أشتات

من هندسة الطيران.. إلى هندسة القلوب

ثمّ موتٌ في أقدس بقاعِ الأرض.. مكة المكرمة هكذا كانت خاتمة الولي الصالح شعراوي اليمن ..المهندس محمد المقرمي،..
وكأنّه اشتاق للقاء الله فسافر من اليمن لبلاد الحرمين ليعتمر ويزور قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وقد كان بالأمس هناك ولمّا أكمل عمرته وزيارته قبضه الله حيث أحب.. في خاتمة تشبه طهر قلبه وتليق بمقامه الرفيع..
❃❃❃
كانت آخر محاضرة وآخر درس سمعته في صنعاء هو بين يدي شيخنا الجليل، وتلك ذكريات تستحث الدمع وتبعث الشجَى، وقد كنّا عشرة أو قريبا من عشرة فأحببنا أن نسمع منه ما يشفي القلوب ويريح الأفئدة، فاتصلنا به نريد لقياه، فقال نلتقي في مسجدٍ سَمّاه، وهو مسجد صغير ضيّق عتيق تهب منه رائحة القِدم وتهب فيه نسمات السكينة، وتشع منه أنوار الروحانية قريبا من منطقة عصر في صنعاء، فقال هناك نلتقي يا أولادي في صلاة الفجر، وحدد لنا اليوم، فأتيناه خفافا متفرقين لحاجة في نفس يعقوب، ولمّا أن سلمنا من الصلاة رأيناه في طرف الصف، وانتظرنا حتى انفض الناس وهم قلة، فتقدم وجلس في المحراب وتحلّقنا حوله ويا للجمال كأنه بدر السماء أو لكأنه هبط علينا الساعة من غار حِراء التدبر، واستفتح ثم سألَنا عن ماذا يتكلم؟
قلنا: مما فتح الله عليك شيخنا.
فتلفّت يمينا وشمالا_ ولا أنسى تَلفُّته إلى هذه اللحظة _ ثم قال ليس في رأسي أي موضوع لكن بما أني أرَى المحراب وأنا وسطه ما رأيكم نتحدّث عن المحراب؟
قلنا: تفضل القول قولك، فتحدث ساعة تزيد قليلا حتى طلعت الشمس وارتفعت ما سكت، ولا أعاد جملة، ولا توقف في مثال، بتلك اللهجة العامية التي تلج القلوب بلا استئذان، فكأنه السيل نزل من علٍ، بدأ بذكر آيات المحراب من عند مريم ثم زكريا عليهما السلام، ثم كرامات المحراب وعطاياه، مشبعا الموضوع كأنه يقرأ كتاباأمامه، فسبحان الذي فتح عليه تلك الفتوح، ووهبه ذاك الوهب، ومن ذلك الحين الذي مضى_ أي ما يقرب من عشر سنوات_  لم أسمع من تَكلم في عطايا المحراب مثله..
❃❃❃
لقد كانَ الشيخ المقرمي شخصية استثنائية، جمعت بين العقل الهندسي والتأمل القرآني، وبين الدقة العلمية والبصيرة الإيمانية.
وهو لم يكن داعية تقليديًا، بل كان عقلًا هندسيًا وروحًا قرآنية. هو مهندس طيران في مسيرته المهنية، لكنه في عمق قلبه كان مهندسًا للمعاني، يبني الجسور بين النص القرآني والواقع الإنساني. عاش حياته في تأملات صامتة، لكنها كانت تهزّ القلوب، وتوقظ الأرواح، وتعيد ترتيب المفاهيم. لم يكن كثير الظهور، لكنه كان عميق الأثر.
لم يكن جهده في كثرة الخطب، بل في عمق الفهم. لم يكن يركّز على الكم، بل على الكيف. كان يقرأ القرآن كما يُقرأ الكون: بعين الباحث، وقلب المتأمل، وعقل المهندس. كان يربط بين الآيات والسنن الكونية، بين القصص القرآني وسنن التاريخ، بين الكلمات الإلهية وحركة الإنسان. جهده كان في إعادة اكتشاف القرآن كمنهج حياة، لا كمجرد نص محفوظ.
وأعتقد أن ما ميّزه عن غيره في مسيرة التدبر القرآني ثلاثة أمور:

أولها: المنهج التأملي العميق:

لم يكن يقدّم التفسير التقليدي، بل كان يغوص في المعاني، ويستخرج من كل آية قانونًا للحياة. كان يرى في كل قصة قرآنية خارطة للتدبير الإلهي، وفي كل كلمة مفتاحًا لفهم النفس والكون.

ثانيها: الدمج بين العقل العلمي والنص القرآني: 

كمهندس طيران، امتلك أدوات التحليل والدقة، لكنه لم يفصلها عن الإيمان. بل جعل من تخصصه وسيلة لفهم السنن الربانية، وربط بين قوانين الهندسة وقوانين الهداية، بين ديناميكا الطيران وديناميكا الروح فطار بالقلوب إلى خالقها.

ثالثها: الهدوء العميق والتأثير الصامت:

لم يكن خطيبًا فصيحا، أو مؤلفا مُحبّرا، أو فقيها مفتيا لكنه كان  كان صاحب طربقة أخرى في الدلالة على الله حيث يترك أثرًا لا يُمحى بكلماته الهادئة المؤثرة التي تنساب إلى القلوب انسياب الماء في المجرى. كلماته كانت قليلة، لكنها مشحونة بالمعنى. لم يكن يسعى للشهرة، بل للصدق. وكان الناس ينجذبون إليه لأنه يرفع وعيهم، ويسلب بمعانيه قلوبهم..
❃❃❃
خطَّ المهندس محمد المقرمي رحلةَ عمرٍ كأنها لوحة من نورٍ أضاءت للعالمين، وروضة جمال فاحت بالرياحين، وكلية تدبر قامت على الأنسِ بالوحيِ وصدقِ التجربةِ مع سطور الكتاب المبين.
انتهَت رحلة الشيخ محمد المقرمي كما بدأت: في هدوء النور، ونقاء البصيرة، وجمال السائرين إلى الله. كانت حياته صفحة مضيئة، كأنها لوحة من نور، رسمتها أنامل التأمل، وغسلتها ينابيع الوحي، وأحاطتها هالة من الإخلاص والتجرد والقبول والفتح. لم يكن مجرد مهندس طيران يحلّق في السماء، بل كان مهندسًا للقلوب، يشيّد جسورًا بين الأرواح وربها، ويعيد للقرآن بهاءه في النفوس التي أرهقها صخب الحياة.
مضى إلى ربه، بعد عمرٍ طويلٍ من الصحبة مع الذكر، والمجالسة مع المعاني، والمناجاة مع الآيات. لم يكن واعظًا تقليديًا، بل كان همسًا رقيقًا في آذان القلوب، يوقظها من سباتها، ويعيدها إلى فطرتها الأولى، حيث الصفاء والسكينة. كان صوته نَفَسًا من رياض الغيب، ينساب على الأرواح كما ينساب النسيم على قلبٍ عطِش، يرويها من نبع الطمأنينة، ويغسل عنها غبار التيه.
❃❃❃
نرثيك يا من كنتَ بوصلةً للباحثين عن الله، ويا من جعلت من التأمل في كلامه طريقًا إلى الشفاء. نرثيك بكلمتك التي صارت شعارًا للقلوب المتعبة: “من وجد الله، ما افتقد شيئًا”. لم تكن مجرد عبارة، بل كانت خلاصة عمرٍ من السعي، وتجسيدًا لحقيقةٍ ذاقها قلبك، فشهدت بها شفتاك، فصارت نبراسًا لمن تاه في دروب الحياة.
كنتَ مثالًا نادرًا للمهندس الذي أدرك أن الارتفاع الحقيقي لا يكون في التحليق بين السحب، بل في السمو بالروح نحو خالقها. لم تكن تحلّق بطائرات فحسب، بل كنت تحلّق بالمعاني، وتُقلع بالقلوب نحو الأعالي. كنتَ جسرًا بين الأرض والسماء، ومفتاحًا يفتح خزائن المعنى في كتاب الله، فتفيض على السامعين سكينةً، وعلى المتأملين نورًا، وعلى التائهين طريقًا.
ورحيلك، يا شيخنا، لم يكن إلا موعظةً أخرى، تقول لنا إن الخواتيم مرآة البدايات، وإن من عاش مع القرآن، لا يموت إلا على شوقٍ إليه. رحلتَ كما يليق بأهل القرآن: في أقدس البقاع، وعلى حالٍ من الذكر، كأنك تهمس للملائكة: “ها قد آن اللقاء”. لقد ختمت حياتك كما عشتها، في حضرة النور، وبين آيات الله، وبين قلوبٍ أحبّتك لأنها رأت فيك أثر الوحي، وسمعت منك نداء السماء.
رحمك الله رحمةً واسعة، وجعل من ذكراك نورًا لا ينطفئ، ومن كلماتك ميراثًا لا يُنسى، ومن أثرك طريقًا يسلكه السائرون إلى الله. لقد كنتَ من أولئك الذين لا يرحلون، بل يظلون بيننا، في كل تأمل، وكل آية، وكل لحظة صدق مع الله.
اللهم إن الشيخ المقرمي قضى عمره في التعريف بكَ وإنه الآن ضيفك فأكرمه بواسع رحمتك..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى