائر العلوم، ومما يبين فضيلته: أن الله تعالى دعا إلى الفقه في الدين فقال: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))[التوبة:122]، ولا ريب أن علم الفقه بالمعنى الاصطلاحي داخل في ذلك دخولاً أوليًا؛ فكم من قضايا في الحرب والسلم مبناها على الأحكام الفقهية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)(10).
والحديث وإن كان المراد منه عموم الفهم في الدين على القول الصحيح، لكن علم الفروع من أهم ما يعين على تلك الغاية.
قال القاضي عياض في شرح هذا الحديث: ” فيه فضل العلم والفقه في الدين؛ لأنه يقود إلى خشية الله تعالى وتقاه، قال تعالى: (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))[فاطر:28]، وهذا يقود إلى الخير في الآخرة وعظيم الثواب”(11).
وقال المُظْهِري: ” قوله: (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالمًا بأحكام الدين، ويجعله ذا فهم حتى يفهم من ألفاظ قليلة معاني كثيرة، وخيرُ الدنيا والآخرة في العلم بأحكام الدين”(12).
وقال ابن الملقن: ” والمراد (بالدين): الإسلام، ومنهم من فسر الفقه في الدين بالفقه في القواعد الخمس ويتصل بها من الفروع”(13).
وقال السعدي: “والفقه في الدين يشمل الفقه في أصول الإيمان، وشرائع الإسلام والأحكام، وحقائق الإحسان… ودخل في ذلك: علم الفقه، أصوله وفروعه، وأحكام العبادات والمعاملات، والجنايات وغيرها”(14).
وقد تحدث أهل العلم عن فضل علم الفقه حديثًا كثيراً، فمن ذلك:
1- قال الشافعي: “من حفظ القرآن عظمت حرمته، ومن طلب الفقه نبل قدره، ومن وعى الحديث قويت حجته، ومن نظر في النحو رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم”(15).
2- وقال أبو زرعة الرازي: ” عَلَيْكُمْ بِالْفِقْهِ؛ فَإِنَّهُ كَالتُّفَّاحِ الْجَبَلِيِّ يُطْعَمُ من سَنَتِه”(16).
3- وقال البخاري للقاضي الوليد الهمداني حين قصده لطلب علم الحديث فذكر له مطالب ذلك وثمراته ثم قال له: “… وإلا تطق احتمال هذه المشاق كلها فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارٌّ ساكن لا تحتاج إلى بُعد الأسفار، ووطء الديار، وركوب البحار، وهو مع ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة، ولا عزّه بأقل من عز المحدث.
قال: فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت متفقهاً”(17).
5- وقال ابن هبيرة: “فإن علم الفقه هو أفضل علوم الدين، وأعلى منزلة أهل المعرفة واليقين لما جاء فيه عن سيد المرسلين: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)”(18).
6- وقال الغزالي: ” وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد.
ولأجل شرف علم الفقه وسببه، وفر الله دواعي الخلق على طلبه، وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا، وأجلهم شأنا، وأكثرهم أتباعا وأعوانا؛ فتقاضاني في عنفوان شبابي اختصاص هذا العلم بفوائد الدين والدنيا، وثواب الآخرة والأولى، أن أصرف إليه من مهلة العمر صدرا، وأن أخص به من متنفس الحياة قدرا…”(19).
7- وقال ابن الجوزي: ” … فمن كان ذا همة، ونصح نفسه، تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جل شغله الفقه؛ فهو أعظم العلوم وأهمها”(20).
8- وقال ابن مفلح: “وفي خطبة مذهب ابن الجوزي: بضاعة الفقه أربح البضائع. وفي كتاب العلم له: الفقه عمدة العلوم. وفي صيد الخاطر له: الفقه عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه؛ فإنه الأنفع، وفيه المهم من كل علم، هو المهم.
