من أهم مبادئ ومقومات الدولة المدنية كما في الفكر السياسي الحديث والمعاصر: العدالة والمساواة، وتقييد السلطة أو ما يُمكن تسميته بالرقابة والمحاسبة، وضمان الحريات العامة والحقوق الشخصية، وكل تلك المبادئ والمقومات؛ سبق الفكر الإسلامي فيها الفكر الغربي في التأصيل والتنظير والتأسيس لها وتحويلها إلى واقع عملي ملموس، وهنا سنحاول عرض ذلك تفصيلاً على النحو الآتي:
العدل والمساواة:
بين مفهومي (العدل) و(المساواة) على الترتيب ما بين: العام والخاص، الكل والجزء وقد تكتمل دلالة لفظ (العدل) لغويًا وإن أطلق، مع أنَّ العدل المطلق إِنّما هو إلهي بالطبع وهذا ما يعتقده المسلمون، وعندهم وفي لغتهم العدل الغير الإلهي إذا لم يُقيّد فإنّه يدل على العدل الساعي نحو الكمال – البشري طبعًا- ويتصف بالشمولِ من حيث موضوعه فهو: العدل السياسي، والعدل الاقتصادي، والعدل الاجتماعي…الخ، والمساواة جزء من العدل، ولتكتمل دلالاتها لابد من تقييدها بأجوبة المساواة بين من؟ وفي ماذا؟ وعلى أيِّ أساس؟ كما أنَّ العدل ضد الظلم والجور، وهو إعطاء كل ذي حقٍ حقه وعند المعتزلةِ العدل هو: “ما يقتضيه العقل من الحكمة؛ وهو إصدارٌ لفعلٍ على وجه الصواب والمصلحة”(1). والمساواة كإحدى آليات العدل التطبيقية، بل أبرزها، هي عكس المفاضلة والتمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون… إلخ.
ومصطلحا العدل والمساواة إذا قيّدناهما بالسياسة، فإنّ العدل السياسي يدل – بادئ ذي بدء- على عدل السلطات خصوصًا القضائية، ويتسع للمساواة التي تأخذ- للوهلة الأولى- معنى المساواة بين الرعية، وتكافؤ الفرص أمامهم وتساويهم في الحقوق والواجبات، ومن ذلك تكافؤ فرص الحصول على الوظائف السياسية والاجتماعية والثقافية… إلى ما هنالك، بما في ذلك مناصب السلطة الأولى، وهي ترادف مصطلح المواطنة في الفكر السياسي المعاصر، المواطنة التي هي ضد الطبقية والتمييز العنصري بين مواطني الدولة مهما يكن معيار التمييز.
وعمومًا فمصطلحي (العدل) و(المساواة) من الوضوح بالدرجة التي تغني عن محاولة ضبطها، بل لعل إيراد تعريفات متباينة للمصطلحين قد يقلل من درجة ضبطها المنشودة، وعليه نكتفي بما اسلفناه من مقدمة لتحديد وضبط مصطلحي العدل والمساواة.
والأهم أنَّ العدل والمساواة من أهم المبادئ التي اهتم بها الإسلام، فالله تبارك في علاه من أسمائه (العدل) وعدله مطلق بالمعنى الحرفي للفظ فـ “الأحدية أهم وصف للذات الإلهية، والعدل أهم صفة للفعل الإلهي من حيث صلته بالإنسان، تلك الصلة التي يجب أن يسودها من جانب الله- وفقاً لرأي المعتزلة- العدل المطلق، فجميع ما يفعله الله بغيره عدل”(2)، كما أنّ العدل هو فلسفة رسالة الإسلام وليس قاصراً على الدنيا، بل ممتد إلى الآخرة، وموضوعه غير محدود بالجنس البشري بل الكائنات الحية عمومًا، فقبل محاسبة الناس في اليوم الآخر يقتص الله تعالى للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ومن ثَمَّ يحاسب الناس على أعمالهم صغيرها وكبيرها ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه﴾(3)، وفي الآيتين تتجلى فلسفة العدل في أسمى صورها، وأصل العدل والمساواة في التشريع الإسلامي هو حرية الذات البشرية والتكريم الإلهي للجنس البشري قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(4)، وقال صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة الوداع “أيها النّاس إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد، وكلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر، فضلٌ إلاّ بالتقوى”.
فالعدل والمساواة في التشريع الإسلامي (قرآن وسنة) راجعة إذاً إلى وحدة الأصل الإنساني “فلا يستقيم مع عدل الله وقد خلق النّاس جميعاً من أب واحد وأم واحدة أن يفضل بعضهم على بعض، بسبب خلقته أو انتسابه إلى أسرة أو جماعة معينة.. وإنّما يتفاضل النّاس لديه بأعمالهم سواءً في الدنيا أو في الآخرة.(5) وهذان النصان و إن دلاّ مباشرة على المساواة فإنهما يدلان أيضاً على العدل؛ لأنّ المساواة من مقتضيات العدل، فالمساواة في المعاملة عند التساوي في العناصر الفاعلة هي قاعدة مطردة في الشريعة الإسلامية التي “تجعل العدل من أبرز مقاصدها؛ إذ لا يستقيم في ميزان العدل تميز إنسان على غيره دون أن يكون لتميزه سبب يقره العقل وتقبله النفس مبرراً للتمييز”(6).
ومعيار العدل والمساواة في إطار جماعة المسلمين هو التقوى لأنّ (أكرمكم عند الله أتقاكم)، لكنّه معيار عقدي فقط بين العبد وربه، أمّا أمام الشريعة والقوانين فالمساواة لا يقيّدها حتى هذا المعيار، يؤكد هذا حديث عائشة حين روت غضب النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ـــ من شفاعة أسامة بن زيد – وهو حبه ابن حبه- بطلب من قريش للمرأة المخزومية التي سرقت، فانتهره قائلًا: أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام صلّى الله عليه وآله وسلم فخطب: “إنّما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، و ايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. وفاطمة هي من هي في نسبها وتقواها. ولا يثبت معيار التقوى أيضاً في العدل والمساواة المتعدية لإطار جماعة المسلمين، كما هو حال المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية التي تضم أقليات دينية أخرى، وهذا يقود إلى المعيار الأساسي المتمثل في أهل الجنس البشري الواحد حيث كفل الإسلام حقوق الأقليات، فأمام القانون هم متساوون مع المسلمين، شهد بهذا صحيفة المدينة وسنة النبي ـــ صلّى الله عليه وسلم ـــ القولية كحديث “من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته، أو انتقص أو أخذ منه شيء بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة”. بل إنّ الإسلام كفل للأقليات من الديانات الأخرى حق الاحتكام إلى شريعتهم الخاصة في شأنهم الداخلي وإن كانوا في دولة الإسلام “وهم في هذه لا يختلفون عن المسلمين الذين يُحكّمون الإسلام في كل ما شجر بينهم، فكلا الفريقين يُحكّم دينه ولا يخضع لما يُخالف شريعته، وتلك هي المساواة التي ما بعدها مساواة”(7).
أما العدل فقد أمر الله به بلفظه وبنص صريح لا يحتمل التأويل قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(8)، وإطلاق لفظ العدل في الآية يعني العدل الساعي نحو الكمال بالمفهوم البشري، والشامل لجميع أنواع العدل: بدءاً بالعدل الاجتماعي، فهو شرط لقبول شهادة الشهود ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(9) وشرط لتعدد الزوجات ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾(10) مرورًا بالعدل الاقتصادي المرتبط بالحرية الاقتصادية وفي طليعتها حق التملك، فبدون العدل ينهار الاقتصاد ويفسد العمران وتسقط الدول ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُون﴾(11) .
وحسب ابن خلدون فمن أعظم أنواع الظلم “التسلط على أموال النَّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في البيع والشراء”(12)، وهذا السلوك يرفضه الإسلام بل يشرع في نهيه بصورة قطعية بنص الآية: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(13).
ومن مقتضيات العدل الشامل عند الماوردي “أن تعمّر البلاد وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان، فقد قال الهرمزان لعمر حين رآه، وقد نام مبتذلًا: عدلت فأمنت فنمت، وليس أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق، من الجور”(14) .. وليس انتهاءً بالعدل السياسي، الذي يوسعه باحثون ليشمل كل واجبات الحاكم ف”إذا كان علماء الشرع قد ذكروا واجبات الإمام بالتفصيل… فإنّهم يجمعون تلك الواجبات، ما ذُكِر منها وما لم يذكر، تحت كلمة واحدة هي (العدل) فالعدل هو الغاية الهامة أو غاية الغايات من الحكم الإسلامي”(15) .
وكثيرًا ما يعرف العدل السياسي بأنّه (العدل في الحكم) ليشمل عدل السلطات عمومًا أو يختص بالتقاضي وفصل الخصومات (عدل القضاء) وقد نص القرآن الكريم على مفهوم العدل في الحكم تارة بلفظه: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(16) وتارة بمعناه ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾(17) ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(18) والعدل والحق والقسط في الآيات بمعنى واحد هو العدل السياسي عمومًا، والقضائي خصوصًا، بل يُعرِّف القرآن مصطلح العدل في الحكم بأنّ عراقيه الحكم بما أنزل الله ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾(19)، وفي تفسيره لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(20) يقول الطبري: هو خطاب من الله تعالى إلى ولاة أمور المسلمين، بأداء الأمانة إلى من ولوا أمرهم، بالحكم بينهم بالعدل في القضية والقسم بينهم بالسوية والحكم بالعدل المقصود في الآية هو (حكم الله الذي أنزله في كتابه، وبيّنه على لسان رسوله، لا تعتدوا ذلك فتجوروا عليهم”(21)، وقال الزمخشري: “فاحكم بين النّاس بالحق أيّ بحكم الله تعالى”(22) .. والعدل السياسي هذا، معياره هو معطيات القضية و واقع الحال و حيثيات المسألة محل النزاع لا يتعدى ذلك، ولضمان هذا نص القرآن بوضوح على اجتناب الأهواء كمحاباة قريب ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾(23) أو بغض عدوٍ أو مخالف ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾(24) ، وليس هذا فحسب، فنصوص الشريعة حافلة بتشنيع الظلم والنهي عنه ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾(25)، وفي الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا) (26).
وهنا يمكننا القول: إذا كان العدل والمساواة من أهم مبادئ ومقومات الدولة المدنية فإنّ العدل والمساواة مثلا معلمان بارزان في مسيرة الإسلام منذ ظهوره؛ فالمساواة كانت حاضرة في جماعة الإسلام الأولى حتى قبل قيام المجتمع الإسلامي في المدينة، فكان الضعفاء والعبيد هم المكّون الأبرز لنواة الإسلام في مكة بل صار لهم حضور وقيمة رمزية لا تضاهى في التاريخ الإسلامي، فبلال (سيدنا) هو مؤذن رسول الله ـــ صلّى الله عليه وسلم ـــ (سلمان منّا آل البيت)، وأسامة بن زيد قائد الجيش الإسلامي الذي يضم من هم أكثر منه وجاهة وأكبر منه سناً.
وبهذا كان من الطبيعي للعقل المسلم المتدين بطبعه، ومادامت هذه هي نظرة الإسلام للعدلِ والمساواة، أن ينطلق منها في بناء فكره البشري العام، والسياسي خصوصاً، ولا نجد فكراً سياسياً إسلامياً عبر تاريخه، أكان لمفكر أو لفرقة ينكر أو يرفض أو حتى لا يضع (العدل والمساواة) في طليعة غاياته المنشودة، بل على العكس نجد المعتزلة مثلاً جعلت العدل ثاني أصول الدين الخمسة بعد التوحيد، بل ثمة من يرى “أنّ الأصول الثلاثة الباقية متفرعة عن العدل، داخلةٌ تحته، ومن ثم يحبُ المعتزلة أن يلقبوا بالفرقة العدلية”(27).
المسؤولية والرقابة والمحاسبة:
في اللغة تتداخل مصطلحات: المسؤولية، الرقابة، المحاسبة؛ فصرفياً أوزان الثلاثة على الترتيب هي: المفعولية، الفعالة، المفاعلة، والفعل الماضي منها: سأل، رقب أو راقب، حسب أو حاسب، وللثلاثة نحوياً: ارتباط بأركان الجملة الفعلية (الفاعل والفعل والمفعول، فالمسؤولية صفة للمفعول (المسؤول) والرقابة لازمة للفعل (سلوك المسؤول) أما المحاسبة فهي مفاعله بين الفاعل والمفعول، يتجلّى ذلك بحذف تاء التأنيث، فيكون (المحاسب) بكسر السين هو الفاعل (المسائل) وبفتحها هو المفعول (المسؤول).. وعليه يمكن النظر إلى المصطلحات الثلاثة كمنظومة متكاملة، إطارها العام والناظم (قانونها) هو المسؤولية التي يخضع بموجبها الفرد المسؤول للسؤال عن أفعاله، وأقواله وكل ما ينتج عنه و الرقابة و المحاسبة هما آليتا المنظومة التطبيقيتان؛ فالأول آلية توثيقية تسجل وتوثق سلوك المسؤول إقامة للحجة له أو عليه، وهي التي تحدد توقيت لخطة (المحاسبة) التي هي الآلية التنفيذية للمنظمة وتتم بتوجيه الأسئلة و إدارة النقاش بين المسائل والمسؤول، ومن ثم إصدار الأحكام التي تميز سلبيات وإيجابيات الأخير (حسناته وسيئاته) على أن تكون المحاسبة دقيقة بدقة الحساب والأرقام كما يوحي لفظها ودلالتها اللغوية، لتكتمل بأعمال الثواب أو العقاب.. والمسؤولية والرقابة والمحاسبة في السياسة هي إذاً: منظومة سياسية متكاملة، تبدأ بنقطة انطلاقها وإطارها العام (قانون المسؤولية) الذي يُخضع مكونات الدولة، الحزب السياسي، أو المؤسسة السياسية أيّا كانت (رؤساء ومرؤوسين) للمحاسبة عن السلوك السياسي للمسؤول ليقرر في حقه إمّا الثواب أو العقاب أو كليهما، وبين المسؤولية والمحاسبة تنشط (الرقابة) لتسجل بل وتبرهن بالدليل تفصيلات السلوك السياسي للمسؤول، ضماناً لعدالة المنظومة السياسية هذه، وهذا المفهوم التكاملي للمصطلحات الثلاثة هو الذي نقصده تحديداً.
وبما أنّ المسؤولية من أهم مبادئ ومقومات الدولة المدنية – كما نظّر لها الفكر السياسي الحديث والمعاصر- فإنّ المسؤولية في الإسلام هي قانون إلهي كلي بنص الآية ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(28)، وهذا القانون كما هو واضح من الآية شامل لا يستثنى منه غير مصدره (الله) حتى صفوة خلقه و مبلّغ رسالته محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ يشمله قانون المسؤولية وما يترتب عليها من محاسبة قال تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(29)
والعدل الذي هو فلسفة رسالة الإسلام كما تقدم- يستوجب المسؤولية التي تستوجب بدورها الرقابة ومن ثم المحاسبة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النّاس متباينين في الطبائع، وبالتالي في السلوك، ومن هنا نشأ الشر والخير، و وجدَ الظالم و المظلوم، وما دام العدل مبدأ أقرَّه الله و حرّم الظلم على نفسه، كان لا بد من مسؤولية النّاس عن أعمالهم وتوثيقها، ومن ثم محاسبتهم عليها، ولأنّ الدنيا غير كافية لإتمام الحساب كما يؤكد الواقع، ولأنّ الله إنّما جعلها دار امتحان فكان لا بد من الدار الآخرة لإتمام المحاسبة ولهذا وجدت الجنّة والنار.
والمسؤولية في الإسلام شاملة للجنس البشري وليست قاصرة على المسلمين، ويمكن التمييز بين نوعين من المسؤولية لكل منهما فروعه:
أ- المسؤولية أمام الله:
وفيها يكون الله هو مقرر المسؤولية ومراقبها ومحاسبها بمقتضى الاستخلاف العام الذي هو استخلاف البشر في الأرض، باعتبارهم مستعمرين فيها، ومسلطين عليها ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(30).
وقد بدأ هذا الاستخلاف بآدم ــ عليه السلام ــ ومن بعده كل ذريّته؛(31) لأنّ “منطق الفطرة يقتضي بأنّ الخليفة أو النائب إذا خرج عن حدودٍ ما مُنح من سلطان أو ما قُيّد به من قيود، فعمله باطل بطلاناً لا شك فيه ولا يصح منّه إلاّ ما يدخل في حدود الخلافة والنيابة”(32) أيّ أنّ الإنسان باعتباره مستخلفاً (وكيلاً لا أصيلاً) مسؤولاً أمام الله الذي له حق مراقبته ومحاسبته، ووسائل الرقابة على هذا النوع من المسؤولية هي من شأنه تعالى وقد أشار التشريع الإسلامي إلى بعضها، وفي طليعتها علْم الله اللَّدُنِّي وإحاطته الكلية بسرائر الأمور ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾(33)، ثم ملائكته أوكل إليهم هذه المهمة ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(34) حتى الأرض ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾(35) بل حتى أعضاء الإنسان وجوارحه ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(36) فللرقابة الإلهية إذاً دقتُها متناهية ومطلقة. ومن حيث توقيت المحاسبة الإلهية فإنّ هذا النوع من المسؤولية يشمل:
1- المسؤولية في الدنيا: وفيها يُعجّل الله بالعذاب لمن تعاظم شره وأسرف في نكث مسؤوليته (أمماً وافراداً) وقد قص القرآن قصص الأمم السابقة، وكيف عجّل عذابهم في الدنيا.
2- المسؤولية في الآخرة: حتى من استحقوا العذاب في الدنيا ليسوا بمنأى عن الحساب الإلهي الشامل في دار الجزاء ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾(37) فالآخرة هي دار الحساب الكلي والشامل، وهي الأصل وحساب الدنيا استثناء ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ﴾(38)
ب. المسؤولية أمام الأمة (الشعب):
وهذه أوكل الله أمر الرقابة والمحاسبة فيها لجماعة المسلمين بموجب الاستخلاف الخاص، (أي الاستخلاف في الحكم) بنوعيه: استخلاف الدولة واستخلاف الأفراد في الرئاسة ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾(39)
وهذا النوع من المسؤولية يمكن تصنيفه إلى:
1- مسؤولية المواطن أمام الدولة: وفيها ينوب الحاكم وحكومته عن الأمة (الشعب) في مراقبة ومحاسبة المواطنين، كأفراد أو مكونات جزئية، ليقيم الحدود فيهم ويفصل في المنازعات، ويمنع الفساد والبغي الذي قد يودي بالدولة.. وفي هذا فصَّل التشريع الإسلامي الحدود والعقوبات، كما نص على وسائل الرقابة، والأدلة التي يستند إليها في الأحكام: كشهادة العدول، إقرار الجاني، يمين المنكر بنية المدعي… وغيرها.
2- مسؤولية الحاكم أمام الشعب: وهي الأهم في الفكر السياسي الإسلامي؛ كونها الضامن لتحقيق عدالة نظام الحكم والحائل بينه وبين الجور والتردي في مزالق الطغيان والاستبداد السياسي(40)، أما واجبات الدولة التي يُساءل عنها فقد أجملها باحثون في أمرين:
– إقامة الإسلام وإدارة شؤون الدولة في حدود الإسلام(41)، لأنه (ليس لأيّ صاحب سلطة أن يخرج في عمله الشخصي، أو في أمره و نهيه عن حدود الله، ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾(42) ومقابل ذلك ليس لأي مواطن الحق في أن يطيع أيّ تشريع أو قرار أو توجيه يصدر عن سلطة مناقض للشريعة أو مقاصدها(43)، ومسؤولية الحاكم هي أعظم و لا شك من مسؤولية المواطن العادي، لأنّ الأخير مسؤول فقط عن سلوكه الشخصي، وعن مَن يرعاهم، أما الأول فرعيته هي الشعب بأكمله وقد أكد التشريع على هذا المعنى (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير راع على رعيته وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهم مسؤول عنهم… إلخ).
ومسؤولية الحاكم أمام الأمة تستوجبها (سيادة الشعب) فهو مصدر السلطة والحاكم إنّما هو مفوض بإدارة الدولة بمقتضى الشورى وبعقد رضائي هو البيعة. وبناءً عليه: فللأمة حق الرقابة على السلطة بمختلف مكوناتها وإذا أحست أنها قصّرت عن أداء واجباتها أو تعدّت حقوقها ومالت إلى الجور، فلها حق المحاسبة بتدرج يبدأ من النصح لحديث الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ”الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.. وإذا كان منكر السلطة أكبر من أن يحتويه النصح فالأمة مكلفة بإزالة هذا المنكر بعموم حديثه ــ صلى الله عليه وسلم ــ “من رأى منكم منكراً فليغيره بيد، فإنّ لم يستطع فبلسانه فإنّ لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.. و إن اقتضى الأمر مقاومة الحاكم الجائر والتضحية في سبيل ذلك لحديث، “خير الشهداء حمزة، ثم رجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله”.. وصولاً إلى حق الأمة في عزل الحاكم إذا كان فساده وإخلاله بواجباته في إقامة الدين وإدارة الدولة في حدود الشريعة بالدرجة التي لا ينفع معها إلاّ العزل، وللأمة أن تستخدم الوسيلة التي تراها مناسبة في إطار الشريعة، ولو اقتضى الأمر إشهار سلاح الثورة، وحسب ابن حزم “فهو الإمام الواجب طاعته، ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فإن زاغ عن شيء منها، مُنع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يُؤمَن أذاه إلاّ بخلعه خُلِعَ و ولي غيره” ويؤيد ابن حزم في هذا ــ وإن بتفصيلات متقاربة ــ الكثير من أعلام الفكر الإسلامي، كالغزالي والشافعي، والبغدادي والماوردي، والجويني والشهرستاني والرازي(44)
وأكثر من هذا نجد من الفرق الإسلامية من تُوجب الخروج على الحاكم الجائر، كالزيدية حيث اشترط زيد بن علي في الإمام أن يخرج “داعياً لنفسه نافضاً عن نفسه ثوب التقية”(45)،
ويدخل ضمن الرقابة الشعبية على السلطة وأجهزتها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و أدلتها بيّنة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾(46) وبما أنّ المسؤولية والرقابة والمحاسبة من مبادئ ومقومات الدولة المدنية، فقد كانت وما زلت من أهم المنطلقات التي بنى عليها العقل المسلم فكره السياسي.
الهوامش:
- الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، مرجع سابق، ج1، ص42.
- صبحي، أحمد محمود، في علم الكلام، دارسة فلسفية لأراء الفرق الإسلامية في أصول الدين، ج1، المعتزلة، ط1، الإسكندرية، مصر، مؤسسة الثقافة الجامعية، 1992م، ص141.
- سورة الزلزلة، آية 7، 8.
- الحجرات، آية 13.
- عوض، محمد عوض، فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي، مجلة التسامح، فكرية إسلامية تصدر عن وزارة الأوقاف والشئون الدينية، سلطنة عمان، مسقط، العدد (24)، 2008م، ص48.
- نفس المرجع السابق، ص49.
- عودة، عبد القادر، الإسلام وأوضاعنا السياسية، ط بدون، بيروت، مؤسسة الرسالة، ص266.
- النحل، الآية 16.
- الطلاق، آية 2.
- النساء ، آية 3.
- سورة القصص، آية 59.
- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة بن خلدون، مرجع سابق، ص.
- سورة البقرة، آية 188.
- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، ط، بدون بيروت، دار مكتبة الحياة، 1986م، ص139.
- الريس، محمد ضياء الدين، النظريات السياسية في الإسلام، ط7، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1979م ص325.
- سورة النساء، آية 58.
- سورة المائدة، آية 42.
- سورة ص، آية 26.
- سورة المائدة، آية 49.
- سورة النساء، آية 58.
- الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2000م، ج8، ص494.
- الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ط3، بيروت، دار الكتاب العربي 1407هـ، ج4، ص89.
- سورة الأنعام، آية 152.
- سورة المائدة، آية 8.
- سورة إبراهيم، آية 42.
- النيسابوري، مسلم بن الحجاج، أبو الحسن، المسند الصحيح، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بدون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 4/1994.
- صبحي، أحمد محمود، في علم الكلام، ج1 المعتزلة، مرجع سابق، ص142.
- سورة الأنبياء، آية 21.
- سورة الحاقة، آية 45، 46، 47.
- سورة هود، آية 62.
- عودة، عبد القادر، الإسلام وأوضاعنا السياسية، ط ، بيروت، دار الرسالة، ص18.
- نفس المرجع ، ص32.
- سورة غافر، آية 19.
- سورة ق، آية 18.
- سورة الزلزلة، آية 4.
- سورة فصلت، آية 21.
- سورة الرعد، آية 34.
- سورة يونس، آية 11.
- سورة النور، آية 55.
- اتفق مع جان جاك روسو في التمييز بين الطاغية والمستبد، فالأول هو مغتصب السلطة لكنه يحكم وفقاً لقوانين الدولة، أما الأخير فهو الذي يضع نفسه فوق القوانين نفسها (وهكذا قد يكون الطاغية مستبداً، ولكن المستبد طاغية على الدوام)، ينظر:روسو، جان جاك، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص117.
- عودة عبد القادر، الإسلام وأوضاعنا السياسية، مرجع سابق، ص46. وفصلها الماوردي في الأحكام السلطانية إلى مجموعة من الواجبات لكنها تدخل جميعاً تحت موضوعي إقامة الدين، وإدارة شؤون الدولة في حدوده ينظر الأحكام السلطانية للماوردي، مرجع سابق، ص .
- سورة الطلاق، آية 1.
- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق، ص221.
- ولتفصيل أراء هؤلاء الأعلام بخصوص حق الأمة في عزل الحاكم ينظرن محمد ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية في الإسلام)، مرجع سابق، ص339.
- حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 2004م، ص214.
- سورة آل عمران، آية 104.