أخذت المحبرة وجلستُ أتأمل الصفحة طويلاً، أحبُّ مخاطبة القارئ مباشرة قبل أن آخذ بالحديث العام.. لأن في البدايات خصوصية لا تُشبه ما يأتي بعدها، أتصوّر الآن بعض قرائي ممن أحبُ ويحبون أن أتوجه إليهم أولاً ليكون الحديث معنيًا بهم، ومن ثم يتوسع المتن مُرحِّبًا بالقادمين طُرَّاق هذه المقالة.
لستُ ممن يحبُ القوالب التي تُعد سلفًا للكُتّاب، ولا من الذين يثقون بالمقدمات التي تشبه واجهات المتاجر، كما أنني أرحمك من ملل المقدّمات الباهتة أو الصحفية الباردة، وحتى تلك التي تثير فضولك وتستدرجك رويدًا لتقرأ! علامَ يفعلون ذلك؟ يستحق القارئ أن يكون ذا إرادة كاملة داخل النص، أنا أستغل المقدِّمة الآن لأرحَّبَ بك ليس إلا، أهلاً بكَ نزيلاً أرضَ هذه المقالة.
الحقيقة أني أطلتُ مُحدِّثًا نفسي إثر بدأي رواية دوستويفسكي ونظرياته وآرائه التي قدّمها فيها، بدأت روايته “ذكريات من منزل الأموات” مطلعَ العام، وحالت أمور دون القراءة إلى يومكم هذا، جلستُ إليها يعتريني زهو وفرحٌ طفولي، إذ مرَّت أشهر ما جلست مجلسًا أقلِّبُ فيه كتابًا تصيبني الدهشة فيه بين سطرٍ وآخر، إثر ذلك وجدتُ نفسي مدفوعةً للكتابة عن شيءٍ من عبقرية الفيلسوف الروسي وآثاره على مفهوم العدالة في الوجدانِ الإنساني العريض.
سيبيريا: كتشكيل آخرٍ للإنسان
لطالما حضرت سيبيريا في الخيال المعاصر بوصفها صورةً للمنفى البعيد، إنها بلاد ما وراء الشمس، البلادُ التي لا يعود زوّارُها، المصيرُ الجليدي المستعدُ دومًا لإيقاع الهلاك والبُعد والتهميش على رؤوس أعتى المتكبرين على النُظم الإنسانية المختلفة.. إن “ذكريات من منزل الأموات” رواية مستمدة من تجربة دوستويفسكي الشخصية في السجن السيبيري، إذ حُكم عليه بالإعدام ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة قضى فيها دوستو أربع سنين، سأشير أولاً إلى هامش ذي شأنٍ إن تحدّثنا عن السجن، وهو أن السجن عالمٌ متكاملٌ كبير لا يصح أن ننظرَ إليه أو في أحواله دون أن نستحضر أنه سمحَ لآلاف الحيوات بالتوالد فيه سنين كثيرة، ولأن الإنسان مُمكَّن ليواكب الظروف إن لم يستطع خلقَها، فإنه لا بدَّ أن نعطي ظروف السجن قيمة الظروف الكونية خارجه، بناءً على هذا تضع كلَّ تفصيل صغير في حياة السجين تحت المجهر من باب النسبة والتناسب، فما لا ننتبه إليه في الخارج قد يُمثل حياةً كاملة للمساجين، ابتداءً بالحساءِ والمشرب، وانتهاءً بالنتوءات الصغيرة والفطريات التي تتشكَّل وتُخلق في زوايا حوائطِ السجن؛ وإذا انتقلنا من الهامش إلى المتن نفهم كيف استطاع دوستو أن يصوّر حوائط السجن وحياته الرثة الساذجة حياةً إنسانية باذخة المشاعر دقيقة التقاسيم والملامح، إذ بنى الرواية على مستويين متوازيين: المستوى الإنساني العميق الذي يصوّر فيه التجربة الفردية للمعاناة، والمستوى البنيوي الذي يُعيد فيه تشكيل السجن كمجتمع حيّ متكامل بتفاعلاته النفسية والاجتماعية والإنسانية العامة.
ولأن سجن دوستو عالمٌ واسع، ترى فيه التجربة الفردية للسجن تجاربَ موسومٌ كل منها بوسمه الخاص، فليس للراوية بطل وحيد، بل عدد يربو على العشرين! فهذا النبيل والصادق والحَسن والآخر اليهودي والعربيد والمتسلط والوضيع والمخذول إلى آخر النماذج الإنسانية الممكنة، وترى كذلك في لوحة دوستو صورًا مجتمعية لا صورةً واحدة، فالسجنُ وإن حسِبه الناس مجتمعًا واحدًا بذاته، إلا أنه متشظٍ في الداخل إلى مجتمعات صغيرة، النبلاء، الفلاحون، الضباط، المهاجرون، وغيرهم.. شكّل السجنُ مجتمعَ هؤلاء اضطراريًا، وشكّلوا هم مختارين مجتمعاتهم داخلَ السجن؛ أمعن النظر ترى أنها صورةٌ للعالم وإن كان غلافها قضبان سيبيريا، أشبع فيها دوستويفسكي الرواية بما يكفي من أُطر التشكيل والتفصيل ليمنح القارئ صورةً متماسكة عن مجتمع نابض بأشكال الحياة آلامها وتناقضاتها وأفراحها البائسة واللحظية المتقطعة، خذ صورَ دوستو واقطعها عن سياج السجن كحيّز معزول وانشرها على طول الكوكب ترى أن العالم امتداد لذلك القيد السيبيري.. سجنٌ كبير أجادَ دوستو رسمه في مجموعِ أربع مئة صفحة.
السجين بوصفه إنسانًا قبل الجُرم
ارجع قبل ثورة أدب السجون، ترى أن اللافت في طرح دوستو أنه وظَّف تأملاته لانتزاع السجين من قالب الجريمة إلى القالب الإنساني الواسع، ومهَّد هو بذلك لإخراج جيلٍ جديد من الأدب إلى النور، مُقدِّمًا بذلك خدمة للإنسانية من بعده، النظرُ للسجين ضمن دائرة الذنب والجُبن والضعف الدافع للأخطاء الجِسام، ومن ثم التعامل معه على أنه “إنسان” قبل الخطأ، تقييم الجُرم على أنه طارئٌ لا على أنه الأصل أنتجَ أدبًا جديدًا وأنطق لسان المساجين بعد قرونٍ من الصمت.
لم يكن السجين في ذلك العصر قد أخذ الطابع البطولي الذي حصلَ عليه العقود الأخيرة، بل كان المتعارف عليه أن السجين مجرمٌ مدان يقضي في السجن فترةَ عقوبة مستحقة ويخرج يحمل وسمَ السجن في المجتمع، يصح -ربما- أنهم يُعدَّون جهنميي المجتمعاتِ آنذاك، جاء طرح دوستو مفعم الإنسانية ليلقي عن المساجين قيد الجهنمية الذي يُلحِق بهم وبآلِهم العار ويزجهم في دائرة المغضوب عليهم ولو بعد انقضاء العقوبة، أعاد دوستو القيمة المعنوية للسجين كإنسان تقوم في نفسه العوالم الوجدانية وتتلظى في ذاته العواطف الإنسانية المجردة عن الذنب، سلَّط في الرواية ذهنَ القارئ على وسم الضعف الذي جُبلَ الإنسان عليه، وأبانَ عن تشكّلات هذا الضعف: بالقتل والتسلط والتكبر والزهو والتبختر ولو على جثث القتلى، وأنا أقرر توسيعَ معنى الضعف الإنساني ليحوي مظاهر القوة المصطنعة كالسالفِ ذكرها، ودوستو فعلَ ذلك بشفقةٍ تتجاوز التصنيف الأخلاقي المعتاد، مع العلم أننا لا نتحدث عن أمثال سجناء اليوم أصحاب المظالم، ولا عن مساكين سجنهم رغيف الخبز كمن سلَّط عليهم هوجو ضوءه في البؤساء، إنما نتحدث عن أصحاب جرمٍ حقيقي، عن أخطاء مروّعة وعن انفعالات لم تُحكم قيد أنملة، يقول دوستو في وصفِ أحدهم “إنَّ العقل لا سلطان له على أُناسٍ مثلَ بتروف إلا بمقدار ما تكون نفوسهم خالية من الرغبة في شيءٍ من الأشياء. حتى إذا شبَّت في نفوسهم هذه الرغبة لم تحل بينهم وبين تحقيق إرادتهم أية عقبات”(1) إنهم أُناس على هذه الشاكلة، لكنَّهم أُناس من جملة البشر، يعتريهم الضعف ويستحقون الرحمة والشفقة، وهذا ما كان دوستو يكرر سردَه، وهو الذي توسَّع وفصَّل فيه في فريدَته “الجريمة والعقاب” والتي ينتهي المطافُ ببطلها -أيضًا!- خلف قضبان سيبيريا ولا تملك إلا أن تحملَ له جمًا من التسامح والرحمة رغم الاستثنائية التي كان يحسبُ نفسه يتمتعُ بها عن غيره، إذ حوَّر دوستو هناك تنفيذ غرض العقوبة -الإصلاح من مهمة الدولة في السجن، إلى عاتق المجرم.. وصورة العذابِ النفسي الذي عانى منه راسكولينكوف قبل السجن، جعل سيبيريا الثلجَ والبردَ الذي تُغسلَ به الخطايا، فسيبيريا في هذه الحالة فقط سجنُ تأهيل لا تعذيب وتضخيمٍ للجرم وحسب؛ هذه الشجاعة والصدق أو الإنسانية المطلقة التي غزَت عقل دوستو ووجدانه هي أعظمُ ما يُحمَد دوستويفسكي لأجله لـيوم الناسِ هذا؛ وقد فجَّر بذلك نبعًا من النُبل سالَ من بعدِه على أقطارِ العالم صانعًا بذلك الرحمة والرغبة في إنقاذ الإنسان وفهم جوهر العقوبة.
نحو العدالة الحقة: من العقوبة إلى الإصلاح
إننا في عالمنا الوحشيِّ المتهالك بحاجةٍ ماسّة إلى ضبطِ قانون العقوبات والتصرفات الهمجية للمتصرفين باسم الأمن في بلادنا، نريدُ أن ينظر المتصرفون إلى المجرم بعددٍ مهولٍ من الأعين والأبصار لندرك الإطار الذي أسس للجريمة لنبدأ بعلاجه أولاً، لنستطيع تبعًا لذلك التأسيس لعدالة حقيقية، أما أن نضرب خبط عشواء على أيدي المجرمين فذلك لا يعدو إلا أن يزيد تعدادهم وغيضهم وتمكينهم في تكتّلاتٍ تُنهك قبضة الأمن؛ على عقلية الدولة أن تُخلِّصَ أجنادها من إطار الانتقام الشهوانيِّ والبغي الذي اعتاد حمَلةُ السلاحِ عليه أيام شتاتِ الفصائل وتنازعها دون رقيبٍ على واحدٍ منهم، على مؤسسات الدولة اليوم أن تسعى إلى استخلاصِ المجرم من إطاره ومجتمعه، وأن تعريه من دوافعه أولاً، قبلَ أن تفكر في طرائق العقوبة الممكنة، وقبل أن تجعل من العقوبة أداة تشفٍ واستهزاء أو انتقامٍ باسم رضى عقل المجاميع الهائجة.
الهوامش:
- ذكريات من منزل الأموات- ترجمة سامي الدروبي- طبعة التنوير للطباعة والنشر