ومن طلبة العلم من تعلو همته إلى فن من العلوم فيقتصر عليه وهذا نقص، فأما أرباب النهاية في علو الهمة فإنهم لا يرضون إلا بالغاية، فهم يأخذون من كل فن من العلم مهمه، ثم يجعلون جل اشتغالهم بالفقه؛ لأنه سيد العلوم، ثم ترقيهم الهمم العالية إلى معاملة الحق ومعرفته، والأنس به.. وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: عليك بالفقه؛ فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه، وأملى الشافعي على مصعب الزبيري أشعار هذيل ووقائعها، وآدابها حفظًا، فقال له: أين أنت بهذا الذهن عن الفقه؟ فقال: إياه أردت. وقال أحمد عن الشافعي: إنما كانت همته الفقه. وقال أبو حنيفة: ليس شيء أنفع من الفقه، وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه، وينهانا عن الكلام، وفي خطبة المحيط للحنفية: أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين: معرفة الفقه”(21).
9- وقال الكاساني: ” لا علم بعد العلم بالله، وصفاته أشرف من علم الفقه، وهو المسمى بعلم الحلال، والحرام، وعلم الشرائع، والأحكام، له بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ إذ لا سبيل إلى معرفته بالعقل المحض دون معونة السمع، وقال الله تعالى: (( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[البقرة:269]، وقيل في بعض وجوه التأويل: هو علم الفقه”(22).
10- وقال ابن نجيم: ” أشرف العلوم وأعلاها، وأوفقها وأوفاها؛ علم الفقه والفتوى، وبه صلاح الدنيا والعقبى، فمن شمر لتحصيله ذيلَه، وادّرع نهاره وليله، فاز بالسعادة الآجلة، والسيادة العاجلة. والأحاديث في أفضليته على سائر العلوم كثيرة، والدلائل عليها شهيرة، لا سيما وهو المراد بالحكمة في القرآن على قول المحققين للفرقان”(23).
11- وقال أيضًا: ” الفقه أشرف العلوم قدرا ،وأعظمها أجرا، وأتمها عائدة، وأعمها فائدة، وأعلاها مرتبة، وأسناها منقبة، يملأ العيون نورا، والقلوب سرورا، والصدور انشراحا، ويفيد الأمور اتساعًا وانفتاحا.
هذا لأن ما بالخاص والعام من الاستقرار على سنن النظام والاستمرار على وتيرة الاجتماع والالتئام؛ إنما هو بمعرفة الحلال من الحرام، والتمييز بين الجائز والفاسد في وجوه الأحكام، بحوره زاخرة، ورياضه ناضرة، ونجومه زاهرة، وأصوله ثابتة، وفروعه نابتة، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزُه، ولا يبلى على طول الزمان عزُّه.
وإنيَ لا أسطيعُ كُنه صفاته
ولو أن أعضائي جميعًا تكلمُ(24).
وأهله قِوَامُ الدِّينِ وَقُوَّامُهُ، وبهم ائتلافه وانتظامه”(25).
12- وقال الشاعر:
إذَا مَا اعْتَزَّ ذُو عِلْمٍ بِعِلْمٍ
فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلَى بِاعْتِزَازِ
فَكَمْ طِيبٍ يَفُوحُ وَلَا كَمِسْكٍ
وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ وَلَا كَبَازِي(26).
13- وقال آخر:
وَخَيْرُ عُلُومٍ عِلْمُ فِقْهٍ لِأَنَّهُ
يَكُونُ إلَى كُلِّ الْعُلُومِ تَوَسُّلَا
فَإِنَّ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَوَرِّعًا
عَلَى أَلْفِ ذِي زُهْدٍ تَفَضَّلَ وَاعْتَلَى
وَهُمَا مَأْخُوذَانِ مِمَّا قِيلَ لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ:
تَفَقَّهْ فَإِنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ قَائِدِ
إلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَعْدَلُ قَاصِدِ
وَكُنْ مُسْتَفِيدًا كُلَّ يَوْمٍ زِيَادَةً
مِنْ الْفِقْهِ وَاسْبَحْ فِي بُحُورِ الْفَوَائِدِ
فَإِنَّ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَوَرِّعًا
أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ(27).
14- وقال ابْن الْوَرْدِيِّ:
وَالْعُمُرُ عَنْ تَحْصِيلِ كُلِّ عِلْمِ
يَقْصُرُ فَابْدَأْ مِنْهُ بِالْأَهَمِّ
وَذَلِكَ الْفِقْهُ فَإِنَّ مِنْهُ
مَا لَا غِنَى فِي كُلِّ حَالٍ عَنْهُ(28).
15- وقال آخر:
الْفِقْهُ فِي الدِّينِ بِالْآثَارِ مُقْتَرِنٌ
فَاشْغِلْ زَمَانَكَ فِي فِقْهٍ وَفِي أَثَرِ
فَالشُّغْلُ بِالْفِقْهِ وَالْآثَارِ مُرْتَفِعٌ
بِقَاصِدِ اللَّهِ فَوْقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ(29).
علم الفقه من العلوم الشرعية، وبينه وبين العلوم الأخرى نسبة المغايرة؛ لكونه مستقلاً عنها. ونسبته لصلاح الظاهر كنسبة العقائد والتصوف لصلاح الباطن، فهو فرع علم التَّوْحِيد(30)، فالتوحيد لإصلاح المعتقدات، وهو لإصلاح العبادات والمعاملات، وبذلك تكمل الديانة.
واضع هذا العلم يراد به: من أخرجه للناس بالمصطلح الفني، وشرع في ذكر مسائله والتدليل عليها، وإلا فالفقه من حيث الابتداء والتشريع واضعه الله تعالى، كما قال ابن قاسم: ” والواضع هو الله تعالى”(31).
كما أن مسائل الفقه على سبيل الإجمال كانت موجودة منذ ظهور الإسلام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقضيته وأحكامه، وأذهان أصحابه وكبار التابعين لهم.
ثم جاء العلماء بعد ذلك وفصلوا العلوم بعضها عن بعض، ومنها الفقه؛ فلهذا قال بعض العلماء في واضع هذا العلم أنه: ” الأئمة المجتهدون”(32). وهؤلاء الأئمة كثر منهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وأول من فتح أغلاق هذا الباب: الإمام أبو حنيفة، قال ابن عمر الجاوي: ” والواضع له إجمالاً الإمام أبو حنيفة النعمان. بمعنى أنه أول مصنف فيه، إلا باب التفليس والحجر والسبق والرمي فأول مصنف فيه إمامنا الشافعي”(33).
وقال الحصكفي: ” وقد قالوا: الفقه زرعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسقاه علقمة، وحصده إبراهيم النخعي، وداسه حماد، وطحنه أبو حنيفة، وعجنه أبو يوسف، وخبزه محمد، فسائر الناس يأكلون من خبزه. وقد نظمه بعضهم فقال:
الفقه زرعُ ابنِ مسعودٍ، وعلقمةٌ
حَصَّاده، ثم إبراهيم دَوَّاسُ
نعمان طاحنه، يعقوب عاجنه
محمد خابز، والآكلُ الناسُ”(34).
وقال الذهبي: ” وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه”(35).
وقال ابن نجيم: ” ولقد أنصف الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال : من أراد أن يتبحر في الفقه فلينظر إلى كتب أبي حنيفة رحمه الله، كما نقله ابن وهبان عن حرملة، وهو كالصديق رضي الله عنه، له أجره وأجر من دوّن الفقه وألفه وفرع أحكامه على أصوله إلى يوم القيامة”(36).
اسم هذا العلم: علم الفقه، ويقال له أيضًا: علم الفروع، وعلم الحلال والحرام، وعلم الشرائع والأحكام، ويطلق عليه وعلى علم أصول الفقه: علم الدراية(37).
وتسمية هذا العلم فقهًا هي تسمية حادثة، وتسمية للجزء باسم الكل؛ إذ الفقه هو الفهم عمومًا، ثم صار هذا الفهم يطلق على المعرفة بالدين دون تخصيص هذا اللقب على علم من علومه، وعليه حديث: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
قال ابن الملك: (يُفقّهْه في الدِّين)؛ أي: يجعله عالمًا بأحكام الشريعة، ذا بصيرةٍ فيها، يستخرج المعاني الكثيرةَ من الألفاظ القليلة”(38).
ثم صار يطلق على الزهد والورع؛ قال التهانوي : “وذكر الإمام الغزالي أن الناس تصرّفوا في اسم الفقه، فخصّوه بعلم الفتاوى والوقوف على دلائلها وعللها. واسم الفقه في العصر الأول كان مطلقًا على علم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا، ولذا قيل: الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بذنبه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين”(39).
ثم نقل هذا الاسم العام بعد المراحل السابقة إلى المعرفة بأفعال المكلفين؛ لأسباب:
-قال الزركشي: “ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبة الاستعمال، كما أشار إليه ابن سيده حيث قال: غلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا، وَالْعُودِ عَلَى الْمِنْدَل”(40).
-وقال الطيبي: “وجعله العرف خاصاً بعلم الشريعة، وتخصيصاً بعلم الفروع. وإنما خص علم الشريعة بالفقه؛ لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة، والأقيسة، والنظر الدقيق بخلاف اللغة، والنحو…” (41).
-وقال ابن عابدين:”(قوله: إلا الفقهاء) المراد بهم العالمون بأحكام الله تعالى اعتقادًا وعملا؛ لأن تسمية علم الفروع فقهًا تسمية حادثة، قال سيدي عبد الغني: ويؤيده ما مر من قول الحسن البصري: إنما الفقيه المعرض عن الدنيا الراغب في الآخرة “(42).
أي: المصادر التي يؤخذ منها.
قال ابن نجيم: “وأما استمداده فمن الأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس”(43).
وقال ابن يونس الصقلي: ” الأصل في هذا العلم: اتباع الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، ثم النظر والاستدلال، والقياس على ذلك”(44).
وقال القنوجي: “وله استمداد من سائر العلوم الشرعية والعربية”(45).
وقال ابن قاسم: “والاستمداد: من كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم”(46).
إن الفقيه الحق هو من يجمع بين هذه المصادر، لا من يقف على ظاهر النص فحسب” فدور الفقيه أنه معرف لأحكام الله، وأنه لا تتحقق التقوى ولا العمل الصالح إلا إذا كان المكلف ينجز ما ينجزه في حدود الضوابط المستندة إلى الوحي. والأخذ من نصوص الوحي قرآنًا وسنة لا يتم إلا بتعاضد النقل والعقل.
فالنص هو الخزانة، والعقل هو المفتاح الذي يفتح أبوابها، ويكشف ذخائرها ويبرز لبابها. فليس الفقه محصوراً في دائرة الرواية والنقل، ولا هو منفلت مع مجاري النزعات المختلفة لأهل العقل. ولكنه ثمرة تعاضد الأصلين”(47).
وحكم الشارع في تعلمه: الوجوب العيني فيما يتلبس به الشخص وما لا بد له منه، والكفائي في غير ذلك(48).
ويعني هذا: أن هناك مسائل يجب عينيًا على المكلف العلم بها؛ كفرائض العبادات. وهناك مسائل أخرى يكفي فيها الوجوب الكفائي في عموم المسلمين.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (طلب العلم فريضة على كل مسلم) (49).
قال الإمام البغوي: ” وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد ، فعليه معرفة علمها؛ مثل علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه” (50).
“وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى اللّه عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم) فقال: كل عمل كان عليك فرضاً فطلب علمه عليك فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً فليس طلب علمه عليك بواجب” (51).
المسائل: جمع مسألة، وهي القضايا المبرهن عليها في العلم. ومسائل هذا العلم: ما يذكر في كل باب من أبوابه، وهي الأحكام الشرعية العملية كقولنا: الصلاة فرض، والنية واجبة، والوضوء شرط لصحة الصلاة، ودخول الوقت سبب لها(52).
وقال ابن عابدين: “ومسائله: كل جملة موضوعها فعل المكلف، ومحمولها أحد الأحكام الخمسة، نحو: هذا الفعل واجب”(53).
وفي المجلة العدلية:” والمسائل الفقهية إما أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات, وإما أن تتعلق بأمر الدنيا, وهي تنقسم إلى: مناكحات، ومعاملات، وعقوبات”(54).
وقال التهانوي: “إن أصحاب الشافعي جعلوا للفقه أربعة أركان: فقالوا: الأحكام الشرعية إمّا أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات، أو بأمر الدنيا، وهي إمّا أن تتعلّق ببقاء الشخص وهي المعاملات، أو ببقاء النوع باعتبار المنزّل وهي المناكحات، أو باعتبار المدينة وهي العقوبات”(55).
21/10/1443هـ، 22/5/2022م.