أشتات

مَن يُناظر الجاحظ؟

هذا مقالٌ كتبته قبل عام على خلفية إقامة بطولةٍ للمناظرات في كارابوك، إنَّ المناظرات اليوم تفقد هيبتها تِباعًا.. تذكرتُ الجاحظَ العظيم وأنا أرى معيار حُكْم المُحكّمين بين الفِرق المتناظرة، إن ولاء الحُكّاء لمعايير قطر بين يديهم ولاءٌ مُطلق، ستضيع المناظرات كما يتسربُ العلم من ذويها إن لم يتحقق مناظرو اليوم أنَّ ما يُقدّم لهم على أنه المناظرة، لا يعدو أن يكون تدريبًا وحسب، يفهمون منه أن المناظرة تحتاجُ لموقف وحجة ودليل، أما اتخاذُ الآلية توقيفيةً كهيئة الصلاة.. فلا شك أنَّ ذلك تسطيح للمناظرات، ولعبٌ بالجدالِ دون مقدرة حقيقية عليه، الجدالُ في الحقيقة فن اكتسابِ المعرفة لا ترديدها، ومجال امتحان العقل لا استعراضه.. والجدل ميدان أهلِ البلاغة لا مُتتبعي القوالب الجاهزة.

❃❃❃

يبدأُ الجاحظُ كِتابه الخالدَ بدعاءٍ قلبيٍ خالصٍ للقارئ، مُتحبباً بذلك إليه، مشيراً بالخوضِ معه لآخر صفحات الكتاب، مُنوِهاً بالمعامعِ الكلامية التي سَيقدُمُ بها الجاحظ في طيات كتابه، يشبه ذلك تلميحاً بأنَّ الجاحظ في صفِّ القارئ كيفما أراد، ولن يكون ضمن المتعاركين، ولن يصرِّح برأيه رغم احتدام الصراعِ أمامه، يفعل الجاحظ ذلك، مخفياً هزأه وعبثه بالقارئ، والانتقالَ به مما يريده لِما لا يريد، جاعلاً مِن القارئ شجرة في فلاة، تحرِكها رياح الجاحظ كيفما أرادت، ليُظهر هذا المتكلِّم الفذ، والمناظِر العبقري سطوته، لا على الحرف وحسب، إنما على القارئ ومرجعياته، وعلى الذهنِ المستقل المعتدِ بتحرر معتقداته، تصَّفح كتابه واصطحب قولي معك، تعي ما خلف قوله أول المسطور “جنَّبك الله الشبهة، وعصمكَ من الحيرة، وجعلَ بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدقِ سبباً، وحبَّب إليك التثبت، وزيَّن في عينك الإنصاف..”. إلى أن يقول “وطردَ عنكَ ذل اليأسِ وعرَّفكَ ما في الباطلِ من الذِّلة، وما في الجهلِ من القلة”

جنبك الله الشبهة، لأنه سيوردها عليك، وعصمك من الحيرة، لأنه يقذفك بها، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، لأنه قاطعك عنها، وحبَّبَ إليك التثبت وزيَّن في عينكَ الإنصاف: لأنه آتٍ لكَ بالزيغ لكل تثبُّتٍ معك، فلا إنصاف: إذ شبهات وحيرة وأباطيل تُزجُّ بها، ومن ثم يخدعك الخريتُ الذي اتكأت عليه…!

ومن ثم يأخذك بعتبٍ لطيف مراده منه أن يعرِض عناوين كتبه للقارئ، لتتفاجأ بعد ذلك بأنَّ مجرد العناوين مناظرات ومشادات كلامية، ما خاض كلها الجاحظ، وإنما وقفَ الموقف الذي أرادك أن تراه، موقفَ الناقلِ، لسانُ حاله: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! عدى أنَّ النكتة أنَّه كُلهم، وتحت عباءة العتب يقول: عبتني في كذا عبتني في كذا، يخرج بين الحين والآخر، معززاً نثره بالشعر، في إشارة لتعاضد النوابغ أهل العقول في كلِّ ما يذهب إليه، وما الاستشهادُ إلا حملُ جمعٍ في صورةِ الواحدِ على فردٍ سرعانَ ما يذوب أمام كثافة الاستشهاد وتعدد شخوصه، حتى ليحسب أنَّ جميعَ هؤلاء وَقفوا ضدّه وشدَّوا عليه، فَـكَرَّ على نفسه ورأيه: فذاب! هذا عملُ الجاحظ في كثرة محفوظه وحسن اقتطاعه وعذبِ استشهاده، واسمع صداه إذ قال: “وهل كنت في ذلك إلا كما قالَ الأعرابي: هل يضرُ السحاب نبح الكلاب. وإلا كما قالَ الشاعر:

هل يضرُّ البحرَ أمسى زاخِراً

أنْ رمى فيــه غُلامٌ بحَجر

وهل حالنا في ذلك إلا كما قالَ الشاعر:

ما ضرَّ تغلِبَ وائلٍ أهجوتَها

أم بُلتَ حيثُ تناطحَ البحرانِ!

وكما قال حسَّانُ بن ثابت:

ما أُبالي أنَبَّ بالحزنِ تيسٌ

أم لَحاني بظهرِ غيبٍ لئيمُ “

فيقفُ القارئ لا متجنباً شبهةً ولا معصوماً من حيرة، يرى نفسه فرداً أمام الجاحظِ، والأعرابي، وشاعرٍ وشاعرٍ وآخر! ولأن عداوة الشعراء بئس المقتنى، يرجعُ القارئُ طوعَ أمر الجاحظ مرةً أخرى.. ولأن الجاحظ عالمٌ بسريع تقلبات القارئ، يشدُّ عليه، يقول: “وقد يُقال: إن العفوَ يُفسِد من اللئيمِ بقدرِ إصلاحه من الكريم، وقد قال الشاعر:

والعفو عن كريمِ القومِ موعظةٌ

وبعضه لِسفيهِ القومِ تدريبُ!

فإن كُنَّا أسأنا في هذا التقريعِ والتوقيف، فالذي لم يأخذ فينا بحكم القرآن ولا بأدبِ الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يفزع إلى ما في الفِطَن الصحيحة، وإلى ما توجبه المقاييسُ المطرِدة، والأمثالُ المضروبة، والأشعارُ السائرة، أولى بالإساءةِ وأحقُّ باللائمة…”

فييأسُ القارئُ بعد ذلك إلا مِن الإذعان، وإذا رجعتَ إلى دعاءِ الجاحظِ المخلص، تذكرت قوله: “طردَ عنكَ ذل اليأسِ وعرَّفكَ ما في الباطلِ من الذِّلة، وما في الجهلِ من القلة” وإذا أمعنتَ النظر، رأيت الجاحظ تبدو نواجذه من الضحك..

❃❃❃

ليس الذي ذكرتُ إلا لمحة من مقدمة الجاحظ في كتابه الحيوان، وكما يظهر.. العنوان بسيط، وقد حوت كتب التراث عناوين مشابهة، على قدرٍ من البراءة.. تكلَّمت عن الحيوان بإخلاص(1)، أما حيوان الجاحظ.. فناضجُ الخبث، حرب موشّاة، يُسعرها الجاحظ بوتيرة متزنة، وما يفوته أن يوسَّع عليك باستطراد لطيف، أو بقوله: الخروج من الجدِّ إلى الهزلِ لأمرٍ هو من الجدِّ لا يكون هزلاً. يذكِّركَ بذلك أنكَ هزلاً وجِدّاً ما زلت في كتابه، تحت سطوته! ومجرد التفكيرِ بنقضِ قولٍ أو فكرة، يُجابهك بجيشٍ من الأعراب والشعراء والحكماء: وسيلٍ من الشعر، وربما الآياتِ والأحاديث وعمل الفقهاء، فإذا اطمأننت لذلك، أي للفكرةِ التي استشهدَ عليها: شدَّ عليكَ فهدَّ ما اطمأننتَ إليه؛ مشيراً للسطوة مرةً أخرى، يهمس فشنِّف أُذنك -كأنه يقول: ما ينقضُ قولَ الجاحظِ إلا جاحظٌ مثله!

الهوامش:

  1. العالم الأديب، والفقيه الشافعي كمال الدين محمد بن موسى الدميري تـ 808 هـ له كتاب جامع في حياة الحيوان، جُمع في عدة مجلدات تحت عنوان: حياةُ الحيوان الكُبرى، وآخر اسمه “حياة الحيوان الصُغرى”. والكتابان بُنيا على نهج علمي عزيز غير معروف في ذاك العصر، وقد أفاد علماء اليوم أيما إفادة مما جمعه وتتبعه العلامة كمال الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى