يشهد العالم تغير دائم ومتسارع في كافة المجالات تتشابك فيه المصالح بين الدول، ومع تحول العالم إلى “قرية صغيرة” لم يعد بإمكان أي منها العيش بمعزل عن الآخرين، وما يحدث في بلد ما قد يؤثر على العالم كله، وعليه فإن فهم السياسة الدولية لم يعد مقتصراً على السياسيين والدبلوماسيين، بل أصبح ضرورة لكل من يرغب في فهم العالم من حوله، ويشمل على سبيل المثال: كيف تتخذ الدول قراراتها، ولماذا تنشب الحروب وتُعقد التحالفات الاستراتيجية أو المؤقتة، وكيف تتغير موازين القوى في العالم.
كما يمثل فهم السياسة الدولية المفتاح لإدراك العلاقة بين الأمن والسلام والاقتصاد والتنمية والقوة والعدالة، وتهدف السطور التالية لتقديم مدخل مختصر لغير المختصين يساعدهم على إدراك البنية والعوامل المؤثرة في السياسة الدولية، والمرور على أدوات إدراك المصالح المشتركة وتحديات الموازنة بين القيم والمصالح وصولاً إلى فنون إدارتها، ولعلي ازعم أنه هذا المحتوى سيساعد المهتم على فهم أوسع للمشهد الدولي الراهن.
مفهوم السياسة الدولية
يشار إلى السياسة الدولية أنها مجمل العلاقات والتفاعلات والقرارات التي تتم بين الدول، سواء كانت في مجال التعاون أو الصراع، بغرض تحقيق مصالحها على الساحة العالمية، وتشمل العلاقات الثنائية بين دولتين، والعلاقات متعددة الأطراف كالعلاقات داخل الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، كما تشمل إدارة النزاعات المسلحة أو التنافس السلمي والدبلوماسية والتحالفات والمعاهدات، ولا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل تشمل الاقتصاد والأمن والثقافة وحتى قضايا المناخ وحقوق الإنسان.
ولا ينبغي الخلط بين مفهومي السياسة الدولية والسياسة الداخلية، ولكلا منهما مجاله الخاص وطبيعته المختلفة، فالسياسة الداخلية تهدف إلى إدارة شؤون الدولة داخلياً، ويمثل الفاعلون فيها الأحزاب والحكومة والبرلمان والشعب، ويخضع الجميع لدستور وقوانين الدولة، وكل العلاقات تسير وفق ذلك.
أما السياسة الدولية فتهدف إلى تحقيق مصالح الدولة خارجياً، والفاعلون فيها هم الدول والمنظمات والتحالفات والشركات الدولية، ولا توجد سلطة عليا ملزمة بل اتفاقيات وتوازنات محكومة بالقوة والمصالح.
أركان السياسة الدولية
تقوم السياسة الدولية على أربعة أركان أساسية لا غنى عنها:
أولاً: الدولة، وتمثل الوحدة الأساسية في السياسة الدولية وهي الكيان الذي يمتل أرضاً محددة وشعبا دائما وحكومة تمارس السلطة وقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى، وبدون دولة لا يمكن الحديث عن سياسة دولية لأنها هي الطرف الأساسي في أي علاقة دولية.
ثانياً: السيادة، وتعني أن للدولة الحق الكامل في إدارة شؤونها دون تدخل خارجي، ويشمل ذلك سلطة الدولة في وضع القوانين وتطبيقها، وحرية اتخاذ القرارات داخلياً وخارجياً، وللواقعية يمكن القول أنه في العالم المعاصر أصبحت السيادة نسبية، فالدول قد تتنازل طوعاً أو كرهاً عن جزء منها عند دخولها في تحالفات أو اتفاقيات دولية.
ثالثاً: القوة، وهي عنصر حاسم في السياسة الدولية، لا تعني فقط القوة العسكرية بل تشمل القوة الاقتصادية مثل الصين أو ألمانيا، والقوة الثقافية (الناعمة) مثل الولايات المتحدة وهوليوود، والقوة التكنولوجية كما في حالة اليابان وكوريا الجنوبية، والقوة هي ما تمنح الدولة القدرة على التأثير والحصول على ما تريده.
رابعاً: المصالح، وهي الدافع الأساسي لكل تصرف في السياسة الدولية، وتشمل في الغالب تأمين الموارد الطبيعية، وحماية الأمن القومي، وتوسيع النفوذ السياسي أو العسكري، إضافة إلى دعم الحلفاء أو مقاومة الأعداء، وكل دولة تتحرك في العالم وفق حسابات دقيقة لمصالحها، وليس وفق العواطف أو المبادئ المجردة فقط.
العوامل المؤثرة في السياسة الدولية
تُعد السياسة الدولية نتاجاً مركباً لتفاعل عدد كبير من العوامل التي تتداخل وتتنافس لتشكيل سلوك الدول في محيطها الخارجي، ولا يمكن فهم السياسات الخارجية أو التوجهات الدولية لأي دولة دون إدراك هذه العوامل والتي تختلف في طبيعتها ما بين داخلية وخارجية، مادية ومعنوية، دائمة ومتحولة.
أولاً: العوامل العسكرية والأمنية، وتشمل القوة العسكرية والتي تعد في العصر الحالي أحد أهم أدوات فرض الإرادة أو الدفاع عن المصالح، وعلى سبيل المثال فالدول النووية تتمتع بثقل سياسي مضاعف، كما يمثل الانضمام إلى تحالفات كحلف الناتو أو معاهدات الدفاع المشترك عاملاً مهماً في السياسة الدولية.
ثانياً: العوامل الاقتصادية، فالدول ذات الاقتصاديات القوية تكون أكثر تأثيراً في السياسة الدولية، والدول التي ترتبط بعلاقات تجارية واسعة تسلك سياسات أكثر حذرًا تجاه شركائها الاقتصاديين، كما أن القدرات الإنتاجية والصناعية تعزز من الاستقلالية السياسية للدول وتقلل من التبعية.
ثالثاً: العوامل الجغرافية، وتمثل أحد أكثر العوامل ثباتاً وتأثيراً، وتشمل الموقع الجغرافي، فالدول المطلة على البحار مثلاً تختلف في سلوكها عن الدول الحبيسة كونها تعمل على تأمين الممرات البحرية وحماية التجارة العالمية، أضف إلى ذلك المساحة والامتداد، فالمساحات الواسعة تمنح موارد أكبر مع أنها تفرض أعباء أمنية، كما يشكل المناخ والموارد الطبيعية عاملاً جغرافياً فعلى سبيل المثال توفر النفط أو المياه العذبة قد يرفع من أهمية الدولة أو يجعلها عرضة للتهديدات.
رابعاً: العوامل السياسية الداخلية، فالأنظمة الديمقراطية قد تواجه قيوداً داخلية تؤثر في علاقاتها الدولية أكثر بالمقارنة بالأنظمة السلطوية، والدول التي تمر بأزمات داخلية وتفتقد الاستقرار السياسي تضعف قدرتها على المناورة الدولية، كما أن أداء النخب السياسية والفكرية قد تترك أثراً في توجهات القيادة السياسية، وبالتالي التأثير في قرارات السياسة الخارجية.
خامساً: العوامل الثقافية والدينية: كأن تسعى بعض الدول للعب أدوار إقليمية أو دولية بناءً على خلفياتها الدينية أو الثقافية كما في حالة السعودية وإيران والفاتيكان، كما أن الدين والقيم قد يؤثرا في التوجهات السياسية للدولة، إضافة إلى أن اللغة والتعليم والدراما والسينما هي من أدوات القوة الناعمة التي تُستخدم للتأثير في الراي العام المحلي بدلًا من الإكراه، وينعكس ذلك في قرارات السياسة الدولية.
سادساً: العوامل الإعلامية والتكنولوجية، ويشمل التأثير على الرأي العالمي عبر وسائل الإعلام الدولية، كما أن التحكم كم بالمعلومات والبيانات بإمكانه أن يغيّر موازين القوة من خلال السيطرة على المعرفة، ولا ننسى أن الثورة الرقمية سرعت من ديناميكية العلاقات الدولية وخلقت تحديات جديدة كالهاكرز والتضليل والحروب السيبرانية.
سابعاً: النظام الدولي وموازين القوى، فالعالم الأحادي القطبية يختلف عن العالم المتعدد الأقطاب، بالإضافة إلى تأثير القانون الدولي والمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية واستخدام العقوبات كأداة ضغط سياسية.
يمكن القول إن السياسة الدولية ليست نتاج عامل واحد، بل مزيج من عناصر داخلية وخارجية تتفاعل باستمرار وبنسب مختلفة، وهذا التفاعل لا يخضع دائماً لمنطق رياضي، بل يشوبه الغموض والمفاجآت، مما يجعل تحليل السياسة الدولية علماً وفناً في آنٍ واحد.
إدارة المصالح المشتركة بين الدول
تشكل المصالح المشتركة بين الدول أحد أهم محركات السياسة الدولية، وقد تؤدي إلى التعاون أو التنافس أو حتى الصراع، حسب طبيعة هذه المصالح وآليات إدارتها، ويُعد فن إدارة المصالح المشتركة سلوكاً استراتيجياً تتبناه الدول من أجل تعظيم مكاسبها وتقليل خسائرها ضمن بيئة دولية معقدة، والمؤكد أن إدارة المصالح ليست مهمة سهلة، لكنها ضرورة لا غنى عنها في عالم يعتمد على التفاعل والتكامل، والفشل في إدارة هذه المصالح غالباً ما يقود إلى نزاعات وخسائر متبادلة، في حين أن حسن إدارتها يمكن أن يكون ركيزة للاستقرار والتنمية والسلام.
ويشار إلى المصالح المشتركة أنها نقاط الالتقاء بين أهداف وسياسات دولتين أو أكثر وقد تكون دائمة أو مرحلية، وتشمل مجالات المصالح المشتركة الدفاع والأمن، كالتحالفات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية، والاقتصاد والتجارة كاتفاقيات التبادل الحر والمشاريع المشتركة والطاقة، والبيئة والتغير المناخي، إضافة إلى الصحة العالمية ومكافحة الأوبئة، والبحث العلمي والتكنولوجيا كبرامج الفضاء المشتركة ومراكز الأبحاث العابرة للحدود.
تشمل أدوات إدارة المصالح المشتركة الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف، والمنظمات ذات الإطار الدولي كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، أو القومي كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، أو القاري كالاتحاد الأفريقي، بالإضافة إلى القمم والاجتماعات الدورية والقنوات الدبلوماسية المباشرة، والوساطة والتنسيق عبر طرف ثالث.
هناك جملة من التحديات التي تواجه إدارة المصالح المشتركة، وأهمها تضارب الأولويات بين الدول، وعدم التكافؤ في القوة، وسوء الفهم الثقافي أو السياسي، وتغير الحكومات والقيادات، بالإضافة إلى الأزمات المفاجئة، كالحروب والكوارث والانهيارات الاقتصادية، لكن هذه التحديات تم تجاوزها في حال توفر أسباب نجاح غالبة كما في حالة الاتحاد الأوربي، ومجلس التعاون العربي.
وحين الحديث عن إدارة المصالح المشتركة لابد من التعريج على المبادئ الأخلاقية لإدارة هذه المصالح ، ومدى الالتزام بها من عدمه، أما نظرياً فتشمل هذه القيم والمبادئ الشفافية والندية والتكافؤ واحترام السيادة الوطنية والالتزام بالمواثيق والمعاهدات، وحين أن الحديث عما يتم في الواقع فلا مهرب من القول بوجود تداخل في السياسة الدولية بين البعد المصلحي الذي يقوم على حسابات القوة والربح والخسارة، والبعد الأخلاقي الذي يتمثل في القيم الإنسانية والمبادئ العليا، وهذا ما يجرنا للحديث عن العلاقة الجدلية بين هذين البعدين، وتسليط الضوء على مدى التوافق أو التصادم بينهما، ومن يمتلك اليد العليا منهما كمحدد لاتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الدولية.
المصالح مقابل القيم والأخلاق
لطالما شغلت العلاقة بين المصالح القومية والقيم الأخلاقية حيزاً كبيراً في تفكير المنظرين وصناع القرار في السياسة الدولية، فبينما تنادي بعض المدارس الواقعية بالتركيز على المصالح الحيوية باعتبارها جوهر العلاقات بين الدول، تطرح مدارس أخرى مثل الليبرالية والبنائية مقاربة تدمج الأخلاق والقيم في فهم سلوك الدول، وهنا يبرز السؤال الأهم: هل يمكن للدول أن تتصرف أخلاقياً في بيئة دولية تُحكم بالمصلحة؟ أم أن القيم مجرد قناع تتخفى وراءه الدول لخدمة أجنداتها؟
بشكل واقعي وبعيداً عن المثاليات التي تحاول الأنظمة السياسية الحاكمة والمتحكمة بالسياسة الدولية فإن مايتم هو النظر للمصلحة بتجرد تام عن الأخلاق والقيم، وهي صورة بشعة لحقيقة مايتم بعيداً عن الأنظار، وبالمقابل يتم الاختباء وراء شعارات رنانة ليس لها مكان إلا في الإعلام فقط، يقول هانز مورغنثاو أحد منظري هذا المنحى : “لا مكان للأخلاق في السياسة الدولية، لأنها لعبة يحكمها توازن القوى”.
وعلى سبيل المثال فق فقد روّجت الولايات المتحدة أن تدخلها العسكري في العراق جاء لحماية حقوق الإنسان وإسقاط نظام استبدادي، لكن الواقع كشف عن دوافع مصلحية مرتبطة بالنفط، والموقع الجيوسياسي، وترسيخ الهيمنة في الشرق الأوسط، كما أن الغرب وأوربا يقدّمون دعما لأوكرانيا تحت شعار “الدفاع عن الحرية والديمقراطية”، في حين يقول الواقع أن دعمهم هو استخدام القضية كأداة في صراع نفوذ مع روسيا، ويؤكد هذا المنحى تجاهل قضايا إنسانية مشابهة في أماكن أخرى كمظلومية الشعب الفلسطيني في مواجه الاحتلال الغاصب
. في وسط هذا التناقض تُستخدم القيم لتبرير المصالح بواسطة الشرعنة الإعلامية بحيث يتم تقديم الحروب أو العقوبات كـ”دفاع عن حقوق الإنسان”، كما يتم تسليط الضوء على الأحداث بانتقائية كدعم حقوق معينة في مكان وتجاهلها في آخر حسب المصلحة وفرض العقوبات: ليس لمعاقبة منتهكي الحقوق، بل لتقويض الخصوم الاستراتيجيين، وهذا الاستخدام “الأخلاقي-النفعي” يخلق حالة من النفاق السياسي، ما يؤدي إلى تآكل الثقة الدولية في المؤسسات والقيم العالمية.
ومع كل هذا هناك إمكانية للتوازن بين القيم والأخلاق والمصلحة كما حدث في اتفاقية باريس للمناخ وفيها توحدت مصالح الدول مع أخلاقيات حماية الكوكب، بالإضافة إلى ما حصل من توافق إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نتيجة ضغوط أخلاقية دولية إلى جانب المصالح الاقتصادية والسياسية، وهي تجارب يميزها أن المصلحة لا تُلغى، ولكن تُعاد صياغتها بما يتوافق مع القيم، لكن ثمة تحديات أمام تحقيق التوازن في الواقع الدولي، وتشمل ازدواجية المعايير في تطبيق القيم، هيمنة الدول الكبرى على تحديد “ما هو أخلاقي”، بالإضافة إلى طغيان الإعلام في توجيه الرأي العام بناء على المصالح وليس القيم.
النموذج الإسلامي المتوازن
مع غلبة فكرة إدارة السياسة الدولية بالمصالح المطلقة لا يمكن المرور دون التذكير بالنموذج الإسلامي والذي يقدم رؤية فريدة تُزاوج بين تحقيق المصالح المشروعة والالتزام بالقيم الأخلاقية، من خلال السياسة الشرعية والتي يعرّفها ابن القيم بأنها “كل تصرف يكون من الحاكم من أجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة مما يقره الشرع ويوافق قواعده ومقاصده، وإن لم يرد بنص خاص”، كما يذكر ابن تيمية أن “السياسة العادلة جزء من الدين، والعدل واجب على الجميع، فيجب على الحاكم أن يوازن بين المصلحة العامة والأخلاق الإسلامية”.
يمثل ما سبق نموذج لتوجه صريح يحدد قاعدة الموازنة بين المصلحة والقيم، وهو نموذج فريد يُظهر أن تحقيق المصالح لا يعني التفريط في القيم والأخلاق، والمصلحة لا تكون حقيقية إلا إذا وافقت الشرع، وأن الأخلاق ليست رفاهية مثالية بل جزء جوهري من المعادلة السياسية، وهذه الرؤية تمنح الفكر السياسي الإسلامي قدرة على المرونة الواقعية دون السقوط في النفعية المجردة، وتؤهله لتقديم بديل أخلاقي متوازن للعالم المعاصر.
فن إدارة المصالح المشتركة
لم يعد كافياً فقط الاعتراف بوجود مصالح مشتركة بين الدول، بل أصبح من الضروري امتلاك المهارة والحنكة السياسية لإدارتها بفعالية، وهذا يعني أن فن إدارة المصالح المشتركة لا يتطلب مجرد أدوات دبلوماسية، بل يتطلب أيضًا وعياً استراتيجياً وثقافياً وفهماً عميقاً للسياقات المحلية والإقليمية والدولية، كما يتطلب جملة من الأساليب والاستراتيجيات التي تتبعها الدول لتحقيق التوازن بين المكاسب الوطنية ومتطلبات التعاون الدولي، ولأجل تحقيق ذلك لابد من السير وفق المسار التالي:
أولاً: فهم بنية المصالح المشتركة، وحتى تُدار بنجاح ولابد من تحديد نقاط الالتقاء (ما الذي تتفق عليه الدول؟ ما المصالح التي تشكل قاعدة التعاون) ثم تمييز الأولويات (ليس كل مصلحة في نفس الدرجة من الأهمية، ولابد من فرزها بين مصالح أساسية وثانوية( ولابد من تحليل نقاط الخلاف الكامنة (ما يمكن أن يهدد المصالح المشتركة).
ثانياً: بناء الثقة المتبادلة، وهي الشرط الأساسي لأي تعاون فعال، وإدارتها تستلزم الشفافية في التفاوض ومشاركة المعلومات بصدق بما يزرع الطمأنينة، والالتزام بالاتفاقيات السابقة وهو ما يزيد من المصداقية، والاستمرارية في التواصل لتقليل الفجوات التواصلية ومنع إساءة الفهم، وإدارة الخلافات بحكمة عبر اللجوء إلى الحوار لا التصعيد.
ثالثاً: اتقان المهارات التفاوضية، وهو حجر الزاوية في فن إدارة المصالح. وتشمل القدرة على الإقناع بالحجة والمنطق، والمرونة التكتيكية دون التفريط في الجوهر، والتوقيت المناسب لتقديم التنازلات، بالإضافة إلى القدرة على تقديم البدائل الخلاقة.
رابعاً: المؤسسات الداعمة، ويمكنها أن تسهم في استقرار المصالح المشتركة وتشمل المنظمات الإقليمية والدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، أضف إلى ذلك الهيئات الاقتصادية المشتركة مثل أوبك أو الاتحاد الجمركي الأوروبي، وآليات التحكيم الدولي كمحكمة العدل الدولية ومحاكم تسوية النزاعات التجارية، والمراكز البحثية والجامعات التي تدعم صنع القرار عبر توفير المعرفة والتحليلات الموضوعية.
خامساً: الاستجابة للتغيرات الدولية، وبما يكفل إدارة المصالح المشتركة بالمرونة لمواكبة التحولات، كتغير الإدارات أو السياسات في إحدى الدول، أو ظهور تهديدات عالمية جديدة (جائحة، تغير مناخي، صراعات إقليمية، أزمات اقتصادية) مفاجئة تؤثر على مستوى الالتزام أو أولوية المصالح.
سادساً: استخدام أدوات القوة الناعمة، وتستخدم في إدارة المصالح مرافِقة للقوة الصلبة، وتشمل الثقافة والإعلام لخلق صورة إيجابية تعزز الثقة، والمساعدات الإنسانية والتنموية والتي تشكل أدوات لبناء النفوذ الإيجابي، والتبادل الأكاديمي والعلمي لبناء جسور طويلة الأمد من التعاون، والاستثمار في القيم المشتركة كالعدالة والشفافية وحقوق الإنسان.
يمكن القول أن إدارة المصالح المشتركة تمثل مزيج من الواقعية السياسية والمهارة الإنسانية والحنكة الاستراتيجية تسهم فيه الثقافة والقانون والاقتصاد والدبلوماسية معاً، وتحتاج إلى رؤية عابرة للحدود توازن بين ما هو وطني وما هو عالمي، وكلما تطورت قدرة الدول على إدارة المصالح المشتركة كلما اقترب العالم من نموذج أكثر استقراراً وإنصافاً.
ختاماً لابد من التذكير أن فهم السياسة الدولية وما تقوم عليه من مبادئ ومرتكزات يوفر للمتابع قدرة على تفسير كثير من الأحداث والعلاقات، مع التنبيه أن الاختيار الحتمي بين القيم والمصلحة -رغم أنه سائداً- لكنه ليس هو النموذج المتوازن، ولابد من صياغة مصلحة مستدامة قائمة على قيم مقبولة دولياً، والتحول إلى النموذج الذي لا يتجاهل الأخلاق، بل يوظفها بذكاء ويوازنها مع المصلحة ، ومهما بدت السياسة الدولية واقعية وبراغماتية لا يمكن أن تستمر دون سند أخلاقي، فالشعوب اليوم أكثر وعياً، والمجتمع الدولي أكثر تداخلاً، وهناك مؤشرات على مرحلة جديدة يتم فيها إعادة صياغة موازين القوى وتغيير خارطة التأثير والتأثر، وهو ما يُحتّم على الدول أن توازن بين مصالحها وقيمها، وإلا فإنها قد تخسر الإثنين معاً.
مراجع
– وليد عبد الحي. (2013). نظرية الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة تحليلية نقدية. عمان: دار مجدلاوي.
– عبد الله النفيسي. (1983). الفكر السياسي الإسلامي: قضايا وإشكالات. الكويت: دار قرطاس.
– عبد الكريم بكار. (2007). فهم الواقع السياسي. دمشق: دار السلام.
– هانز مورغنثاو – السياسة بين الأمم: النضال من أجل القوة والسلام – ترجمة عبد السلام رضوان، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
– ابن رشد، محمد بن أحمد. (1994). الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. تحقيق: أحمد شحلان. بيروت: المركز الثقافي العربي.
– مجموعة مؤلفين – السياسة الدولية المعاصرة: اتجاهات ومفاهيم – مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.