اعلم، قذفَ الله في وجدان حواسك حق الهداية، أنَّ من لم يقفْ لشيء سيسقط لأي شيء، وأنّ مُدبِرَ العافية مَن كان أميَلَ إلى الهوى فأوشك اجتنابًا للحق، ومنِ اجتنب الحق أوشك مصدةً عن السبيل، ومن صد عن ذاك استحسنَ ظنَّه، ومن استحسن ذاك وطّدَ عِمادَ الأُنسة بالكِذاب ومواقعِ الوهم وتفريخه، ومن أُودِعَ هذا كلَّه استُسقِط لكل ما عرضَ له من نقائصٍ وقصائص. وأنت في عصرٍ هو ابن بَجْدةِ ريحٍ إلا من رحمَ اللهُ من أخيار، وقليلٌ ما هم.
«والدهرُ آخرهُ شِبهٌ بأوّلهِ
ناسٌ كناسٍ وأيامٌ كأيامِ»
بين هذا المُصاغ للمقالةِ السائدة: «ما من شيءٍ استجدّ تحت الشمس» وبين المقالة التي سادت من قريبٍ أنَّ «شيئًا لم يعدْ كسابق عهده» زُبِرَ بيانُ القطيعة التأريخية إثر الثورة الصناعية فالاستهلاكية فالجماهيرية الرقمية، وهذا عصرٌ الفيصل بينه وبين ما ولّت من قرونٍ كبيرٌ عظيم، ومن ذلك تمثيلاً للسياق: أنَّ التصدّرَ للحديث والتعبير عن رأي وفكرٍ في النُّظم القديمة يقتضي مراسيمَ أدعى للجدِّ والكد في تحصيل جوازها لمن رامَ لفكره ذيوعًا أو لرأيه عرضًا وسماعًا، ومجلسُ الخليفة هو الساحةُ المتاحة، وفكرة التوصل إليه أدنى لمراجعة المرء أفكاره قبل التأهُّب للوقوف في ذاك المقام؛ هناك حيث يُعلن لرأيك التوفيق والقبول وإما فالجهر بالبراءة من العقيدة التي أردت، اعتدالٌ أو اعتزال. وهذا رادعٌ في حد ذاته، كما أنه ينبي عن مكانة العلم المصونة آنذاك، فليس لكل من تكانفتِ المظنةُ عنده ووقعَ في وهمه أن ما عنده حقيقٌ بالنشر والذيوع كان له ذاك، بل لذاك ضوابطه. وأمّا عصرنا، هذا الذي ننعاه دائمًا مع أنَّا صغناه بغير رويّةٍ منا، فقد أوغلَ في تحرير الإنسان من ضوابط المكان والزمان والحدودِ الاجتماعية، ومكّنته التقانةُ من إطلاق القِياد لنفسه وكل ما علقَ بها من بوارحٍ وسوانح، ولك كم مِن صاغ، ولك كم مِن ذائع، فليس مِن رادع، وليس من رادٍ لكرامتك إن هُتِكَت كراتٍ ومراتٍ لمُستسقم ما تثير. وفي مقام القول الموافق:
السيلُ التشكيكي في العقائد الذي نعاني منه اليوم، والذي ساهمَت فيه الوسائل على قوائمها ورؤوسها، ومجتمعاتنا الإسلامية ليست خلوًا من هكذا ظاهرة استحكمَت حلقاتُها على عقل الإنسان المعاصر، فهاك اليوم كم من شاب، بل كم من جماعاتٍ وأخواتها، تبسط الأسئلة التي من حقها البسط لكنها تنحو إلى المصادرة على المطلوب لتستغرض منها غير قرطاسها، وتوطأ فيها تمشيةً لحالٍ واقفة. وعلى رأس هذه الأسئلة: التساؤلات الوجودية عن الإله والخلق، والتساؤلات الدنيوية عن تحكيم الشرائع والحق(الدين والدولة). فهذه سؤلات شاهدُ مقالها رحلة بحثٍ عن اليقين، وشاهد حالها أن كلَّ رحلة بحثٍ عن اليقين هي أصالة رحلة البحث عن الشك، وهذه الرحلة في عموم مظانّها: أختُ الدسيسة لأمها وأبيها.
واعلم، أوتيتَ الفرقانَ المبين في القضايا، أنّ هذه التساؤلات على رغم امتدادها تاريخيًا إلا أنها في عصرنا اكتسبت صبغةَ المشروعية، وحرية الرأي والتعبير التي يتوسّلون بها نزاهةً ما هي إلا بطانة الإرهاب كراهةً على الآخرين. ومن السرديات الحاصلة في مقامٍ موافق، رغبة الإنسان المعاصر في إقامة مدينته على أطلال مدينة الله، أو بنبرةٍ ألين من هذه: ما يعتقدهُ الواعظُ الليبرالي أنَّا قادرون على إنزال ملكوت السماء إلى أرضنا، أو أسواقنا، فقط إذا اجتهدنا في تحقيق الازدها المادي! ودالُّ هذا ما له من مداخلٍ في استجواب الإرادة الإلهية والاحتجاج عليها بداءةً، ومن ثم مساءلة [طبيعة الإله]. وكذا تجد لفيفًا من المشاريع الحداثية في قراءة الوحي والتُّراث كرّسَت نفسها في تفسير الزهرة بالسَّماد، وذاك أعق زورًا، ومن ذاك ما قد يعرضُ لك في معاينة تلك المشاريع وما خلصَت إليه من تصوير الله على أنه مفهوم لا دليل له، واعتباره حاصلاً متحققًا في النفس ليس إلا حصيلة انعكاسية لرغبةٍ إنسانية تستقصي آمالاً عِراض الوهم تنقذها من موتٍ متحقِّق، وقهرٍ دنيوي مُسحِق، وعلى هذا فلا مندوحة، بالنسبة إليهم، من أن اللهَ مفهومًا متطورًا تقتضيه حاجةُ المجتمع، وحاصل شأن هذا الطرح أن يقولَ للقارئ، أنَّ هذا الدين، بحمولته: داخل المجتمع ولا سماء له. ومن أدبرت عافيته فقد غفل هنا أن تلك الأطروحات، وهي كثيرةٌ، وكفاية تمثيلها قياسًا: مشروع محمد أركون في «نقد العقل الإسلامي»، أغاليطها من جرثومتين اثنتين لرَحمٍ واحد:
١.صوريةٌ استنباطية استوردت عقلاً أوروبيًا هي الفصال كله عن السياق الإسلامي، وهي خطأ كلها وعثارٌ أهلُها، وأخرى:
٢.عملية استقرائية وتكون خِداجًا فجًا في الإثبات وتسطيحًا لشاخِص. وكأنّ بحال لسانهم يقيمُ الحجةَ على قصور أفقهم المعرفي في تصور الحاجة الإنسانية بهذا التجريد العقلي الذي ينتهي إلى مصادرة لحقٍّ من حقوق الإنسان في انتمائه العقدي، وبحثٍ مُمض شاق في إثباتٍ مادي، فقلوبهم قفلٌ إلا مِن كل ما له حسيسٌ وبُدُوّ، كمساند يمنات تُلمس وتُرى، أو ما دونها خبرًا ونقلاً وعقلاً فباطلٌ ووهم!
والأمر ليس قصرًا على هذه الجهة، فرؤوس الثعابين كثيرة، منها تأثير المفاهيم الحداثية المعاصرة على عقلية الشاب المسلم اليوم، سيما أنها تشغله بسؤالٍ مُكدِر، وهو: لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟ هذا السؤال الذي يجعل الذات في مواجهة الآخر المتباين عنها في أحكامه وتاريخه وسُننه وواقعه وأسبابه ومآلاته، وهو سؤالٌ لا مُسكة له من لُب المنهجية والصحة؛ إذ به يقتضي أن أسبابَ تخلّفنا هي عينُها أسباب تخلف الذين تقدموا! فهيتَ لك من مشاريع زُعم التنوير فيها بُنيَت على هذا السؤال الخاطئ، ووقفَت على وهمه فجعلتْ تصطاد اللحمةَ في زربة شوك!
ثم بالسؤالات لا تنتجُ حلولاً مِقدار خطّها لسؤالاتٍ أخرى تُصاغ خطأً وفقًا لحجاجٍ مستسقِمٍ عاجز عن نفسه، ورؤيةٍ سُوِّستْ بعُجمة الأحكام، ومن ذاك: سؤال «الشريعة على فَهم مَن؟» وهو سؤالٌ سرعان ما أنتج سؤالًا آخرًا احتربَت عليه الأفهامُ، وهو حاكمية الشريعة ومركزيتها. وأصالةُ ولادته ما أحدثَه المستعمر من مرجعياتٍ مزاحمة للشريعة والهوية الإسلامية، قام عليه سؤالٌ مستخبثٌ طبعه، يلعب على وَتر الاختلاف في تقرير الأحكام الشرعية ومن ثم الجدال في عبثيتها ومن ثم الخلاص إلى إلغائها! وذاك على قائمتين:
١.سؤالٌ في الكيفية التي لا تُجادِل في الأصل إلا إذا رمى نبلُها سؤالاتٍ محتملة شوّافة لأصول مرجعياتٍ أخرى مفارقة.
٢.سؤالٌ في الأصل الذي لا يُجادَل فيه إلا لإلغائه، مُجرِّدًا سُلطته ومُحقِّرًا لأحقيّته، وباطن مردّه إلى مقارنات ومفاضلات نابعة عن جلد الذات والانهزامية، فأصل هذا السؤال، وما شاكلَه، لا يحتجّ أصحابه بالاختلاف والخلاف في تقريراته للتباحث وحل الإشكالات الحاصلة، وإنما لإسقاط حجيةَ الشرع.
كما أنهم لا يوظّفون ثنائية الأصل والكيفية إلا مع الشريعة وحدها، وكثيرٌ من هذا يرحل وينزل في آخر مطافه إلى رؤىً عبثية تستسلم للنسبوية ومن ثم تحكيم الاقتصاد على القيم الأخلاقية والدينية. وما هذا مقام البسط لقضيةٍ شِعابها أوسع من هذا الزّقاق، لولا أنها تتقاطع مع مثارات سؤال: «أين الحق»؟ وكثُرَما هي نتاجٌ لموافقة المزاج الليبرالي والخطاب الإعلامي ومحرّكاته السياسية اليوم، سيما مع انفتاح الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي وما لعبته من دورٍ هدّامٍ ساهمَ في بناء عقليةٍ حداثية أعجمية لا تُحدّث واقعنا بقدر استلابه، وموفر عنايتها تكانُف ظنّة، وإجمال مبهم في طرحها هو أقل حنينًا إلى الصحة.
مأساة الإنسان المعاصر اليوم، في عمومه، أنه يفتقر إلى مرجعية راسخة تُحدد رؤيته للعالم والموقف من قضاياه، وكثير من شبابنا شُوِّهت قريحته بقوةٍ مفهومية جعلته يستقل بمعانيه وتصوراته التي لا تؤازرها إلا عقيدة رياحٍ شامِسة، وقوةٍ استدلالية جعلتِ العقل يستدل بأدلةٍ كلها تجريد مُسفِل. نيابةً عن رَسمِ «الحركات التشكيكية» وتكاثرها وانتشارها حتى على المستوى الأكاديمي، وامتداد التبنّي للمواقفِ الهشّة المُربكة من عين الفلسفات الوجودية ابتداءً بباروخ سبينوزا، ثم الحركة التنويرية في فرنسا بما يتزامنُ مع الثورة الفرنسية وقتالها مع المسيحية والسُلطة الكنيسية، وهذا خطٌّ لزيم جُغرافية تُزايلُ حدَّنا، لولا أنَّ تعميمَها ضربَ بقِدح ابن مُقبِل وأوسعَ مفازةً واستحواذًا على عقول بريِّةٍ شفَّتهمُ الحَيرة.
وعلى ذلك، فخيرٌ وكل الخيرة للمسلم أن يعيَ أن عقيدته حصنه التي تقيه من مُسارقة النظر إلى أفكارٍ تعقدُ له حبالَ الضَّيعات ويحسب منها كل صيحةٍ عليه، وأدْخلُ لذلك أن يضبطَ مصادر التلقي والمعرفة التي تؤازره في بناء تصورٍ صحيح تقوم له قوائم الفِكَر والتثبّت، وأن يشفعَ ذلك بلِزامٍ محمودٍ من بيئةٍ تقوّمهُ في بناء منظومةٍ يفيء إليها ضميره، وضامنٍ يحتكم إليها عقلاً ومقالاً وفعالًا، وذلك مِن شرايينٍ ثلاثة:
توحيد معرفة وإثبات، وتوحيد قصد وطلب، وموقف واضح من الأعداء.
تلكم ثلاث هي بمكانٍ جليل الأهمية، تُجملُ التأسيسَ الضروري، لا التعليل الكمالي، وبِدارك البِدار عليها؛ ففيها من نسج سرديةٍ عقديَة مدارها قلبٌ ركبِ قِدة الفضل، وعقلٌ احتكم لثِقاف زمن كائنة الإسلام، فلا يكون معها الخبط الحداثي والنَّفْض التشكيكي إلا إفلاسًا من الأثرة، وحِجاجه دمدمةً على ناتئ. والحذار الحذار من أن تعصرَ بك معميات تُنسيك أهمية التسليم، فالتسليم أولاً ومن ثم البحث عن الأحكام، لا خلافه، وإياك من أن تلحقَ بمن سُقوا من حِياض الحَيرة فلا هم الذين مضوا ولا الذين عادوا ولا الذين ثبتوا، وإياك من حبائل مفاضلاتِ الأنا والآخر، ففيها من الزور بالنفس عُقًّا؛ كالذي أسفّتْ به الغَيرةُ على دينه فجعلَ يستدلّ بمنجزات العلم الطبيعي على صحة دينه والقرآن المجيد، فهذا ومن شَكَلَ شَكله، قد شِيكَ عقله ولا ينتقش ما لم يعي أنّ الأصل يُستدلُّ به على الفرع، فقس على ذلك لئلا تقع على مائدةٍ شبعُها قصير، والزمْ عقيدتك، فقياسُ أدنى بأعلى، لا ضيعة بعدها ولا مذهبة لمسكة لُبك، والزمْ؛ ففساد الشيء يُغني عن تكلّف بدعته.