لا ريبَ أنَّه إذا اجتمعَ الإسلامُ والمُروءَةُ في نفسٍ حُرَّةٍ، بلغتْ من العلياءِ كلَّ مكانٍ، ولكنَّ ذلك ليسَ بلازمٍ، ويُؤسِفُني أنْ أقولَ: ولا شائعٍ، فكمْ من مُسلمٍ بالوراثةِ أو الهُويَّةِ أو المآربِ الشَّخصيَّةِ فيهِ من اللُّؤْمِ والصَّغارِ، ما يُلطِّخُ المَجَرَّةَ بِالذُّلِّ والعارِ، وفي المقابلِ، هناكَ فئامٌ من النَّاسِ ليسوا مُسلمينَ، ولكنَّهمْ أهلُ مُروءةٍ ونَخْوةٍ، وإباءٍ ونَجْدةٍ. وليسَ الأمرُ بِمُحتاجٍ منكَ إلى كبيرٍ بحثٍ، فما هو إلَّا أنْ تَرجِعَ البَصرَ في مواقفِ مَنْ حَوْلَكَ من الحربِ الدَّائرةِ حاليًا في غزَّةِ، أرضِ العزَّةِ، فسينقلبُ إليك البَصرُ بعشراتٍ من الفريقينِ، لا أقولُ: فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعيرِ، وإنَّما أقولُ: فريقٌ متوَّجٌ بتاجِ النُّبلِ والأصالةِ، وفريقٌ ملطَّخٌ بعارِ الخِسَّةِ والنَّذالةِ!
فمنذُ نحوِ عاميْنِ نشرتُ الخاطرةَ رقم (141) بعنوانِ: جاهليَّةٌ وجاهليَّةٌ، قارنْتُ فيها بينَ صُورٍ من الجاهليَّةِ الأولى، التي نَصُبُّ عليها ظالمينَ سِياطَنا، وصُورٍ من الجاهليَّةِ المُعاصرةِ، التي تلفَحُ نيرانُها وُجُوهَنا، وانتهيْتُ إلى أنَّ الجاهليَّةَ ليستْ وصفًا لزمنٍ بعينهِ، وإنَّما لِسُلوكٍ فاسدٍ وتصوُّرٍ مُنحرفٍ، ففي الجاهليَّةِ الأُولى صورٌ من النُّبْلِ تكادُ تنعدمُ لدى أُناسٍ من الغَوْغاءِ، يتشدَّقُونَ بذمِّ ما يُسَمُّونَهُ ظُلْمًا بالعصرِ الجاهليِّ، ولو نُشِرَ أحدُ سَادَتِهم، ورَأى أحوالَ أولئكَ المُنتقدِينَ، لأمعنَ في إثخانِ أولئكَ الأوغادِ؛ ضربًا للرِّقابِ، وشَدًّا للوَثاقِ، آبيًا المنَّ أو الفداءَ. وفي أتونِ عُدوانِ العِصاباتِ الصهيونيَّةِ الهمجيَّةِ على المَدَنِيِّينِ العُزْلِ في قِطاعِ غزَّة، كتبتُ منذ أيَّامٍ: “وَرَبِّ الكَعْبةِ، لو كانَ أبو جهلٍ، وأبو لَهَبٍ، والوليدُ بنُ المغيرةِ، وأضرابُهم من صَناديدِ قريشٍ ضِمْنَ حكَّامِنا اليومَ، لَحَمَلَتْهمْ حميَّةُ الجاهليَّةِ على ردٍّ مُزلزلٍ. ولكنْ، واأسفاه، لا نخوةٌ إسلاميَّةٌ، ولا حميَّةٌ جاهليَّةٌ!”
وهو ما يَحْمِلُني مُجَدَّدًا على مُعاوَدةِ الكرَّةِ؛ لإماطةِ الأذى عن آبائِنا الأوائلِ، دونَ إطالةٍ بِتَعْدادِ أخلاقِهم الرَّاقيةِ، التي حَدَتْ عنترةَ بنَ شدَّادٍ إلى الفخرِ بأنَّه يغضُّ طَرْفَهُ إنْ بَدَتْ له جارَتُه، والتي حَمَلَتِ السَّمَوْألَ بنَ غريضِ بن عادياءَ على الوفاءِ بعهدِ امرئ القيسِ، والحفاظِ على الدُّروعِ التي ائتمنَهُ عليها، وإنْ كانَ المُقابِلُ ذبحَ الخُصُومِ ابنَهُ، قائلًا: (فاذبَحْ هَدِيَّكَ؛ إنِّي مانعٌ جَارِي)، والتي منعتْ أبا سفيانَ من الكذبِ على محمَّدٍ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أمامَ هِرَقلَ، وهو يومئذٍ خَصْمُهُ، حتَّى لا يُؤْثَرَ عليه الكَذِبُ، والتي دَعَتِ العربَ إلى إبرامِ “حِلْفِ الفُضُولِ”، مُتعاهِدِينَ على أنْ يَنْصُروا كلَّ مظلومٍ بِمكَّةَ، وأنْ يردُّوا له ظَلَامَتَهُ، وأنْ يأخُذوا على يَدِ الظَّالِمِ، وألَّا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ما بلَّ بَحرٌ صُوفةً، والتي جعلتْ هندَ بنتَ عُتْبةَ، زوجَ أبي سفيانَ تتعجَّبُ من اشتراطِ الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على النِّساءِ أثناءَ المُبايعةِ ألَّا يَزْنِينَ، قائلةً: أَوَ تزنِي الحُرَّةُ! لقد كنَّا نَسْتَحْيِي من ذلك في الجاهليَّةِ، فكيفَ في الإسلامِ… إلى غيرِها من المَواقفِ الماجدةِ، التي هي في قاموسِ المُخنَّثينَ المُعاصرينَ من أساطيرِ الأوَّلينَ!
وإنَّما أسلِّطُ الضَّوءَ هنا على ثلاثةٍ من نماذجِ المُروءةِ في الجاهليَّةِ، تاركًا للقارئِ الكريمِ حُريَّةَ المُقارنةِ بينَ حالِهم وحالِنا؛ لأنَّها لنْ تَكونَ يقينًا في صَالِحِنا:
النَّموذجُ الأوَّلُ: سَعْيُ هشامِ بنِ عمروٍ في فكٍّ حصارِ المُسلمينَ في شِعْبِ أبي طالبٍ، ففي العامِ السَّابعِ من البعثةِ النبويَّةِ، وجدتْ قريشٌ أنَّ أمرَ النبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَظهرُ يومًا بعد يومٍ، وأنَّه قد تعزَّزَتْ شوكةُ المسلمينَ بعد إسلامِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وحمزةَ بنِ عبدِ المطَّلبِ، رضي الله عنهما، ممَّا يجعلُ المُواجهةَ المُباشِرةَ بعيدةَ المَنالِ، فقرَّروا أنْ يُقاطِعوا بني عبدِ مَنافٍ مُقاطعةً تامَّةً، فلا يُبايعونَهم، ولا يُناكحونهم، ولا يُخالطونهم، وكتبوا ذلك في صحيفةٍ، وأوْدَعُوها جوفَ الكعبةِ، فحُوصِرَ المسلمونَ داخلَ الشِّعبِ، حتَّى أكلوا أوراقَ الشَّجرِ، لكنَّ رجلًا مِنْ ذَوي المُروءةِ هو هشامُ بنُ عمروٍ -وكانَ يومئذٍ مشركًا، ثمَّ أسلمَ عامَ الفتحِ- سَعَى في نقضِ هذه الصَّحيفةِ الظَّالمةِ، فَذَهَبَ إلى زُهَيْرِ بنِ أميَّةَ المَخزوميِّ، وكلَّمَهُ في أمرِ نَقضِها، فوافقَ مباشرةً، ثمَّ انضمَّ إليهما ثلاثةٌ آخرونَ منْ أهلِ المُروءةِ هُمْ: المُطْعِمُ بنُ عديٍّ، وأبو البختريِّ بنُ هشام، وزَمعةُ بنُ الأسودِ، وتواعدَ هؤلاءِ الخَمسةُ الأماجدُ أنْ يذهبوا إلى الكعبةِ، وتقدَّمَ زُهيرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَطَافَ بالبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ على النَّاسِ فقال: “يا أهلَ مَكَّةَ، أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثيابَ، وَبَنُو هاشِمٍ هلْكَى، لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ؟ وَاللَّهِ، لا أقعدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ القَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ. فقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كذبْتَ، واللَّهِ لَا تُشَقُّ، فقالَ له زَمْعةُ بنُ الأَسْوَدِ: أَنْتَ واللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حيثُ كُتِبَتْ، ثمَّ قال أَبُو البَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ، ثم قَالَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا، ثمَّ قال هِشَامُ بنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بليلٍ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا المكانِ، وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ، فَقَامَ المطْعِم إلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الأرَضَةَ قَدْ أكلَتْها، إلَّا عبارةَ “بِاسْمِكَ اللَّهمَّ”!
فأينَ من هذهِ المُروءةِ مَنْ يتركُونَ أكثرَ مِنْ مليونَيْ إنسانٍ مُحاصَرينِ في قِطاعِ غَزَّةَ، دونَ طعامٍ أو ماءٍ أو دواءٍ أو كهرباءٍ أو وقودٍ؟ أليسوا مُشاركينَ لِعَدُوِّ اللهِ وَعَدُوِّهمْ في جَرائِمِه؛ إذْ لا فَرقَ بينَ القتلِ بالنَّارِ، والقتلِ بِالحِصارِ؟!
النَّموذجُ الثاني: إجارةُ المُطْعِمِ بنِ عديِّ للرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ففي شوَّالٍ من السنةِ العاشرةِ للبعثةِ ذهبَ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى الطَّائفِ يدعو أهلَها إلى الإسلامِ، قاطِعًا تلك المسافةَ التي تزيدُ على مِئةِ كيلو مترٍ مَشْيًا ذهابًا وإيابًا، لكنَّهم تطاولوا عليه وطَرَدُوهُ، ثمَّ أغْرَوْا به غِلْمانَهم وسُفهاءَهم، فلاحَقُوهُ بالسِّبابِ، وجَعَلُوا يَرمُونَهُ بالحِجارةِ، حتَّى دَمِيتْ قَدَمَاهُ، ولم يَرجِعوا عنه إلَّا بعد أنْ أَوى إلى بُستانٍ لِعُتْبةَ وشَيْبةَ ابنيْ ربيعةَ على بُعْدِ ثلاثةِ أميالٍ من الطَّائفِ، ولم يَشَأِ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أن يدخلَ مكَّةَ وحيدًا؛ خوفًا من شَماتةِ أهلِها، أو اجترائِهمْ عليه، فلمَّا اقترب من مكَّةَ أرسلَ رجلًا من خزاعةَ إلى المُطعِمِ بنِ عديٍّ، وهو مُشْرِكٌ، يَسألُهُ أنْ يَدْخُلَ في جِوارِه، أيْ حِمايَتِهِ، فَلَمْ يتردَّدِ الرَّجلُ الأبيُّ أمامَ هذا الموقفِ منْ مواقفِ المُروءةِ، فَدَعا بَنيهِ وقومَهُ، وأمرَهم أنْ يَحْمِلُوا أسلِحَتَهمْ، وأنْ يكونوا عندَ أركانِ البيتِ، فدخلَ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مكَّةَ، حتَّى انتهى إلى المسجدِ الحرامِ، فقامَ المُطْعِمُ على راحِلَتِه، فنادى: يا معشرَ قُريشٍ، إنِّي قد أجرْتُ مُحمَّدًا، فَلا يَهِجْهُ أحدٌ منكم، حتَّى انتهى الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى الرُّكنِ، فاستَلَمَهُ، وصلَّى ركعتيْنِ، وانصرفَ إلى بيته، والمُطِعُم بنُ عديٍّ وولَدُهُ مُطِيفُونَ به! وقد رآهمْ أبو جهلٍ ساعتئذٍ، فقالَ للمُطْعِمِ: أمُجِيرٌ أمْ مُتابعٌ؟ قال: بل مُجيرٌ، فقال: قدْ أجرْنا مَنْ أجرْتَ.
وقد ظلَّ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَحملُ لَهُ هذه المَكْرُمةَ الجليلةَ، ففي يومٍ بدرٍ، أسرَ المسلمونَ سبعينَ من المشركينَ، ودارَ جدلٌ كبيرٌ حولَ مَصيرِهم، فتذكَّرَ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، موقفَ المُطعِمِ، وكان قد ماتَ قُبَيْلَ غزوةِ بدرٍ، فقالَ: ” لَوْ كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثمَّ كلَّمَنِي في هؤلاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ”!
فأينَ مِنْ مروءةِ المُطعِمِ أولئكَ المُتخاذِلونَ الذينَ يَجْبُنُونَ عن إجارةِ إخوانِهِمْ في الدِّينِ والعُروبةِ والجِوار ِوالمصيرِ المشتركِ، من عدوِّهم الألدِّ الَّذي يتربَّصُ بهم الدَّوائرَ؟
أَرَانِبُ، غَيْرَ أَنَّهُمُ مُلُوكٌ
مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ، نِيَامُ
النَّموذجُ الثالثُ: مُرافَقَةُ عُثمانِ بنِ طلحةَ السَّيِّدةَ أمَّ سَلَمَةَ في هِجرَتِها، ففي العامِ الثالثِ من الهجرةِ، وبعدَ غزوةِ أُحُدٍ التي قُتِلَ فيها أبوهُ، وعَددٌ من أقاربِه مِنْ بني عبدِ الدَّارِ، الذينَ كانُوا سَدَنَةَ الكَعْبةِ، وهي عواملُ تُضْرِمُ في قلبِهِ نارَ الحِقْدِ عَلَى كلِّ مَنْ ينتمِي إلى هذا الدِّينِ، لكنَّه وجدَ السِّيدةَ أمَّ سَلَمَةَ على جَمَلِها وَحيدةً بالتَّنعيمِ، فسألَها: إلى أينَ يا بنتَ زَادِ الرَّاكبِ؟ وهو لَقَبُ وَالِدِها الذي كانَ مِنْ أجْوادِ العربِ المَعدودينَ، فقالتْ له: أُريدُ زَوجِي بالمدينةِ، ولم تكنْ قد تزوَّجَتِ الرَّسولَ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بعدُ. فَقالَ: أوَ مَا مَعكِ أحدٌ؟ قالتْ: لَا واللهِ، إلَّا الله، ثمَّ ابني هذا، فقالَ: واللهِ، مَا لَكِ مِنْ مَتْرَكٍ، ولَسْتُ عثمانَ بنَ طلحةَ، إنْ لمْ أُبلِّغْكَ مَأمَنَكِ، ثمَّ أخذَ بِخِطامِ بَعيرِها، حتَّى بلغَ بها مشارفَ المدينةِ، ثمَّ رَجَعَ. تقولُ السَّيدةُ أمُّ سَلمةَ رضي الله عنها: “فَوَاللَّهِ، مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ العَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ المَنزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتأخَرَ عَنِّي؛ حَتَّى إذَا نزلْتُ اسْتأخَرَ بِبَعِيرِي؟ فحطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرَةِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِّي إلَى شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّواحُ، قَامَ إلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ، فَرَحَّلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي، فَإِذَا رَكِبْتُ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بعيري، أتى، فأخذَهُ بِخطامِهِ، فَقَادَهُ، حتَّى ينزلَ بِي، حَتَّى أَقْدَمَنِي المَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرو بنِ عَوْفٍ بِقُباءَ، قال: زَوجُك في هذهِ القريةِ، وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا، فَادْخُلِيها على بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكَّةَ.
وشاءَ اللهُ أنْ يُسْلِمَ عُثْمانُ بنُ طَلحةَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، وأنْ يَشهدَ فتحَ مكَّةَ، وأنْ تتحقَّقَ نُبوءَةٌ قديمةٌ للنبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ذلكَ أنَّهُ في بدايةِ الإسلامِ أرادَ أنْ يدخُلَ الكعبةَ، فَأغْلَظَ له عُثمانُ بنُ طلحةَ القولَ، ونالَ منه، ولكنَّهُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَلُمَ عنهُ، وقالَ له: “يا عثمانُ، لعلَّكَ سَترى هذا المفتاحَ يومًا بِيَدِي، أَضَعُهُ حَيثُ شِئْتُ. فقالَ لَهُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قريشُ يومئذٍ، وَذَلَّتْ. فقالَ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “بل عَمِرَتْ، وعزَّتْ يومئذٍ”، وبعد الفتحِ الأعظمِ نادى عليه النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وسلَّمَهُ مَفاتيحَ الكعبةِ، قائلًا: ” خُذوها، يا بنى أبى طَلحةَ، تالدةً خالدةً، لا يَنْزِعُها منكمْ إلَّا ظالمٌ”.
أرأيْتَ رجلًا يقطعُ مع امرأةٍ من خُصُومِهِ في الدِّينِ تلكَ المَسافةَ القصيَّةَ بينَ مكَّةَ والمدينةِ ذهابًا وإيابًا، يَخدمُها، ويستحيي أنْ ينظرَ إليها، حتَّى يُبْلِغَها مَأمَنَها؛ استجابةً لِداعي المُروءةِ، وهو يومئذٍ كافرٌ؟ فأينَ منه مَنْ يتركونَ إخوانَهم يُمزَّقونَ أشلاء، ولا تتحركُ في عُروقِهِمُ الدَّماء؟
وختامًا، فَمَا أراكَ إلَّا مُتَّفِقًا مَعي في أنَّ جُلَّ أصحابِ القرارِ اليومَ ليسَ لَديْهم مِثقالُ حَبَّةِ خَردلٍ من المُروءةِ الَّتي كانَ يتحلَّى بها مَنْ نُسَمِّيهمْ بأهلِ الجاهليَّةِ، وأنَّ المُقارنةَ في النَّخوةِ بينَ الفريقيْنِ كالمُقارنةِ بينَ الأعمى والبَصيرِ، والظُّلماتِ والنُّورِ، والظِّلِّ والحَرُورِ، وأنَّ أرواحَ ذَوي المُروءاتِ من أهلِ الجاهليَّةِ تُشِيحُ عنهمْ، وتشمَئِزُّ منهمْ قائلةً: إليكُمْ عنِّي، فَما أنا مِنكم ولا أنتم مِنِّي! وَمَا أراكَ إلَّا مُوقِنًا بأنَّ أكثرَ ما تَسمعُ مِنَ الجَعْجَعَةِ اللَّفظيَّةِ الفَارغةِ -الَّتِي تَلوكُهَا ألسنةُ أولئكَ القَعَدَةِ المُتخاذلينَ، أو أولئكَ المُثَبِّطِينَ المُرْجِفِينَ- تَستدْعِي إلى ذِهْنِكَ مُباشرةً قولَ مَعروفٍ الرُّصافيِّ (ت1945هـ):
لَا يَخْدَعَنْكَ هِتَافُ القَوْمِ بِالوَطَنِ
فَالقَوْمُ فِي السِّرِّ غَيْرُ القَوْمِ فِي العَلَنِ
وأمَّا أنتمْ، سادَتَنا مِنْ أهلِ غزَّةَ الصَّابرةِ، فَحَسْبُكُمْ عزُّ الصُّمودِ وقتَ أنْ خَذلَكُم النَّاسُ، وشَرَفُ الثَّباتِ على أرضِكُمُ المقدَّسَةِ يومَ أنْ تخلَّى عنكم القريبُ والبَعيدُ، وقوَّةُ التَّماسُكِ رغمِ تكالُبِ الأُمَمِ عليكُم، وعَظَمةُ الالتفافِ حولَ القيادةِ المُجاهدةِ الَّتي يتآمَرُ العالَمُ المُنافِقُ على شَيْطَنَتِها، وما أراكُمْ لِكثرةِ ما حلَّ بكمْ من آلامٍ تَنْهَدُّ لها الجِبَالُ إلَّا مُتمثِّلِينَ قَوْلَ أبي الطَّيِّبِ:
رَمَانِي الدَّهْرُ بِالأَرْزَاءِ، حَتَّى
فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ!
فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ
تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ!
وَهَانَ، فَمَا أُبَالَي بِالرَّزَايَا
لِأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي!