أشتات

موقف الإعلام الغربي من الحرب على غزة

مع تصاعد الأعمال العدوانية للكيان الصهيوني تجاه أبناء غزة، والانحياز الواضح للوسائل الإعلامية الغربية للكيان الصهيوني وروايته للأحداث، بَرزت أزمة الخطاب الإعلامي الغربي، في تقديم الحالة الإنسانية، والدِّفاع عن الإنسان وحقوقه، إزاء الانتهاك الواضح للجماعةِ الصُّهيونية للإنسانِ الغَّزاوي، والدَّعم المطلق والمنهجي للكيانِ الصُّهيوني، وتكريس التَّغطية الإعلامية بما يخدم الرواية الإسرائيلية في الحرب على عزة. ومن خلال البحث عن البواعث الحقيقية وراء هذه الأزمة، وقراءة النَّماذج المعرفية/ الكوزمولوجيا الإعلامية المنتجة للخطاب الإعلامي الغربي، نجد أنَّ هذه الأزمة ليست عارضة، بل هي نتيجة أزمة هيكلية ثَاوية في الرؤية المعرفية للإعلام الغربي؛  إنها أزمة الحداثة المتغلغلة في كافة مناحي الحياة للحضارة الغربيَّة، وهي نفسها المُهَيْكِلَة للخطابِ الإعلامي الغربي الخائن للمواثيق الأخلاقية ومبادئ الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، بغض النظر عن الجنس واللون والدِّين.

وفي هذا المقام، سنُحاول التَّطرق والوقوف على بعض الإشكاليات المتعلقة بالإعلام الغربي الخادم للكيان الصهيوني، وتورطها في تقدم صورة معكوسة مغايرة للمشاهدين، وإظهار الطَّرف الآخر- المقاومة في غزة – على أنه شكلٌ خارجٌ عن الديمقراطية الغربية، والإجماع البشريِّ، وتصويرها بأنها تمثل الشَّر والوحشية المدمرة للسَّلام العالمي، والترويج للانتهاكات الصهيونية وحروبها بأنها أخلاقية يقوم بها الكيان الصهيوني للقضاء على الشَّر نيابة عن العالم الغربي، وهي السِّمة الطَّاغية للخطابِ الإعلاميِّ الغربيِّ.

لـم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، مجرد يوم عادي في الخطاب الإعلامي الغربي، حيث سارعت القوى الغربية ووسائلها الإعلامية إلى إدانة عملية “طوفان الأقصى”،  وتشويه المعطيات المتعلقة بالأزمة، والانحياز الواضح لوجهة النظر الصهيونية في حق الدفاع عن نفسها بأي شكل وثمن. وقد حَفلت شبكات الإعلام الغربي في صناعة وترويج خطاب تبريري واستعطافي للشعوب الغربية بهدف دفعها للوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني، وتأييد أفعاله وجرائمه النازية التي سيقوم بها لاحقاً. وبهذا، نجد أن الخطاب الغربي سيأخذ بُعداً يتجاوز الحدود المألوفة لوظيفة الإعلام، والتركيز شبه حصراً على الروايات الشخصيّة ومعاناة المواطنين الإسرائيليين، والتغافل عن الانتهاكات الصارخة التي يقوم بها الكيان الصهيوني بحق أبناء غزة وحقوقهم الإنسانية، في أنسنة انتقائية وتجريد الطرف الآخر من إنسانيّته. وهي حالة معهودة للإعلام الغربي، اعتاد عليها المتابع للتغطيات الإعلامية السياسية الغربية، مع كل عِدوان للكياني الصهيوني في غزة، وبقية المناطق والدول اللاغربية.

لقد أظهرت التغطيات الإعلامية الغربية الانحياز المطلق، والانطلاق في تناولها للقضايا اللاغربية، من الأفكار والأنماط الجاهزة، والأحكام السلبية المسبقة والموروثة تاريخياً منذ قرون ماضية، والعمل لمصالح غربية استعمارية منذ أكثر من نصف قرن، ارتبط بقنوات رسمية ممتدّة من أجهزة المخابرات إلى السياسات الخارجية والمصالح الغربية المدفونة خارج حدود الدول الغربية. في صورة توحي بأنه لا علاقة للآلة الإعلامية بحسابات القيم والمبادئ والأخلاقيات والعلاقات الإنسانية كما يدّعي، وتوجيهه على أساس حسابات قائمة على المصالح التي تحدّدها له مراكز القرار والدراسات الصهيونية العالمية التي تمتلك القوة والإرادة، للسيطرة على العالم. وبهذا فقدت هذه المؤسّسات حياديتها ومهنيتها، وخالفت مبادئها، رغبة في تحقيق مصالحها ومطامع مموّليها. ومع كل هذه الأحداث التي تعيشها العديد من الدول في العالم بشكل عام، والمآسي التي يعيشها أبناء غزة على وجه الخصوص، نجد أن المؤسّسات الإعلامية الكبرى في العالم تعيش حالة من التَّلكن الغريب والمريب في موقفها تجاه هذه الحرب، بعد أن أشبعت جمهورها والعالم بأسره تنظيراتٍ وأحكاماً عن المعايير المهنية الصارمة، من نزاهة وموضوعية وحياد ودقة وتحقُّق من المعلومات قبل نشرها، وضرورة الالتزام بالمبادئ والمعايير الأخلاقية للعمل الإعلامي في تغطية الحروب والمآسي الإنسانية، وضرورة الوقوف مع الإنسان وقضيته.

مع بداية كل عدوان للكيان الصهيوني على أبناء غزة، تبرز لنا حقيقة مهمة، وهي: تبعية هذه الوسائل الإعلامية لمصالح السلطات الغربية وللتلمودية اليهودية بدرجة كبيرة، وتبنّيها للروايات الإسرائيلية الملفقة دون تحقق وتمحيص، والمساهمة في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وشيطنة مقاومتهم وتاريخهم ووجودهم، ومن ثم إنكار حقوقهم الإنسانية والمدنية، وتبرير الجرائم التي تُرتكب بحقّهم بما في ذلك جرائم الإبادة، بأنها دفاع عن الوجود، في محاولة فرض قراءات، وأفكار على الجمهور وتنَمِّيطَ سلوكه عبر التحفيز والتخويف، وهندسة استجابته والتلاعب بالعقل الجمعيّ للجمهور والرأي الغربي.

إن الحروب في العالم ليست شيئاً يُذكر من دون الآلـة الإعلامية، لهذا كانت جزء لا يتجزأ من الحروب في العالم، وتفاقم المآسي والأحداث التي تعيشها البشرية اليوم؛ لأن أكثر الوسائل الإعلامية لا تقوم بنشر الأخبار والأحداث فقط، وإنما تتعدى وظيفتها في قلب الأحدث، وتكليب الأطراف المتصارعة، والتلاعب بالمعلومات والحقائق بغية النَّيل والقضاء على الحركات المناهضة للسياسية الاستعمارية الغربية، أو بهدف زعزعت الأمن والاستقرار في المجتمعات، واشعال نيران الحروب في العالم بهدف تفكيك بنية المجتمعات للسيطرة عليها واستغلال غيابها بهدف فرض هيمنتها وتبرير وجودها فيها. ولهذا فإن استدامة الحرب في غزة، واستمرارها تصب في مصلحة الكثير من دول العالم الغربي، ومصالحها السياسية. ومن هنا كان التفسير لهذا التكالب الإعلامي الغربي على غزة، وترويج الحرب بهدف تحقيق الأرباح المالية التي تجنيها الكثير من الشركات المنتجة للسلاح، وفرض هيمنتها العسكرية، والقضاء على المقاومة، وإحكام السيطرة على فلسطين بالكامل من قبل اسرائيل وتنفيذ السياسيات الغربية في الشرق الأوسط، وتفتيت الوجود العربي، وهذا دليل على دور الإعلام في إثارات استمرارية الحروب والتبرير لها. وقد عمدت دول الغرب وعلى رأسها أمريكا على مر السنوات الماضية الى استخدام الدعاية الإعلامية للترويج لأفكار معينة للتأثير على الرأي العام، وهذه الآلة الإعلامية لا تقل أهمية عن آلة الحرب على أرض الواقع، فقد طغت التلمودية الإعلامية الصهيونية على هذا الجزء من الإعلام الذي تبنَّى أطروحاتها، مدافعًا عنها تارة ومسوغًا لأحداثها وجرائمها اللاأخلاقية تـارة أخرى، متجاهلًا بذلك السردية الحقيقية للقضية الفلسطينية، والمآسي الإنسانية وصور القتل الجماعي، وجرائم الإبادة بحق أبناء غزة من قِبل الجماعات الصهيونية، والتغافل عن حجم التقارير اللامتناهية حول الوضع المزري في غـزة.

يؤثر الإعلام في تفاعلنا وتوجهاتنا؟1 موقف الإعلام الغربي من الحرب على غزة

إن التفسير الواقعي لهذا الانحياز الكامل للآلة الإعلامية الغربية لصالح الراوية الإسرائيلية، يكشف عن تجذّر التمييز العنصري في الغرب ليصل إلى مرحلة يتجاوز فيها كونه سلوك يرتبط بحدث معين وينتهي، إنه سلوك ثَاوي في بنية الثقافة الغربية وفي طبيعتها التي لا تتقبل الآخر، الآخر إن كان عِرقاً أو لوناً أو حتى ثقافة. والمقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليست في نظر الإعلام الغربي إلا أحد وجوه هذا العداء الحضاري للغرب وقيمه وثقافته، الذي تنتمي إليه إسرائيل كما يتصوره،  لهذا كانت أي خسارة لإسرائيل هي خسارة للغرب. وهذا ما يفسر لنا شجب الإعلام الغربي ووقوفه الكَّامل مع الصهيونية وحروبه العدوانية على غزة؛ لأنها تقوم بالوظيفة الاستعمارية للدول الغربية على العالم العربي. وقد جاءت التغطية الإعلامية للهجمات البربرية الصهيونية على المدنيين بهذه الصورة المشوهة، وتجاهل المآسي الإنسانية، أكبر شاهد على العنصرية الحاكمة لهذه الوسائل، والانحياز الكامل والمستمر للمصالح المشتركة بينها وبين الكيان الصهيوني. وهذا التبرير للأفعال الاجرامية للكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين بكل بجاحة ووقاحة، يُنذر بخطورة كبيرة يمكن أن يقود إليها الإعلام الغربي الأحداث وتغير منطقها الفعلي، وهذا الفعل اللاأخلاقي ينذر بكارثة كبيرة وأضرار خطيرة تجاه شعب بالكامل، ويشرعن للكيان أفعاله وتقديمها بأنها واجب أخلاقي، وحق مشروع في الدفاع عن النّفس، في حادثة مزيفة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، وهنا يبرز تواطؤ الإعلاميين والمثقفين الغربيين مع الأقوياء والنافذين في عالم السياسة والاقتصاد.

من جهة أخرى، لا تستطيع الآلة الإعلامية الغربية الخروج من الخط التحريري الذي ترسمه الشركات المالكة لها؛ إذ تربطها بإسرائيل علاقات متشعبة وكبيرة في الكثير من المجالات. وهنا جاءت هذه الآلات الإعلامية منسجمة مع ما يطلبه مالكوه من دفاع مستميت عن إسرائيل وتجاهل وقح لمآسي الفلسطينيين، وفي هذا الموقف مغازلة وقحة للأقوياء وتبرير أفعالهم تجاه الشعوب المقهورة، والتقرُّب منهم والحرص على استجلاب الامتيازات والمنافع التي يجنيها من هذا التقرب، لينتمي بذلك إلى فئة “الواصلين” ويبتعد ما أمكن عن فئة “المنبوذين”، حسب تصنيف حنة آرندت.

إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أزاح الستار عن الوجه الحقيقي للإعلام الغربي، وتعاطية للمآسي والأزمات والاعتداءات الواقعة في العالم اللاغربي، في طريقة هي الأصل للحقيقية والموضوعية الزائفة لهذا الإعلام، وتغطيته للأحداث السياسية والأوضاع الإنسانية ومجرياتها وتطوراتها في كثير من البلدان، وفي غَـزة على وجه التحديد. وبهذا يكون الإعلام الغربيّ بأفعاله وسياسياته العنصرية في التغطية الإخبارية، مساهماً بدور كبير في تحريف الأوضـاع القائمة وتغيب الحقيقية والمآسي الإنسانية، وإعادة تشكيل الوعي الغّربي واللاغربي، والتحكّم بالمزاج العام في الدول الغربية والعالم.

إن المتتّبع للأحداث في قطاع عزة يستطيع أن يَعِي، أنَّ وسائل الإعلام الغربية قد استفادة من المفاهيم التي أقرَّ بها فلاسفة الأنوار وأصبحت واقعًا في المجتمعات الحديثة، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها حق تقرير المصير والحق في مقاومة الاحتلال اللذين أقرَّهما القانون الدولي في القرن العشرين. لكن الإعلام الغربي زيف المفاهيم، واستعملها بطريقة انتهج فيها سياسة الكيل بمكيالين، حيث يُقرُّ بها للبعض ويرفضها للبعض الآخر. وهذا ما ظهر جليًّا في العـدوان الصهيوني على غزو؛ إذ تعاملت وسائل الإعلام الغربية مع الحرب على غزة، وتقدمها بأنها “دفاعًا عن النفس”. ولذلك، تظهر إسرائيل في أكثر التقارير الصحفية الغربية بمظهر “الضحية المدافعة عن نفسها” أمام هجمات حركة المقاومة الفلسطينية، ومع إثر هذا الحادث المفصلي في تاريخ البشرية – طوفان الأقصى – نجحت الامبريالية الإعلامية الجديدة في إيجاد خطاب إعلامي مركب: خطاب ديني وسياسي وإيديولوجي غايته الأساسية استثارة الحد الأقصى من غريزة الخوف على المصير من جهة، وتجيش عواطف ابناء الشعوب الغربية، وتكليبها على دول العالم المخالف لها ثقافياً وعقدياً. من جهة ثانية، أظهرت الامبريالية الاعلامية عقيدة الاصطفاء والفرادة التي تحظى بها دولة الكيان الصهيوني لدى الدول الغربية، وهذا يعكس دورها ووظيفتها في تنفيذ سياسية الدول الغربية في العالم العربي والإسلامي، وفي الحالتين كان للبعد الديني والسياسي في الإعلام الغربي حضور بارزًا في تسيس الحرب على غزة. والمتابع لهذا الخطاب المركب وتداعياته يجد أن الإعلام الغربي قد استثار النزعتان اللاهوتية والإيديولوجية في شرعنة هذا العدوان. وهذا ما أوضحه الكثير من الخبراء في مجال العقيدة الصهيونية وبنيتها اللاهوتية بأنه لا يمكن النظر إلى حجم الفتك والتدمير والتخريب لكل مرافق الحياة في غزة، دون الالتفات إلى الأثر العميق للخلفيات الدينية والميول اليمينية المتطرفة التي تتبنها الجماعات الإسرائيلية، المعبّأة بالأيديولوجياَ الدينية على كراهية الفلسطينيين والعرب.

يرى النقاد أن وسائل الإعلام الغربية تميل إلى التأطير الانتقائي للأحداث في غزة في سلوك غير أخلاقي، ومنافي للموضوعية والحياد والاستقلال والأخلاق المهنية، التي أشبعت العالم في الحديث عنها في الفترات السابقة، لكن العدوان الصهيوني على غزة وما رافقه من مجازر وإبادة وحصار وتجويع بحق الفلسطينيين جاء ليجرف معه كل هذه معايير المهنية والحرية والموضوعية التي كثيراً ما تغنت بها هذه الإمبراطورية الإعلامية. ومع كل عدوان على غزة فإنها يتحول الإعلام إلى آلـة للدعاية والمنافحة والترويج للعدوان الاسرائيلي على غزة، والدفاع المستميت عنها، وإبراز نضالات الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال بصورة مزيفة، ووصفها بـأنه “إرهابًا وظلامية”، والعدوان الصهيوني بأنه “مقاومة للشر في العالم”، ولكل ما يقوض من القيم الديمقراطية ويهدد السلام العالمي، في مغالطة غير منطقية يسعى الإعلام الغربي فيها إلى قلب بوصلة الحقيقية. وهذا ما يعكس نمطاً مؤسفاً للإعلام الغربي في نشر معلومات مضلّلة، عوضاً عن القيام بواجبه الإعلامي بعناية وتقصي الحقائق، والدفاع عن حقوق الشعوب المقهورة. ويمكنُ تَتبُّعُ هذه المنهجية للإعلام وآثارها في صناعة كل من يخالف الدول الغربية ويعارض مصالحها، حيث يتم عرضه في صورة «الغريب الشيطانيّ» من خلال الآليات الإعلاميَّة، وتجريده من شرعيته. وهذا التجريد الذي تقوم به الآليات الإعلامية يكون عبر استخدام مضامين شديدة السلبيَّة تجاه المعارض، ووضعه في قوالب مرفوضة كليًّا من أعضاء الجماعة الداخليّة أي المجتمع الغربي، وهذا ما نجده في الإعلام الغربي، في تقديم المقاومة في غزة للجماهير بأنها جماعة إرهابية، وهي صورة نمطيَّة سلبيَّة مدعومة بثقافة سابقة تجاه الآخر اللاغربي، وبهذا نكون قد عرفنا كيف يساهم الإعلام الغربي بإخراج الآخر من كل معاملة إنسانيَّة.

إلى جانب الهندسة الاجتماعية التي تقوم بها وسائل الإعلام العربية في تزيف للحقيقية، وشيطنة المواقف الأخلاقية والإنسانية للمقاومة ضد الكيان الصهيوني والأنسنة الانتقائيّة للأحداث والمآسي الإنسانية في غزة، يغفل الإعلام الغربي باستمرار عن وضع العملية التي شنّتها حركة المقاومة في السابع من أكتوبر في سياق كافٍ. فعندما تصفها وسائل الإعلام الغربية بـ”الهجوم غير المبرّر/ الإرهابي”، تكون قد أغفلت عن 75 عاماً من الغزو الإسرائيلي لفلسطين و56 عاماً من الاحتلال العسكري ومعاناة الفلسطينيين تحت الكيان الإسرائيلي الغاصب للأرض والعرض. وهذا يدلل على الانتقائية التي يعتمد عليها الإعلام الغربي في تناوله للقضية الفلسطينية، وتغيب الخلفيّة التاريخيّة للمقاومة للكيان الصهيوني في العقل الغربي، للتلاعب به وتزيف منطقه في معرفة الوضع الحالي في غزة.

الإعلام الغربي من الحرب على غزة 2 01 موقف الإعلام الغربي من الحرب على غزة

إن دراسة تاريخ ظهور الصحافة ووسائل الإعلام المختلة يكشف لنا أنها كانت وسيلة استخدمها الاستعمار الغربي منذ زمن بعيد في السيطرة والتلاعب بالدول اللاغربية، وفرض نموذجها الثقافي والديني على بقية الشعوب؛ لهذا كان عملها اليوم في تغطية الأخبار والحرب في غزة بهذا الشكل إنعكاس للايديولوجيا الموجهة لها، وبما يخدم مصالحها في تغطية الأحداث، وقد تبنت الرواية الرسمية الاسرائيلية، والترويج لها وتضليل الشعوب الأوربية بما يخدم وجودها ومصالحها السياسية والاقتصادية مع الكيان الصهيوني ومصالحها الاستعمارية في دول الشرق الأوسط. لقد نجحت الامبراطورية الإعلامية الغربية في هندسة الوعي الغربي، والتلاعب بالمعلومات والحقائق وتزيفها، وإثارة مشاعر الجماهير الغربية بقصص مفبركة تهدف إلى تبرير الجرائم التى يرتكبها جيش الاحتلال الصهيونى ضد سُكَّان وأهالي قطاع غـزة. والعمل على تزيف الصورة بين من هو مقاوم ومن هو إرهابيّ؛ حتى باتت تنظيماتٌ مقاومةٌ ذات أهدافٍ ساميةٍ ونبيلةٍ تنظيماتٍ إرهابيّةً على القائمة السوداء لدولٍ غربيّةٍ، في حين أنّ جرائم القتل الإسرائيليّة غدت دفاعًا عن النّفس، والقتل اللامتناهي للأطفال وانتهاك حقوق الإنسان وكرامته بات عملًا حضاريًا لإشاعة الحريّة والديمقراطيّة. ولا شك أن هذه الظاهرة توحي بسيطرة اليهود على الكثير من الأجهزة الإعلامية العالمية، وكذا المؤسسات الدولية- وهو أمر لا يستطيع أحد إنكارَه؛ فهم يعملون ليلَ نهارَ لتحقيق هدفهم المنشود في السيطرة على العالم، واحتواءِ شعوبِهِ، والسيطرة على مقدراتها والتأثير في وعيها. ولقد خطط اليهود على مدى أجيال طويلة لتحسين صورة اليهوديِّ، ولم يجدوا وسيلة لذلك إلاَّ السيطرةَ على وسائل الإعلام العالمية.

إن السقوط الأخلاقي الفظيع للإمبراطورية الإعلامية الغربية، أمام ما تشهده غزّة من جرائم للإبادة وتشريد لهذا الشعب – المطالِب بحقوقه المشروعة- من طرفِ الكيان الصهيوني المحتلّ، يعيد بَعث الكثير من الأسئلة حول تَبعية هذه الإمبراطورية الإعلامية الغربية، وتعاطيها للمآسي الإنسانية بصورة مشوهة، والتغاضي عن جرائم الكيان الصهيوني بحق أبناء غزة. لهذا لا يمكن فهم طبيعية العمل لهذه الوسائل إلا من خلال ربطها بالنزعة الاستعمارية والاستعلائية للحضارة الغربية، فهي تعبير عن الشكل المتقدم للإمبريالية الغربية المفتوحة، وقد نجحت هذه الشبكة الإعلامية الهائلة أن تؤدي مهمتها الكبرى باتجاه تفكيك الحقائق، وتقديمها بالشكل والصورة التي يحقق لها مصالحها الذاتية.

لقد احتل الإعلام اليوم موقع الممارس الأكثر شراسة للعنف الرمزي في المجتمع الإسرائيلي، بل على مساحة العالم كله. وهنا نجد أن الإمبراطورية الإعلامية لا يتعلق عملها بالدفاع عن الحقوق، والكشف عن الحقائق أو الدفاع عن القضايا الأخلاقية، بل إنها تقصد بشكل منهجي ومعمق إعادة تشكيل الوعي الجماعي العالمي، وتكيفيه على نحو يناسب حاجاتها الإمبريالية/ الاستعمارية، وما يحقق لها السيطرة على قيادة العالم، لهذا تسعى وسائل الإعلام الغربية إلى التأسيس لحروب شاملة مفتوحة وإعطائها المسوغات الأخلاقية والثقافية والقانونية. لذا، فإنَّ الغرب عامةً والولايات المتحدة الأميركية خاصة قد نجحوا بالأخذ بناصية الظاهرة الإعلامية وجعلها القوة الأكثر سحراً في إنجاز عمليات الامتداد والسيطرة، وتبرير كافة جرائهم اللاأخلاقية بحق الشعوب النّامية، ودول العالم اللاغربي، في عملية سحرية قائمة على توظيف السلطة الإعلاميَّة في انتزاع الاعتراف وتبرير سياستها الوحشية تجاه بقية الشعوب، بالإكراه والتضليل، وذلك ما يسميه ناقدو السلطة الإعلامية بسياسية الإمبريالية الناعمة.

عند تحليل المنهجية التي يتبعها الإعلام الغربي في التعاطي مع العدوان الصهيوني على غزة، تتكشف لنا صورة التلازم والتداخل بين العقل الاستراتيجيّ/ الهيمنة الغربية على الآليات الإعلام والإرهاب، ومع التحليل الموضوعي للخطاب الإعلاميّ الغربيّ، يمكننا معرفة دور هذا الخطاب الإعلامي في تشكيل صورة متخيَّلة عن المقاومة، ورسمَ صورةٍ متوحِّشةٍ غيرَ قابلةٍ للتعايشِ معها أو مع كل من يؤيدها في خطاب واضح. وقد تبنت الكثير من وسائل الإعلام الغربية التصور الزائف للعدوان الإسرائيلي على غزة، بأقلام وأصوات وصور صناع الرأي والمثقفين والإعلاميين في الغرب؛ وبطريقة ظاهرة التناقض والتشويه والتجني على حركة المقاومة. وتعدّ ظاهرة التحوير للكثير من المآسي التي يعيشها أهالي غزة، من الظواهر الجلية للصهيونية التي اقترنت مع بروز الإمبريالية الإعلامية الغربية، وموجة العنصرية والكراهية ضد المنتمين للإسلام وثقافته، فهي صناعة إعلامية وبضاعة سياسية، تضافرت في بروزها مصالح سياسية، ومطامع اقتصادية، وعداوة عَلنية للإسلام وأبناءه، وقد أراد بها مروجوها والمشاركون فيها تشويه القضية الفلسطينية وتشويه القاعدة التي ينطلق منها أبناء المقاومة في مواجهة العدو، والسردية التاريخية التي تعزز من مقاومتهم لهذه الحركة الصهيونية، وهي تغطية غير عادلة، بل إنها عنصرية وصلت إلى نوع من التطرّف يشبه تطرف المستوطنين الإسرائيليين.

مع اليوم الأول للعدوان على غزة، بدأت الكثير من وسائل الإعلام الغربية في توليد موقف يخدم الكيان الإسرائيلي في الحرب، وإيجاد التبرير المناسب اجتماعيًّا للحرب على غزة، وهذا بدوره يكشف عن حجم التواطؤ القائم بين السياسيين والإعلام من جهة، والعلاقة بين مالكي هذه المؤسسات الإعلامية والإعلاميين العاملين فيها من جهة أخرى. وقد أضحت وسائل الإعلام الغربية أداة تلبي في الواقع طلباً اجتماعياً ضمنياً، وتقريراً عن مدى خطر المقاومة، وتذكية نيران هذه الحالة في نفوس المجتمعات الغربية. وتفسير هذا الموقف اللاأخلاقي للآلة الإعلامية الغربية، وموقفها من هذه الأحداث هو نتيجة حتميَّة للسياسة العدوانيَّة والإعلام المضلل الذي يحاول تسويق تلك السياسة الاستعمارية للدول الغربية؛ فهذا الإعلام يعتمد أساليب تقوم على التلاعب بالعقول وتشكيل صور ذهنيَّة تقوم على آليات متنوعة، منها: شخصنة المواقف والأحداث (personalization)، ومنها إضفاء الطابع الدرامي على المواقف والأحداث (Dramalization)، أو اعتماد آلية تجزئ المواقف والأحداث (Fragmentation)،أو اعتماد آلية تنميط المواقف والأحداث (Narmdizaation).

غزة

وتشكل هذه الآليات جزءًا من الوسائل التي تعتمد التضليل، وتشويه صورة الآخر، وهي من أشكال العنف الرمزيّ، بهدف تحقيق غايات سياسيَّة مقترنة بالمصالح الاقتصادية، وتشكيل بيئة شعبية مقتنعة بخطاب الدولة وتخويفها من العدو الآخر، وتسويغ التدخل في الحروب؛ وهذا ما فعلته الدول الغربية في تبرير موقفها مع الكيان الصهيوني في العدوان على غزة. وهذا ما دفع الكثير من المفكرين والفلاسفة في نقد المنهجية الإعلامية الحديثة، عندما أدرك الكثير منهم حجم التأثيرُ الأخطرُ للإعلام على الأبعاد النفسيَّة والاجتماعيَّة، والمساهمة في تشكيل الإدراك للواقع، وخلق واقعٍ مغايرٍ للواقع الحقيقي وبديلٍ منه. وإذا قلنا إنَّ الإنسانّ يتفاعل مع الواقع بحسب تصوره له؛ فإنَّ الجهة التي تشكل إدراك الإنسان اليوم للكثير من القضايا في العالم هي الآلة الإعلامي، وهذا سبب بروز الإعلام الغربي والاسرائيلي بصورة نشطة منذ بدء العدوان، واستهداف الجيش الاسرائيلي للقنوات الاعلامية، والصحفيين المعارضين لهذا العدوان.

بطبيعة الحال، لا يمكن فهم طبيعة الإعلام الغربي منهجياً بصورة منفصلة عن الإعلام الإسرائيلي، ذلك لأن هذا الأخير يشكل النموذج التطبيقي المباشر للرؤية اليهودية الأصلية المنشود في السيطرة على العالم، واحتواءِ شعوبِهِ، والسيطرة عليها وتحسين صورة اليهوديِّ في المخيال الغربي. ومن أجل ذلك فإن فهم الرؤية والبوصلة الموجهة للتغطية الاخبارية للحرب على غزة التي تبثها الوسائل الإعلامية الغربية، تستلزم وعياً للمرتكزات والمفاهيم التي استندت إليها تلك الوسائل، باعتبارها – أي المرتكزات – واحدة من الأدوات الأساسية المحددة لشكل الرسالة الإعلامية ومضمونها، والإطار الجامع لعناصر التعبئة الأيديولوجية، وبالتالي كانت هذه الأدوات هي المؤثرة في تحديد السياسات المتبعة، والأساليب المستخدمة في عملية توصيل تلك الأحداث والتلاعب بالحقائق بهدف تحقيق المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للكيان والغرب.

ختاماً:  إنّ التدميرَ الذي يطال غزّة هو- في الحقيقة- تدميرٌ للقيم المزيفة للحضارة الغربية، والكشف عن عدم فاعلية الحقوق الإنسانية التي تنادي بها الحضارة الغربية، وقيم التسامح والديمقراطية المزيفة، وتدميرٌ للثقة التي وضعها الغربيون أنفسهم في حضارتهم المساة الحضارة الإنسانية أو المتقدّمة، وتهشيمٌ الصورة التي ثَبتَت في مخيلة المجمعات الغربية واللاغربية عن العالم الغربي وقيمه، وزعزعة الثقة بمنظومة حقوق الإنسان التي يترنم بها الغرب.

كما أن السقوط الإعلامي الغربي في تغطية حدث بحجم حرب غزة بأبعاده الاستقطابية وتعدد زوايا مقاربته ليست إلا شاشة كبرى تَضَّخم فيها مفعول الخلل البنيوي في المشهد الإعلامي الغربي بشكل عام، وبخاصة ما يهم النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية ودينامية التركيز الرأسمالي التي ابتلعت مساحات الإنتاج الإعلامي الحر المعبر عن حقائق المجتمع وتوازنات النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للكثير من المجتمعات.

مع الأحداث والوقائع في التاريخ البشري نجد أنه لم تَعْظُم على البشرية اليوم مصيبة مثل مصيبة غزّة، التي جعلت العالم يستيقظ على دوي سقوط النموذج الحضاري والثقافي الغربيّ. وليس من المبالغة القول إنّ الغرب، مع مواقفه المخزية والتكالبية مما يحصل في غزة، لن يعود- كما كان- يرسم للكثير من شعوب العالم أفقَهم الفكريّ والأخلاقيّ. وكأنّني اليوم بلسان حال أميركا وأوروبا تقولان ما قالَه هانتغتون قبل عقدَين من الزّمن: “إنّ القيم التي نبشّر بها قيمٌ مخصوصة بنا، لا بغيرنا، قيم تنسحب أفضالُها علينا، لا على غيرنا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى